سير وأعلام عرض كتاب

توقيع من عبدالله العلي النعيم

Print Friendly, PDF & Email

توقيع من عبدالله العلي النعيم

“بتوقيعي: حكايات من بقايا السيرة” هو عنوان السيرة الذاتية التي ألفها عبدالله العلي النعيم، وصدرت الطبعة الأولى منها حسبما هو مدوّن عليها عام (1442=2020م)، وتقع في (254) صفحة مكونة من إهداء وامتنان وتقديم، ثمّ سبعة فصول فملحق فيه تكريم وأوسمة ووثائق وصور، وعلى غلافه الأمامي صورة أبي علي وبيده القلم، وعلى جانبيه الماء والشاي، وهي صورة تحكي جوانب عمليّة بعيدة عن الأبهة.

تكمل هذه السيرة كما قال د.إبراهيم بن عبدالرحمن التركي في تقديمه الكتابَ الذي سبقه بعشرين عامًا عن سيرة معالي الشيخ عبدالله النعيم وفلسفته الإدارية، فالكتاب الأول سيرة غيرية من تأليف د.إبراهيم التركي بعنوان “الإدارة بالإرادة”، وهذا الكتاب الثاني سيرة ذاتية فيها روح صاحبها وأسلوبه بالطرافة المعهودة عنه، والعملان معًا يضطلعان بمهمة التعريف بأبي علي من جميع جوانبه التعليمية والإدارية والمجتمعية والأسرية.

ينتمي معالي الشيخ عبدالله العلي الصالح النعيم (1350-0000) إلى أسرة الخويطر التي تعود إلى قبيلة بني خالد، وابتدأ حياته متعلّمًا في كتّاب الشيخ عبدالعزيز الدامغ، ثمّ طالبًا في مدرسة المربي صالح بن صالح المعلّم الأشهر لمعظم أجيال عنيزة آنذاك، وفي تلك المدرسة تعلموا ولعبوا الرياضة بكرة جلبها ابن صالح من البحرين، كما نشطوا على خشبات المسرح بالمعنى الحقيقي للمسرح الذي ينبت الوعي ويغذي الفكر، ولا يكتفي باللهو أو تضييع العمر.

ثمّ بسبب عجز الوزارة عن فتح الصف السادس لهم في المدرسة توجه مع بعض رفاقه لطلب العلم عند عالم عنيزة وحبرها الأبرز الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، فحفظ بلوغ المرام ونال مئة ريال جائزة على ذلك، وحاول ممارسة التجارة أو العمل في عنيزة ومكة والشرقية فلم يفلح بسبب نومه المتكرر في محطة الوقود إلى أن احتضنه بلديّه الثري الكبير الشيخ سليمان العليان في عمل بإحدى شركاته ضمن مشروع إنشاء خط الأنابيب، وبعد كدٍّ وعيش في الصحراء جمع أربعمئة ريال عاد بها لمسقط رأسه، وأعطى المال لأبيه واقترن بزوجته حصة الصالح الراجحي (أم علي)، وعمل أستاذًا في المدرسة العزيزية بعد أن اختبرته لجنة مرتين بسبب رسوبه في المحاولة الأولى وهو لا يزال في بداية حياته الزوجيّة.

وفي المدرسة شاكسه الطلبة بالحصى وحرف الواو المعكوسة وبيع العيش؛ بيد أنه تحمّل هذا الشغب منهم مما يدل على نفس رضيّة، واسعة الأفق، رخيّة البال، يصعب أن تُستزل أو تُستنزل من علياء السمو الخلقي، وتلك سجيّة ظلت مترافقة مع الرجل الذي قدر له أن يعمل في مصالح الناس ويواجه مشكلاتهم عبر بابه المفتوح في وظائفه الرسمية وأنشطته التطوعية، لدرجة أنه أجاب على من خوّفه من مغبة التعلّق بعنقه في يوم القيامة بأنه لن يجد موضعًا! ويا ربِّ سلّمنا وسلّمه ومن يقرأ بعفوك ثمّ بحسن الأداء أو بسرعة القضاء، واجعل هذه الصبغة المحببة سمة فيمن يتعرض للشأن العام بعيدًا عن العبوس والغلظة.

كما حدثت له إبان مزاولته لمهنة التعليم بعنيزة إشكالات متنوعة أشار لها في الكتاب دونما توسع أو إسهاب، وعلى إثرها تقرر أن يُغادر مدينته إلى جدة، ولربما أن هذا القضاء الذي تكرهه النفس حال وقوعه خاصة حينما يكون بلا جناية أو ذنب، أو يتضمن الإقصاء عن مغاني الصبا ومجامع الأهل والخلان، يخفي وراءه من الخيرات ما لا يمكن تصوره حين وقوعه، وأسرار أقدار العليم الحكيم خفيّة لا تدركها عقول البشر، وعصيّة على الاستشراف والتحليل.

أما خلال وجوده في بلدته فقد شارك في افتتاح النادي الثقافي الأول فيها، وأنشأ مع رفاقه المكتبة الأولى في عنيزة وفي جوارها النجدي، وأقاموا مدرسة مجانيّة لتعليم الكبار ومقاومة الأميّة من تلقاء أنفسهم، وإن المبادرة، وتحمّل المسؤولية، وخدمة المجتمع، لمن دلائل النضج المبكر، وما أحوجنا للمبادِر شريطة أن يكون أهلًا لحمل المسؤولية، وأن ترنو غاياته صوب المصالح المشتركة دون خبايا فردية أو فئوية؛ ولذلك استقبلته الحشود في المطار بعد عودته من أول غيبة عن بلدته الجميلة عنيزة باحتفاء وسرور.

بينما يظهر جليًّا في المسيرة جديّة الرجل، وعزيمته الصلبة، وجرأته المحمودة، سواء في التعليم الذي حصلّه على كبر حتى بلغ أعتاب الدكتوراه لولا أن رائحة الغاز اجتذبته لمدة شهرين امتدا إلى أربعين عامًا لم تكن في الحسبان حتى أخبره الدنماركي أن من يشم الغاز يصعب عليه تركه! ثمّ مرورًا بجميع الأجهزة الحكومية والشركات الخدمية التي عمل بها إلى أن ختم سجلّه الوظيفي في أمانة الرياض بطلب تقاعد استثنائي يوقع عليه أمير ووزير، ويصدر به أمر ملكي فريد، ويُذاع ست مرات متتاليات خلافًا للمعتاد مع المراتب الوظيفية العليا.

كما تحفظ سيرة معاليه مواقف ملكية جميلة؛ منها أنه حضر مناسبة عشاء عند الملك خالد، وجلس قريبًا من الملك الذي سأل الله أن يُنزل المطر، والغيث كلّه بركة هذا غير ما عُرف عن الملك خالد من حبٍّ للمطر والربيع، فقال أبو علي بعفوية: الله يستر! فتعجب الملك من رده واستفهم منه عمّا يقول وعن تفسيره؛ ثم ّكرر الملك الدعاء بأن ينزل الله المطر وتخرب شوارع أبي علي!

كذلك اقترح عليه الملك فهد تغيير أشجار النخيل المغروسة على أرصفة الشوارع بأخرى أجمل منها، فقال أمين العاصمة: الشجرة المقترحة تحتاج لبرودة أجواء وعذوبة ماء وهو ما لا يتوافر في الرياض؛ ولذا فسوف تموت هذه الأشجار ولن تصمد، وحين خرجا يمشيان في مواقف الديوان الملكي أراه الملك فهد شجرة من الصنف المقترح، وقال له: ها هي الشجرة ضخمة نضرة لم يلحقها البِلى ولا الذبول!

فقال الشيخ بتلقائية: لأنها تشرب سمن! وحين استوضح منه الملك عن معنى جوابه الغريب، أخبره أبو علي بأن الماء الذي تُسقى منه تلك الشجرة الديوانية عذب، والمواقف كثيرة تحجب حرارة الشمس وتجلب الظلّ وتبرد الجو، فلا وجه للمقارنة بينها وبين أرصفة تقع في عراء لاهب، وتُسقى من مياه الصرف الصحي، وحينها علّق الملك على جواب النعيم الصريح بقوله: ما فيك حيلة!

ومما جاء في السيرة أن معالي د.عبدالعزيز الخويطر رفض تصحيح نتيجة الامتحان الجامعي للنعيم مع أنه مستحق للدرجة الكاملة؛ وذلك دفعًا لأيّ شك قد يُثار عن الجامعة، ومنها أخبار انتقاء مواقع ثلاث جامعات في الرياض وما جرى فيها من مواقف إدارية ورؤى مستقبلية، وفيها نماذج من أعمال بناته التطوعية التي تُحمد لهنّ ولمن رباهنّ، ولا يخفي توقيع أبي علي وفاءه لوالديه ولزوجته الراحلة ولأعمامه وخؤولته، ويرسم قلمه صورة بهيّة عن علاقاته الودودة مع أسرته الممتدة، ومع شقيقه وأجيالهم من الأبناء والأحفاد، والله ينعم عليهم بالمودة، ويديم بينهم التماسك والألفة.

ولا تفوت الطرفة على معاليه؛ ويبدو لي أنها تجري على لسانه طريّة دونما تكلّف ولذلك تزداد حلاوتها، فمن طرائف السيرة أنه أجبر طلاب معهد المعلمين على دخول الامتحان بعد أن انهال عليهم ضربًا بالعقال، وأصبح مديرًا لإدارة التعليم مع أنه يومها لا يحمل حتى الشهادة الابتدائية، واكتشف كسل أحد موظفيه فسحبه من أذنه؛ ونزل به من ثلاثة طوابق إلى البوابة الخارجية، ورماه خارج المبنى وهي أغرب طريقة في اتخاذ قرار فصل من العمل يجمع ألمًا معنويًا وحسيًا!

أيضًا من طرف مسيرته المكتوبة بتوقيعه إجاباته على نساء متصلات ببرنامج تلفزيوني استضافه، فتعهد أمام المشاهدين “بمصع” آذان المقاولين المتخاذلين، ووعد بسرعة إحضار عمّال نظافة مثل الجراد الأصفر، ولم يغب عن بداهة الصحف اغتنام الفرصة لاقتباس مادة مفيدة من إجاباته واستعمالها في رسوماتها الضاحكة! ومن الطريف المعبر التضامن الكبير مع الشيخ محمد الفريح بعد فصله من العمل الحكومي حتى صار فصله نعمة عليه.

أمتع الله برجل الدولة وابن عنيزة البار معالي الشيخ عبدالله العلي النعيم، الذي تقاسم الكنية التي أشتهر بها (أبو علي) مع صديقه معالي الشيخ محمد العلي أبا الخيل (1351-0000)، وعسى أن تكون الصداقة والقواسم المشتركة والروايات الواردة عنه في سيرة النعيم من الدوافع التي تجعل الشيخ أبا الخيل يشرع في تدوين سيرته ونشرها قريبًا؛ فمما لا ريب فيه أن توقيعات وزير المال والاقتصاد ستكون لافتة!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الجمعة 17 من شهرِ ذي الحجة عام 1441

07 من شهر أغسطس عام 2020م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)