سير وأعلام عرض كتاب

هشام ناظر في سيرة تُروى

Print Friendly, PDF & Email

هشام ناظر في سيرة تُروى

كتبت فيما مضى عن ثلاثة وزراء تولوا وزارة البترول التي تُعرف الآن بوزارة الطاقة، وهم وزيرها الأول الشيخ عبدالله الحمود الطريقي، والوزير الثاني الراحل قريبًا الشيخ أحمد زكي يماني، ثمّ استعرضت السيرة الذاتية المنشورة لوزيرها الرابع المهندس علي النعيمي، ولم أتشجع لقراءة سيرة وزير البترول الثالث لكبر حجمها. وقد حفزه لسرد ثمّ نشر تلك السيرة موقف في مطار القاهرة مجتزأٌ من سياقه، ولاشك أن الإجراءات في زمن الاضطراب وخلخلة الأمن ترتبك كثيرًا، وإعلام المقاطع القصيرة لا يرحم الحقيقة؛ وإنما يبتغي الإثارة تمامًا مثل الإعلام الطويل.

بيد أني استمتعت كثيرًا حينما قرأت سيرة الوزير الثالث في كتاب بعنوان: هشام ناظر سيرة لم تُرْوَ (1932-2015)، تأليف: تركي الدخيل، الذي صدرت طبعته الأولى عن دار مدارك عام (2016م)، ويقع في (496) صفحة، ويشتمل على مقدمة، وعشرة فصول تتوزع عليها الصور، فذاكرة الكتاب يعقبها فهرسان أحدهما للأعلام والثاني للأماكن، ووجود هذه الكشّافات في الكتب يخدمها وينفع القارئ والباحث. وتسيطر على الغلاف الأمامي للكتاب صورة هادئة للوزير، أما غلافه الخلفي ففيه مقتطفات من النص.

ذكر المؤلف في مقدمته الطويلة أن هذا الكتاب مزيج من أماليَ وسيرة ذاتية وسيرة غيرية، وأنه استمر في العمل عليه لأكثر من سنتين، بعد أن سجّل مع راويها أزيد من ثمانين ساعة صوتية، ودفعه لهذا العمل دوافع قيمية وأخلاقية تأبى اختزال الرجل في موقف مبتور لا يُفهم على وجهه الصحيح دون إيراد سياقه الكامل، وتلك علّة مزمنة في الإعلام ووسائله. ومن دوافعه دافع مهني لإنسان شغوف بالتوثيق من خلال السماع، والبرامج الحوارية، واللقاءات، ودار النشر.

ولد هشام بن محيي الدين ناظر (1351-1437) بجدة في 29 ربيع الآخر سنة (1351) الذي يوافق 31 أغسطس عام (1932م)، أي قبل توحيد المملكة بأقلّ من شهر. ودرس في مدارس الفلاح بجدّة، إضافة إلى تعليم منزلي خاص، وأكمل الدراسة في كلية فيكتوريا بمصر، ثمّ في جامعة كاليفورينا بأمريكا. وفي مسيرته التعليمية نلاحظ أنه التحق بمؤسسات شهيرة متميزة، وأحبها لنفسه سنواته الستّ التي قضاها في كلية فيكتوريا، وهو تفضيل يتشارك فيه مع الحسين ملك الأردن الذي درس في الكلية ذاتها. ويبدو أن هذا التفضيل يعود لبيئة الكلية، ومناهجها، وأساتذتها، ونوعية زملاء الدراسة.

بعد تخرجه عمل في مديرية الزيت، ثمّ في وزارة البترول مع الشيخ الطريقي، فوكيلًا لهذه الوزارة الفتية المنظمّة مع الشيخ يماني، فرئيسًا للهيئة المركزية للتخطيط بمرتبة وزير، فوزير دولة مع عضوية مجلس الوزراء فوق مهمّته السابقة، وأصبح أول وزير للتخطيط في الوزارة التي كونها الملك خالد عام (1395)، ونائبًا لرئيس الهيئة الملكية للجبيل وينبع، وبعد ذلك صار ثالث وزير للبترول، ثمّ أخلد إلى راحة أسرية وثقافية ومجتمعية لذيذة لعقد من الزمان، حتى بُعث سفيرًا للمملكة في القاهرة عام (1426=2005م)، وهو آخر منصب له قبل وفاته في اليوم الثاني من الشهر الثاني عام (1437)= 14 من نوفمبر عام (2015م). والعلامة البارزة في جميع وظائفه الرسميّة الابتدائية والعليا، أنها صدرت بموافقة الملك أو بأمر منه، وشمل ذلك الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد وعبدالله.

وهذه العلامة فريدة للشيخ هشام، ومن فرائده التي لاحظتها أنّ خبر تعيينه رئيسًا للهيئة المركزية للتخطيط بمرتبة وزير، قد بلغه وهو في الطائرة على متن رحلة من بيروت إلى طوكيو مرورًا بطهران، إذ أعلنت الطائرة هذا الخبر نقلًا عن صديقه الأستاذ علي شبكشي الذي أنبأ شركة الطيران بالخبر حال إذاعته وصاحبه في الطائرة لا يعلم عنه شيئًا، وحين أُعلن الطاقم هذا الخبر صفق له المسافرون. وفيما بعد تغيّرت صفة أبي لؤي من وزير تخطيط بالأصالة، ووزير بترول بالنيابة، إلى وزير للبترول بالأصالة، ووزير للتخطيط بالنيابة، عبر تصريح صحفي من الملك فهد، وهو مالم يحدث لأحد قبله أو بعده فيما أعلم.

أما المنجزات والأعمال التي ترتبط به فمنها إعلان أول خطة خمسيّة عام (1390=1970م)، وإنشاء مشروع مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين في شرق البلاد وغربها، وتأهيل عدد من الشباب السعودي بالعمل والابتعاث والاحتكاك مع نظرائهم في الشركات الأجنبية، وبعضهم استوزر لاحقًا. ومنها إتمام امتلاك المملكة لشركة “أرامكو”، وصار الشيخ ناظر أول رئيس سعودي لمجلس إدارتها، ومنها العناية بمدينة الأحساء على وجه الخصوص، والقرب من كافة شرائح المجتمع المصري إبّان سفارته في القاهرة؛ لدرجة أصبح معها سقف منزل السفير السعودي مرتفعًا كما ألمح كاتب مصري! وهذا القرب متنوع ما بين ثقافي واجتماعي وخيري وسياسي وإعلامي. ومن اللافت أن صاحب السيرة لم يتحدّث كثيرًا عن تجربة “سمارك” أسوة بغيرها.

كذلك يجذب الانتباه علاقة الرجل القديمة بالنفط، فأول عمله الحكومي في مديرية الزيت، ثمّ ابتعثه الطريقي إلى فنزويلا لاقتباس طريقة العمل النفطي من حكومتها المتقدمة على العرب آنذاك، وغدا هشام أول ممثل لبلاده في مجلس المحافظين بمنظمة “أوبك” التي كان شاهدًا على ميلادها، ودهاليز نقاشاتها، وعسر اجتماعاتها، وصعوبة توافق أعضائها، وعقب ذلك صار وكيلًا لوزارة البترول، فمسؤولًا عن التخطيط الذي يقوم على عوائد النفط المالية.

ثمّ ابتكر فكرة مشروع الجبيل وينبع المتداخلة مع النفط وشؤونه، حتي سُمي أخيرًا وزيرًا للنفط، وخلال وزارته استقطب الأمير عبدالعزيز بن سلمان وزير الطاقة الحالي، وفي زمنه له صولات مع شركات النفط والتكرير والكيماويات والتصدير، وآخر محطّة عمليّة للشيخ ناظر حطّت رحالها في القاهرة التي احتضنت أول مؤتمر عربي للنفط؛ وسبحان الله فكأنّ الشيخ الطريقي -بعد توفيق الله- أعدّه لهذا الأمر مبكرًا. ومن الطّريف الذي يستحق الإشارة أن ناظر تولى وزارة البترول بعد وزيرين خرجا من المنصب بصورة توحي بغير الرضا، ومع ذلك بقيت منه تجاههما علاقة إجلال واستضافة باحتفاء، ولم يحفِظ صنيعه الوفي هذا الملكين فيصل وفهد، بل نظر إليه فيصل على أنه تصرف الرجال.

كما تلفت سيرة الشيخ هشام نظر القارئ إلى ملمح جميل بين السطور، وهو تعالي كثير من رجال الدولة على المناطقية بصورتها البغيضة، وإن كانت في سياقها الطبيعي غير مستنكرة بشدة، ومن ذلك أن الطريقي النجدي استقطب ناظر الحجازي، وهو بدوره استقطب د.الجشي القطيفي، وأ.الجاسر الحربش القصيمي، وتفاعل مع المصيبيح وهو شاب من أهل الرياض يمتهن الصحافة حينذاك، ولا معرفة له مع الوزير الذي أثني عليه الكاتب د.سعود المصيبيح بتعاونه، وسهولة الدخول عليه، وتشجيعه المستمر للشبّان.

ومن الطبيعي كثرة المواقف في مسيرته، فمنها قصيدة ألقاها أمام الملك سعود، وكانت جائزتها التكفل بمصاريف سنة واحدة من سنوات البعثة إلى مصر، وظفره بوظيفة في مديرية الزيت حين قرأ الشيخ الطريقي خبر تهنئته على التخرج في إحدى الصحف فاستقطبه. وشكى للملك فيصل استثناءه من البعثة لأمريكا دون بقية زملائه، فوعد بإنصافه إن كان محقًا، وتيسرت بعثته وصار واحدًا من ستين طالبًا سعوديًا يدرسون في أمريكا، ومن زملائه الوزير الشيخ حسن المشاري، والوزير الشيخ عبدالعزيز القريشي، والمخرج العالمي الأستاذ مصطفى العقاد.

وفي أول وصوله لأمريكا صادف معاناة مالية، وأخرى في اختيار الجامعة، حتى وفقه الله لما مضى فيه، وكان يرغب بدراسة الهندسة المعمارية، بيد أن نشاط القنصل الإسرائيلي بلوس أنجلوس، حرف مساره لدراسة العلوم السياسية؛ كي ينفع بلاده وقضاياها كما يفعل الدبلوماسي اليهودي المخلص في أيّ محفل. ولاجتهاده أنجز دراسة الماجستير خلال ثمانية شهور وهو ابن ستة وعشرين عامًا فقط. ومن قصصه بعد الوزارة الاضطرار للانتظار نصف ساعة قبل مقابلة الرئيس العراقي صدام حسين، والحكمة من هذا التأخير هي أن ينفجر زائر الرئيس وحده إن كان ملّغمًا، وحين مازح ناظر الرئيس العراقي امتعض زميله وزير نفط العراق وقال له حين خلا به: هذا الرجل لا يمكن المزاح معه!

أيضًا حرص الوزير على الهوية السعودية، والثقافة المحلية، والمرجعيّة الإسلامية، واللغة العربية التي يضع لوحة بقواعدها في مكتبه، وهذا الحرص تجلّى في مشروعاته الكبرى التي نفذها، وكان رائدها المصلحة العامة، وناتجها دخل مادي إضافي وتوظيف متواصل، ولم يكن الهدف منها جرح مشاعر البلد وأهله باستيراد ثقافة أجنبية، أو فرض سلوك مخالف؛ وإن حصل شيء يسير من ذلك تحت وطأة الاضطرار أو غيره، وانبهارًا بهذا الموقف الرشيد قال كاتب أجنبي: استطاع ناظر التوفيق بين مصلحتين اثنتين: تحديث اقتصاد البلاد، والتفاني في الحفاظ على الثقافة السعودية.

 وللوزير كلمات بهيّة مكتوبة أو ملقاة، ومن كلماته يتبين عنايته بحرية الإرادة، وأنّ السعادة مفهوم يحدده الإنسان لنفسه، والحياة عنده مزيج من فشل ونجاح، فما يستعصي على امرئ منال متى كانت له عزيمة. والإيمان، والثقة بالنفس، والأمل، هي مركبات ضرورية للنجاح حسبما يرى. وبحدب المشفق ينادي: يا أيها الشباب ربيعكم لن يستمر! ويقرر بأن سلوك الرجال هو سلوك المؤمنين، الذين هم أصحاب الحديث الصادق إن حدثوا، وأصحاب الوعد الصادق إن وعدوا. والعدالة لديه أفق رحب يقرّب الناس من الحرية والمساواة، وإن الحياة لا تستمر كريمة على عراقة الماضي، إلّا بقدر ما تصونها جديّة الحاضر.

ويردف مغترفًا من معين ثقافته الأصيلة: الذي يركض التاريخ إليه هو الذي يصنع القرار، ويؤمن زمن الشك، ويعمل وقت التردد، ويُقدِم والناس يحجمون، ولأجل ذلك جزم الناظر البصير بأن بلادنا لا تحتمل الاعتماد كليًا على تصدير البترول الخام؛ فالعالم يبحث عن مصادر بديلة وسيطرق كلّ باب في هذا الشأن، ومن لا يرى هذه الحقيقة فسيكون أول من يجوع غدًا، ذلك أن الثروة الناضبة لا تشبِع حاضرًا، ولا تؤمّن مستقبلًا إن هي ما تحولت إلى أدوات جديدة للإنتاج، وبناء على هذه المسلّمة انطلقت مشاريع الجبيل التي أسماها البقعة الأمل، حيث تحولت من ناعسة على الشاطئ إلى ولّادة تحمل في أحشائها الخير، وأما ينبع فخاطب الملك خالد فيها قائلًا بفصاحة قرآنية: أنت في بلد إذا عسعس ليله، عسعس على أمن، وإذا تنفس صبحه، تنفس على يُمن.

كما يحتوي الكتاب على وصايا المسؤولين له، وهي ذات دلالة عميقة؛ فالملك فيصل طلب منه رفع المبلغ الذي ستدفعه المملكة لدول المواجهة، وفي خطابه بقمة الخرطوم تعهد الملك بمبلغ أضعاف ما ذكره هشام مما أربك رئيس المراسم ووزير البترول والمالية لكنهم استطاعوا تدبير المال فيما بعد. وأوصاه الأمير سلطان برعاية شؤون السعوديين المقيمين بمصر؛ خاصّة المعترضين منهم الذين يجب تقريبهم بلطف إلى وجهة النظر الرسمية، وأخبره سلطان بأن الاعتماد على الأمريكان لأجل غير مسمّى أمر غير ممكن، وأن استرضاءهم بشكل أعمى خطأ إستراتيجي خطير، ولذلك همس له وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل وهو يغادر سفيرًا إلى مصر بوجوب توخي الحذر من التدخلات الأجنبية الكبرى في البلدين، منبهًا على مركزية الحفاظ على هوية البلد، وحماية موارده، فهما من خير سُبل البقاء.

هذه حكاية رجل دولة لا يتعصب لرأي كما قال الوزير د.غازي القصيبي، ويحب الطرفة ويحتفل بها عبر بسمة أو ضحكة، ولا يخفي شغفه الرياضي بنادي الاتحاد، واشتهر بالأناة والتريث، ولم يمنعه تعيينه وزيرًا أول مرة من رعاية ندوة وافق على رعايتها قبل أن يُستوزر. وشهد له تاريخه وعارفوه بالاعتراف بفضل الآخرين، ونسبة النجاح لأهله، مع رفضه المحاباة لأصحاب النفوذ والوجاهة الأسرية أو المالية فيما يخصّ مشاريع الجبيل وينبع وغيرهما، وحتى مع تقديره للوزير الطريقي أمر بأن يُعامل مكتبه الاستشاري دون مجاملة.

ويبدي رأيه بصراحة عن موقف الناس تجاه التخطيط والخطط، وتحميلهم وزارته مشكلات في التنفيذ ليس لها علاقة بها. ولا يتحرّج من القول بأنّ خروج المملكة من منظمة أوبك قد يكون خيرًا من بقاء عضويتها. ولا يتوانى بالتعاون مع مستشاريه عن مراجعة الاتفاقيات مع الشركات الأجنبية حرفًا حرفًا، وهذا دأب الحصيف الذي لا يمنح ثقته للغرباء وكأنهم أصدق الناس وأعلاهم مهنية ووفاءً، وعلى سيرة الوفاء فقد أطلق الوزير السفير على مجلسه الأسبوعي في القاهرة “مقعد الأربعاء” تقليدًا لآبائه وأسرته العريقة.

وعودًا على بدء، فإنّ تاريخنا المحلي الإداري، والثقافي، والمجتمعي، والاقتصادي، والسياسي، والعسكري، والنفطي، يحتاج إلى مثل هذا التوثيق و تلك الروايات، حتى لا نرهف مسامعنا أو نصوّب أبصارنا نحو ما يصدر عن الآخرين حولنا فقط، فالرواية من أفواه أهل البلد -وهم مخلصون كرام نبلاء- ستكون أصدق، وأوثق، وأقرب لمصالحنا، وكلّ تحليل ودراية ينبني عليها سيعود بالنفع على الحقيقة والتاريخ، وإنه لمنهج رشدٍ، وواجب وقتٍ، يحتاج إلى جرعات من الجرأة، ودفق لا ينقطع من الحرية المنضبطة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الإثنين 02 من شهرِ شعبان عام 1442

15 من شهر مارس عام 2021م 

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)