لغة وأدب

برنامج تعليم العربية: قوة بين أيدينا!

Print Friendly, PDF & Email

برنامج تعليم العربية: قوة بين أيدينا!

هذا البرنامج ذكي للغاية، ناعم لأبعد الحدود، وثماره يانعة دانية بما يشبه اليقين؛ فغالب الدروب له متاحة، وأكثر الأماكن لمثله مشتاقة، وقد استثمر برنامجنا الجغرافيا مع التاريخ، والتقنية إضافة إلى خلاصات خبرات الآخرين، وبنى ثقته على توافر أصحاب الاختصاص ومن يرفدهم من أهل الإخلاص، ومضى بعزم راسخ بعد أن رمق بعين نافذة الفراغ الكبير مع مسيس الحاجة، وشديد الإقبال المتوقع بناء على مشتركات أو مصالح.

ففكر البرنامج وقدر، ثمّ أجاد الضبط والتدبير، وأحسن البناء والتمهيد، وبدأ متوكلًا على المولى يخطو في ميدان فسيح حتى وإن تكاثرت العقبات، أو توالى على التخويف منه فئام لأسباب متوهمة أو مختلقة، تحاول إعاقة مضاء مشروعات أطبق البصراء العارفون على أهميتها البالغة، ونتيجتها المضمونة، وها هو اليوم بعد سنوات قصيرة يشمخ بنسخته الثالثة في سماء العالم، ويشتد عوده صلابة ومتانة، ويزداد وهجه ونوره حتى تدافع له الناس القريب منهم والنائي، وكلهم يطلب القرب والتقارب والوصال بنسب أو سبب.

ومع أن برنامج العربية على الانترنت قد أطلقته الجامعة السعودية الإلكترونية عام (1437) في زمن مديرها الأول وصاحب الفكرة أ.د.عبدالله الموسى، إلّا أن مسيرته في الإنجاز مذهلة، وله اليوم شراكات مع أزيد من مئة مؤسسة تعليمية وجامعة حول العالم، وبلغ عدد الدارسين فيه اثنين وعشرين ألف طالب وطالبة، ينتمون إلى مئة وخمسة وأربعين بلدًا تقع في جميع قارات العالم، وهم من الناطقين بلغات كثيرة إسلامية وعالمية ومحلية. ولم تكتف الجامعة بالسبق في هذا الروض الأنف؛ بل أطلقت أول اختبار معياري لقياس الكفاية اللغوية في أكثر من خمسة آلاف مركز منتشرة في أصقاع العالم، ولذلك يحظى هذا البرنامج بمساندة من ولاة الأمر ووزير التعليم كما ذكرت رئيسة الجامعة أ.د.ليلك بنت أحمد الصفدي في كلمة حديثة لها احتفاء باليوم العالمي للغة العربية.

كما يعتمد البرنامج على التعليم الذاتي والمدمج في الفصول الافتراضية، ويحتوي منذ بدأ على (796) فيديو تفاعلي، و(12000) ملف صوتي، و(6320) صورة تعليمية، و(10076) تدريبًا تعليميًا، وكل ذلك في ستة عشر مستوى مقسمة إلى ست مراحل، إذ يبدأ المتعلم باختبار تحديد المستوى، وينتهي باختبار العربية المعياري لقياس كفايته اللغوية، ويكمل الدارسون البرنامج بعد أربعة عشر شهرًا من الدراسة طبقًا لتصريح المشرف السابق عليه د.حسن الشمراني، ولربما أن أعداد المواد التعليمية الخاصة بالبرنامج قد ارتفعت الآن عمّا كانت فيما سلف بجهود القائمين عليه بإشراف د.أسماء الحمادي، وسيظل هذا البرنامج الفريد محتفظًا بأسماء قامات أسهمت فيه بفعالية مشهودة، ونصبت لأجله بكفاءة ظاهرة، منهم على سبيل المثال د.محمد الربيع، و د.صالح النصار، ود.فهد العليان، و د.عبدالمحسن العقيلي المشرف الأول على البرنامج، وشارك فيه فيما بعد آخرون من أساتذة اللغة واللغويات التطبيقية والتقنية والتعليم وغيرهم.

إن اللغة جزء من متطلبات تحقيق الأمن القومي، ومن سمات الأمن القومي أنه عابر للحدود، وما أحسن عبوره فوق سفينة التعليم بما له من جلال وجمال وكمال. وإن اللغة اقتصاد، ومن طبائع الاقتصاد البحث عن الفرص ولو كانت في شعف الجبال، ومسارات الأدوية، ومهامه الصحراء، فكيف بها وهي فرصة سانحة في متناول اليد حسبما قال رئيس الوزراء البريطانيجوردون براونعندما كان وزيرًا للمالية في بلاده: إن بريطانيا يمكنها أن تحقق التوازن التجاري لوارداتها المتزايدة من الأجهزة والأزياء والبضائع العينية الأخرى بتصدير شيء واحد هو اللغة الإنجليزية!

وإن اللغة ثقافة وحضارة؛ إذ أنها أحد أركان ثقافة أيّ بلد وحضارة أيّ أمة، والناس ينظرون بإكبار لمن يصون لغته ويرفص انتقاصها، حتى شاع أن التحدث مع الألماني بالإنجليزية يغضبه فيجيب بلغةجوته، وتعاقب فرنسا من يستخدم من الفرنسيين مفردة أجنبية وفي لغتهم ما يقابلها. ولا يتكاثر في اليابان أو الصين مثلًا من يتحدث بغير لسان قومه، وهم من هم في الصناعة واقتحام الأسواق، فواعجبًا ممن يعلم ذلك كيف يهبط بلغته هبوطًا شديدًا؛ فيصل بها إلى قاع سحيق أو يكاد من التهوين والتكسير والعجمة، وحقها أن تتطلع إليها في عليائها الأعناق!

كذلك يقول الخبر: إن أكثر الفائزين بجائزة نوبل في العلوم والطب قد درسوا وتعلموا بلغات بلدانهم الأصلية، ويشارك كثير من الباحثين في عضوية فرق بحثية تطبيقية، ويترجمون الأبحاث الرصينة إلى لغاتهم الفارسية والتركية والعبرية، ولا تجد في مقابل هذا الخبر الأكيد تفسيرًا مقنعًا لإصرار بعضنا على تدريس أبناء العرب الخلّصوكل من فتق لسانه بالعربية فهو عربيبلغة أجنبية غريبة، وها هي النتيجة بادية؛ فأين مخرجات هذا التعليم الأجنبي في طول بلدان العالم العربي وعرضها خلال قرن؟ وأين آثارهم العلمية والعملية؟ ودع عنك النوادر من النوابغ؛ ولذلك فما أنسب أن يُساق في هذا الموضع تأكيد عالم الاقتصاد الأمريكيروبرت لولوابأن التعليم باللغة الأصلية استثمار طويل الأجل، وهي حكمة اقتنصتها دول كثيرة تدرس بلغاتها الصعبة أو الميتة مثل الكورية، والصينية، والعبرية.

ثمّ إن في اللغة جوانب سياسية ظاهرة، حتى أن الناس يتناقلون منبهرين رواياتبغض النظر عن الموقف من أبطالهامنها أن زعيمًا يهوديًا خاطب الكونجرس الأمريكي بالعبرية مع أنه يحسن الإنكليزية، وفوق ذلك فأمريكا حامية بلاده وولية أنعامها، بيد أنه زاغ عما يهين ثقافته أو يزري بقومه. ومثله الخامنئي مرشد إيران الذي يجيد العربية لكنه لا يتكلم بها، وشيراك الذي يصر على حضور المترجمين في أيّ لقاء له مع زعيم أمريكي أو بريطاني مع أنه فصيح بالإنجليزية، وقد قاطع مؤتمرًا دوليًا ولم تمنعه من ذلك كياسة أو دبلوماسية، وخرج مغضبًا حنقًا أمام الناس عندما تكلم رجل فرنسي بلغة أجنبية في ذلكم المؤتمر، بينما تعاني العربية في مرابعها وبين بنيها وأهلها، والعناء ممن يرطن بغريب اللغى فوق الأرض العربية، ويهجر ابنة عدنان الألقة الجميلة!

وقد حرصت دول احتلال وحروب على فرض لغاتها التي لا يتحدث بها سوى عشرات الملايين؛ فصارت من اللغات التي ينطق بها مئات الملايين، والمثال واضح في لغات البرتغال وفرنسا وإسبانيا وروسيا، ودونهم لغات إيطاليا وألمانيا، وهي ألسن سطت على لغات أهل بلاد كثيرة بقوة الجبر والسلاح وإفساد التعليم، وهو مالم تفعله العربية التي انسابت مع دين الإسلام، وخالطت نفوس أهل البلاد المنضوية تحت لواء الفتح الإسلامي دون أن تقضي على لغاتهم بالقوة، فمنها ما بقي، ومنها ما توارى أو اضمحل، وفيها من وهبتها العربية حروفها وكثيرًا من كلماتها.

فشكرًا لجامعتنا الإلكترونية التي يصفها د.حامد الوردة محقًا بأنهاجامعة وطن، على هذا البرنامج المفيد لثقافتنا، واقتصادنا، وسياحتنا، وإعلامنا، والجالب للمؤيدين، الجاذب للنابهين، الطارد للشانئين؛ كي يكون الدارسون فيه من محبي البلاد وأهلها، ومن الحريصين على زيارتها وتبني رؤاها، المتبعين لمنهجها وخطاها وخطابها. وليت أن الجامعة تبتكر برامج رديفة على غرار برنامج جامعة أيوا لتعليم الكتابة؛ كي يكون من روافد هذا البرنامج العظيم المرتبط بلغة شاء الله أن تنبع وتزدهر في أرضنا، ثمّ يكون ختام الرسالات السماوية بنبي عربي، وآيته الخالدة كتاب محفوظ بلسان عربي مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

ليلة الأحد غرة شهرِ جمادى الآخرة عام 1444

25 من شهر ديسمبر عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

  1. بعض مقالات الآخرين؛ حين نقرأها نصاب معها بجفاف لا تعبر ولا تُعبر بل تكون غصّة!
    لكن مقالتك اليوم عبارة عن مقطوعة شاعرية متدفقة تنساب بأريحية بالغة النعومة، فيها ضرامة المشاعر المنسكبة التي تشتاق أن تلتقي بالمصب الذي لن يتكرر!
    هل نقع في غرام وصفك لمحبوبتك العربية!! أم هوى لغتك الشاعرية! أم في تميز جامعة الوطن بعربيتها!
    جميل أن تكون المخرجات اللغوية والثقافية تتواءم مع مدخلات الزمن التقني، والأجمل من ذلك كله تجسير المسافة بين المتعلمين والعالم الرقمي، واتباع منهجية جادة في التحول والمواكبة، عابر للحدود، وما أحسن عبوره فوقه بما له من جلال وجمال وكمال!!
    يا لبديع هذه المقالة الفذّة المتقدة بحرارة الصبا نحو اللغة، شكرا لهولاء الخبراء والخبيرات تحت ظلهم أصبح للوسائط التعليمية الرقمية صوتًا وصيتًا و صورة ووجودًا، فبفضلهم تستعيد اللغة مبانيها ومعانيها ونصاعتها وجمالها، و فخرا أن تجد الأجيال الجديدة نفسها أمام هذا البرنامج المفيد لثقافتنا،
    مقاله فيها امتلاءٍ جمالي، شحنت روحي بالاعتزاز والحب والتجذر بالانتماء، إني بعد مقالتك هذه، أطلب القرب مثل كل الناس الذين كما ذكرت ..كلهم يطلب القرب والتقارب والوصال بنسب أو سبب!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)