سياسة واقتصاد

خلفاء ورجال دولة عظماء

Print Friendly, PDF & Email

خلفاء ورجال دولة عظماء

لطالما كان ذكاء العرب، وحسن تصرف عظماء أمة المسلمين، من الأمور التي تبهرني لدرجة الوقوف بإكبار أمامها؛ فكيف استطاع أبناء الأمة الأمية مقارعة الدنيا شرقها وغربها، ثمّ غلبتهم مع قلة العدد والعتاد، وقرب العهد بالضعف والفرقة أمامهم، وفوق ذلك قدموا النموذج الناصع في الإدارة والحكم دون أن يقتبسوا صورة مما لدى غيرهم؛ فنالوا السبق والفرادة. وقد كانت تلك المواقف بارزة في سير كبار رجالات الأمة من الخلفاء رضوان الله عليهم، وهي غير خافية في مسالك شخصيات شهيرة مثل عمرو بن العاص، أو غير شهيرة مثل ربعي بن عامر رضي الله عنهما وأرضاهما، والحمدلله الذي جعل سير أعلامنا تفيض بمواضع الاستشهاد، ومكامن السمو والبهاء.

في هذا السياق استعرضت ذهنيًا إبان ساعة صفاء بعضًا من مواقف ثمانية خلفاء وزعماء في تاريخ المسلمين الأول، ولم أحاول التوسع بالرجوع وجلب المزيد من المرويات، ووضعها تحت معمل التحليل المستصحب للتوقير والإجلال؛ فذلك موضوع يستأهل بيد أنه يحتاج إلى تفرغ تام، وعسى أن ينشط له ذووا الأهلية والاختصاص؛ حتى لا تقتصر الأمثلة الباهرة على شخصيات معاصرة، أو لا تنتمي لحضارتنا وثقافتنا، فالأمثلة وافرة وليست شحيحة، وكتب التاريخ والتراجم تحفظ أخبارهم وأمجادهم، وتضيء لنا جوانب من فن الحكم لديهم.

فهذا أبو بكر الصّديق رضوان الله عليه، وهو الأسيف الرحيم، يصر على قتال المرتدين ومانعي الزكاة في مثال ناصع على الإدارة الموقفية التي يغيّر فيها الزعيم نمطه العام بسبب أحوال تقتضي ذلكم التغيير الرشيد، وبتلك الحرب العادلة حال الصّديق دون وأد الدولة الحديثة، ومنع المتربصين من تمزيقها، واستأصل فتنة كادت أن تتضخم وتتجه نحو إزالة الدين كلية. وفي سياق إظهار القوة والتماسك من قبل الصاحب الأول والخليفة الأول والمؤمن الأول من الرجال جاء إنفاذ جيش أسامة لتمكين هيبة الدولة في النفوس المريضة أو المتشككة أو حتى الخائفة، وردع من تؤزه شياطينه نحو بوادر السوء والخيانة.

وعلى الصعيد العلمي فتح الله على الصّديق الأكبر بأن جمع القرآن الكريم حتى لو استعظم بعض أكابر الصحابة هذا الإجراء الذي لم يعهدوه، بينما نظر أبو بكر إلى خلو النصوص من التحريم والمنع، وإلى تحقيق مصلحة الأمة الشرعية الراجحة في الجمع، وخشي من اختفاء الحفظة بالاستشهاد أو الموت؛ مما قد يؤدي للنسيان أو الخلط؛ فكان خياره صوابًا خالصًا، وتوفيقًا من الله ينسب لأبي بكر أبد الدهر. ولم يمض خليفتنا الأكبر إلى ربه راضيًا مرضيًا إلّا بعد أن استخلف على قيادة الدولة خير رجل من أهلها، إذ شاور كبار الصحابة، فكاد الإجماع أن ينصرف إلى التأييد لولا بزوغ رأي تهيّبَ من شدة عمر؛ بيد أنه لم يفتّ في عزم الصّديق، ولم يوهن إرادته، أو يربك قراره الذي باركته الجموع وأيدته البيعة، وتلك خصيصة رشد لرجل دولة لم يطل مقامه في السلطة، ولم تمتع به الأمة وتاريخها السياسي كثيرًا.

لذلك أتى بعده عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وهو الفاروق الحاسم الملهم، وشيخ أشياخ السياسة الشرعية تنظيرًا وتطبيقًا، حتى صارت سيرته المهيبة منهلًا عذبًا لكثير من الدارسين والباحثين، وأيّ فهرس لمكتبة عامرة يشهد بهذا. وكان من خبره في الإدارة والحكم المتابعة الدائمة للولاة، ومحاسبتهم قبل الولاية وبعد العزل منها، والإشراف المباشر على عماله بالزيارة أو الاستدعاء، والاستجابة لطلبات الناس بإقصاء من لا يرغبون إمارته ولو كان بحجم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة وقائد معركة القادسية. وله مع القضاء شأن واسع أشهره كتابه المسدّد لأبي موسى، وعنده سياسات مالية وعمرانية وتجارية حقيقة بأن يستفاد منها، وله بين الاستخلاف والتعيين اجتهاد بديع سبق به كثيرًا من التطبيقات المعاصرة، وكم في سيرة هذا الرجل المبارك من لفتات وقواعد لا تمل مع إبهارها للعقلاء وإن كانوا من غير أهل الملة الإسلامية.

ثمّ جاء عثمان بن عفان ذو النورين رضوان الله عليه، وهو الذي فاض المال في عصره كما قال عروة بن الزبير: “أدركت زمن عثمان – رضى الله عنه – وما من نفس مسلمة إلا ولها في مال الله حق”، وتكاثرت الفتوح، وجمع المصحف مرة أخرى درءًا للفتنة، وحفظًا للمصدر الأول من العبث أو المساس بسوء. وكان مثل سابقيه يسمع النصيحة ويقبل مبدأ الاعتراض بغض النظر عن صواب محتواه. وأبت نفسه المؤمنة نزع قميص لبسه لبسة شرعية خالصة، وأبت نفسه الرحيمة أن يُمسَّ المعترضون عليه بأي أذى حتى لو حملوا سلاح البغي عليه وهم له ظالمون، حتى قال لمن أرادوا حمايته: إن أعظمكم عني غناء رجل كف يده وسلاحه، ولقد هداه الله لهذه السنة المفقودة كي لا يأتي بعده أقوام يسفكون الدماء ويتخذون فعله -لو كان قد فعله- حجة لهم؛ ويقولون زورًا: نحن على مذهب الخليفة الراشد عثمان بن عفان، وهو منهم ومن مذاهبهم كلها أو جلّها براء.

واستُخلف على المسلمين عقب ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه الشجاع القاضي العادل، والد سبطي الرسول عليه الصلاة والسلام وريحانتيه من أهل الدنيا. وهو صاحب الرأي البصير بالاحتواء لإخماد نيران أهل الشر لولا ما جرى عليه من أحداث وفتن متوالية. وهو الخطيب الحكيم الفقيه الذي قال لمن استنكر عليه تعامله الشرعي مع بعض مناكفيه: ” لهم علينا ثلاث: أن لا نمنعهم المساجد أن يذكروا الله فيها، وأن لا نمنعهم الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا، وأن لا نقاتلهم حتى يقاتلونا”، وتلك بصيرة حرم منها غيره. وهو الذي شمل بعدله أقوامًا صدرت منهم كلمات فيها نبرة الوعيد والتهديد؛ لأنه لا يريد أن يؤاخذ أحدًا بغير جريرة أو جريمة، ولذلك فحين جاء رجل برجل من الخوارج إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين إني وجدت هذا يسبك، قال: فسبه كما سبني، قال: ويتوعدك، فقال: لا أقتل من لم يقتلني!

وتكتمل مدة الخلافة الراشدة بنجله الحسن بن علي رضي الله عنهما الذي ولي الأمر ستة أشهر أتم بها ثلاثين عامًا واردة في سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومن عظمة الحسن وهو من سادات الشباب والرجال والزعماء أنه تنازل عن الخلافة حقنًا للدماء، وجمعًا لكلمة المسلمين، وحفظًا للدين، وإمضاء للجهاد، وكان تنازله لمنافس وليس لشخص قريب أو محسوب عليه، وتلك مزية تجعل من صنيع الحسن تساميًا على شهوات النفس، ودفعًا للأثرة، تحقيقًا للمصالح الشرعية العليا العامة، وابتغاء الدار الآخرة وما عند المولى سبحانه.

فآل أمر الناس والأمة بعده إلى كاتب الوحي وسليل البيت القرشي العريق معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وهو الذي كان من رجال عمر وعثمان، واشتهر مع الحزم بالعفو والصفح، ومع القوة بالعقل والدهاء وبعد النظر، ومع الجدية والتدقيق ببسط الوجه واليد واللسان، واكتفائه بكلمة عن السوط، وبضربة سوط عن السيف، مع حب شديد للعفو والمسامحة خشي منه ألّا يؤجر عليه. وقد قال فيه حبر الأمة عبدالله بن عباس رضي الله عنهما كلمة وافية مختصرة: “ما رأيت أحدًا أخلق للملك من معاوية: كان الناس يردون منه أرجاء واد رحب، ليس مثل الحصِر العقِص”، والحصر هو البخيل، والعقص هو الملتوي صعب الأخلاق، وما أقبحهما من خلتين في كبير قوم. وإن سيرة معاوية في الحكم والسياسة لجديرة بالدراسة الفاحصة، مع التوقف عند صفات رجل الدولة فيه، وذب الفجرة الدخلاء عن حياضه الكريم.

وفي زمن اضطراب أمر دولة بني أمية بعد وفاة خليفتها الأول وملكها المؤسس رضوان الله عليه، ولي أمر كثير من البلاد الإسلامية الصحابي الشجاع عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما حتى كادت أن تجتمع عليه الكلمة لولا أن آل أمر بني أمية ومروان إلى عبدالملك بن مروان، وهو شخصية تحتاج إلى بحث في أسلوب إدارتها وحكمها. وكان من خبر ابن الزبير حرصه على استقامة الأمر وفق الحق الشرعي، وإصراره على ذلك، وثباته، وهو رجل قوي القلب شجاع النفس كما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام إذا صحت رواية شربه لدم حجامة النبي، ولديه قابلية للمصابرة على ما يعتقده حتى لو قاتل أهل وادٍ من أجل حبة قمح كما وصفه عمر بن الخطاب حسبما يُروى، وإن الشجاعة وقوة الشكيمة والثبات لمن علامات الرجولة، وهي في رجل الدولة أظهر وأزين.

ثمّ إن هذه السلسلة الثمينة من رجال الدولة الأمناء الأكارم تختتم بشيء من خبر عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ورحمه، الذي ولي الأمر بعد عهود فيها أثرة وظلم واستحواذ غير شرعي، فاجتهد كي يعيد الأمر إلى صوابه، والحق إلى نصابه، وأصبح أول مجدد لأمر أمة محمد ولدينها مصداقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن التجديد، وغدا الخليفة العادل الأشج نموذجًا يحتج به على جميع من أتى بعده مع أنه حكم لمدة تقل عن ثلاث سنوات، فلم يوجد في عصره فقير، ولم يتعب ذو حق في تحصيل حقه، أو ذي مظلمة واقعة في دفعها عن نفسه وقومه، وصار للعلماء والحكماء في بلاطه وعهده كلمة مسموعة، ورأي مطلوب، وتلك سمة من سمات رجل الدولة الرشيد.

رضي الله عن الرعيل الأول بمن فيه من خلفاء وقادة وقضاة وعلماء وجنود وعامة، والله يلهمنا حسن الاقتداء، وجميل الاتباع، وإدامة النظر الراشد فيما تركوه من إرث عميق بديع في أعمالهم وأقوالهم. وإنه لمن المحزن الموجب للأسى أن يكون لدينا هذا الكم الكبير وذلكم الكيف الفخم من الأخبار والآراء والتصرفات ثمّ ننصرف عنها غافلين أو زاهدين، ونظلّ سادرين مثل أيتام يطوفون بمائدة أقوام يحتقرونهم، وفوق ذلك لا ينالون منهم سوى البقية أو الفتات، وفي بعضه سم ناقع، أو فساد عريض، وإن فينا ولدينا من الموارد والمصادر ما يماثل ماء زمزم في طهره وشفائه وديمومة نبعه وقرب الوصول إليه وسهوله الإفادة منه؛ فمتى نقتنع ونرد لننهل ونشرب ونرتوي ونروي للعالم بالفعال والأقوال؟

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-مكة

ahmalassaf@

الثلاثاء 16 من شهرِ شوال عام 1443

17 من شهر مايو عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)