سير وأعلام قراءة وكتابة مواسم ومجتمع

كتاتيب عنيزة للبنين والبنات

Print Friendly, PDF & Email

كتاتيب عنيزة للبنين والبنات

هذا كتاب لو لم يكن لأصبح فقدانه عجبًا، وبقي دينًا في أعناق أهل البلد الأوفياء، حتى مع ظهور كتب أخرى عن رواد التعليم في عنيزة، أو تاريخ التعليم فيها؛ فهذا الكتاب متميز في موضوعه، ورصده، والحمدلله على أن وجد أخيرًا؛ فأغلق ثغرة علمية وتاريخية، وفتح الباب الموصد لغيره ومن يأتي بعده من الباحثين والمؤرخين؛ فإن الشؤون الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعلمية لجديرة بمن ينهض لها وبها في الدرس التاريخي.

عنوان كتابنا هو: الكتاتيب في عنيزة للبنين والبنات 1200-1380، تأليف: خالد بن سليمان بن علي الخويطر، وصدرت طبعته الأولى عام (1444) عن جمعية التراث والوثائق في محافظة عنيزة ومكتبة الرشد بدعم من مؤسسة عبدالعزيز العوهلي الخيرية. ويقع الكتاب في (151) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون من المقدمة مع إشكاليات الموضوع وقائمة بأسماء أصحاب الكتاتيب، ثمّ خمسة فصول يعقبها ملحق بالصور والوثائق، وعلى الغلاف الخلفي تعريف مختصر بالمؤلف المؤرخ.

يبحث الفصل الأول لمحة تاريخية عن الكتاتيب في الحضارة الإسلامية، وفيه جدول مقارنات بينها وبين الكتاتيب السعودية، بينما يدرس الفصل الثاني نظام الكتاتيب في عنيزة، ويترجم الفصل الثالث لمعلمي الكتاتيب ومعلماتها في القرنين الثالث والرابع عشر الهجريين، وهو أطول فصول الكتاب بلا غرابة. أما الفصل الرابع فعن كتاتيب رجال ونساء من أهل عنيزة فتحت خارجها أي في عشر مدن، وفي الخامس طرائف من كتاتيب عنيزة، وأخيرًا حوى الملحق سبعًا وعشرين صورة سُبقت بشرحها على اختلافها، وجاءت بعدها قائمة بالمراجع المخطوطة والمطبوعة مع الصحف والإفادات الشفهية؛ علمًا أن بعضها وردت على لسان دارسات أو دارسين في تلك الكتاتيب.

أحسن المؤلف في هذا الكتاب لعنيزة وتاريخها، ولأصحاب الكتاتيب فيها بعد أن أخطأهم قلم التدوين المنشغل بسير القضاة والفقهاء عن المعلمين الأوائل مع عظم أثرهم، وقوة تأثيرهم. ولأجل مشروعه العلمي هذا الذي بزغ إثر نقاش للمؤلف حول التاريخ الثقافي مع الشيخ محمد بن إبراهيم البسام وهو من مراجع التاريخ في عنيزة، رجع الأستاذ الخويطر إلى كتب وصحف وسير ذاتية ومرويات شفهية؛ حتى نجح في حصر أربعين معلمًا، وخمس وثلاثين معلمة من أصحاب الكتاتيب في عنيزة خلال قرنين من الزمان، وأصبحوا مادة الكتاب السابع للخويطر.

ويتضح من الكتاب جليًا أثر أسر معينة في الكتاتيب أشهرهم أسرة الدامغ التي نزح جدها لعنيزة هربًا من القضاء، ومعها أسر الفهيد، والقرزعي، والجناحي، والشايع، والضيف؛ ولذلك تبرز لنا العراقة المهنية والعلمية بالتوارث عن جدارة لدى بعض الأسر، كما نلحظ حرص أصحاب الكتاتيب والأهالي على التعليم حتى مع ضعف الإمكانات، وضيق ذات اليد. ويحفظ كتابنا للشيخ فائز بن منصور أبا الخيل أنه أول معلّم كتّاب معروف في عنيزة، وهذه المعلومة لم يسبق لها أحد قبل الباحث المؤلف إذ توصل لها من وثيقة مرتبطة بوقف.

كذلك نرى أن غالب المعلمين والمعلمات مارسوا مع التعليم كتابة الوثائق، والرسائل الشخصية، وقراءتها، ونسخ الكتب وتحبيكها أو تجليدها، والرقية، والعلاج الشعبي، وسياسة الخيل، وربما كان بعضهم إمامًا أو مؤذنًا أو ناظرًا لوقف على المسجد والكتّاب مما ينبئ عن بيئة تحب العلم وأهله وتقدرهم وتعينهم على أداء مهمتهم السامية؛ ولذلك تعفف بعض المعلمين عن المقابل المادي للتدريس، وفيهم من اشتغل بالتجارة أو غيرها ليكفي نفسه ويخفف على آباء الطلبة، وسعى آخرون لتحفيز طلبتهم ماديًا بالهدايا أو معنويًا بالتقريب والكلمات المشجعة قدر المستطاع؛ وليسعد النطق والحال إذا لم يكن ثمة مال!

ومما يلفت النظر العناية بتعليم المرأة من قبل الآباء والإخوة، وحرص النساء على تعليم بعضهن؛ فمن لم تستطع منهنّ فتح كتّاب في منزلها طافت على تلميذاتها في بيوتهن. ونلمح في السير بدايات مبكرة لمشروعات تعليمية أرقى من الكتّاب فيها علوم إضافية نظرية وتطبيقية ورياضية، وتحسين الخط، وحفظ المعلقات وكتب الأدب، إلى أن افتتح الأستاذان الشقيقان القرزعي مدرستهما، ثمّ تلاهما الأستاذان الشقيقان الصالح بالمدرسة الشهيرة، ومن هذه المدارس بدأ التحول إلى مدارس حكومية التحق بها جلّ طلبة الكتاتيب مع معلميهم، ويحسب لمؤلفنا أنه تتبع أسماء طلبة مدرسة القرزعي، وعدهم واحدًا واحدًا قدر وسعه وطاقته.

وتظهر أسماء بارزة من أهل عنيزة ممن درسوا في هذه الكتاتيب، وفيهم علماء كبار ووعاظ مثل السعدي، والقرعاوي، وابن عثيمين مع الشهادة له بالجدية البالغة، وابن عقيل، وابن بسام، والسلمان، ومنهم أمراء عنيزة من أسرة السليم، ووزراء بارزون مثل السويل، والزغيبي، وأبا الخيل، والخويطر، ومعهم مسؤولون كبار مثل العباد، والضراب، والشبيلي، والنعيم، والخويطر، ولا تخلو القوائم من مؤرخين وأدباء ونحاة ومربين ووجهاء وتجار وأطباء وعسكريين وفنانين، مثل العبيّد، والحسون، والتركي، والعليان، والذكير، والبسام، والسبيعي، والبسام، والشميمري، والهزاع، والقائمة تطول، وعلى الله كتابة الأجور لأولئك الهداة الكرام من شيوخ الكتاتيب ومطوعاته وخالاته.

أيضًا نقرأ في الكتاب شيئًا من صور التعبد والتأله الكثير حتى أن بعضهم يختم القرآن الكريم كل ثلاث، وينشر الآخر مصحفه وهو راكب على الحمار ويشرع في التلاوة، ويتحرز المعلمون من المال الذي ليس لهم ولو كان نوى التمر، وتسعى النساء لحفظ القرآن وطلب العلم في الجامع الكبير حتى روي عن بعضهن أنها أصبحت مفتية للنساء بأمر من الشيخ السعدي، ويمضي عدد منهم عمره في التعليم والتربية والإمامة والآذان وعقد الأنكحة والرقية.

ثمّ إن الكتاب على جديته قد حوى شيئًا من الطرائف ومليح الفوائد مثل صنيع الطلبة مع باب شيخهم حينما أقفلوه باللِّبن كي لا يخرج المعلم للدرس، وعضة تلميذ غاضب لأستاذه، وتفريغ أحدهم سلة الأستاذ من التين ووضع البصل مكانه، وتسمية الأهالي لعصا الأستاذ بعصا الجنة، واختلاف سبب الاستئذان حسب رفع الأصبع الخنصر أو السبابة أو الإبهام. ومنها إتقان القراءة دون كتابة، ودراسة أطفال من الجنسين عند معلمة واحدة ستينية وهم في السادسة من العمر، إضافة لبعض ألقاب المعلمين المستطرفة، وأسماء المعلمات المختصرة على أسرهن، وأن واحدة من المعلمات تعلّمت اللغة الإنجليزية وقيادة السيارة فيما بعد.

ومنها قراءة الرقية على المطازيز وتجفيفها ومنحها من قبل المعلمة لمن يطلبها، وسعي بعض الطلبة لاستماع الدرس ولو عن بعد لأنه لا يملك رسوم الالتحاق بالكتّاب، وكيفية صناعة اللوح، وتنظيفه، والكتابة عليه، ومراسم الختمة، ورسوم الدراسة، وهدايا المعلمين، ونظام العريف أو المساعد، وغيرها مما يحتف بعالم الكتاتيب في زمن شحت فيه الموارد، واختنقت الأحوال؛ بيد أن النفوس الزكية، والأذهان الصافية، متطلعة لنور العلم، وضياء الوعي، فما أكمل عقولهم، وأحلى لحونهم بالترداد وراء المعلم ضبطًا للحفظ والتلقي.

بقي عليّ أن أشير إلى قصة لافتة رواها الكتاب لنا، وهي تخصّ المعلمة نورة بنت إبراهيم الربيعي التي انتقلت إلى مدينة ثادق في إقليم المحمل مع زوجها سعد بن علي السهلي عام (1340)، وكانت تدرس البنات في البلدة، وتمارس الطب الشعبي، وعندما حلّ وباء الجدري بنجد وثادق عام (1358)، وهجر الناس مرضاهم خوفًا من العدوى؛ نصبت هذه المعلمة الطبيبة خيمة آوت فيها المرضى، وكانت تمدهم بالماء والغذاء والدواء؛ فأنقذ الله بها خلقًا، وقد توفيت عام (1371)، وأتمنى ألّا ينسى أهل ثادق الأفاضل الأماجد هذه المرأة المحسنة من الدعاء، وصالح العمل، وحسن الذكر، فهم للمكارم والمحاسن أهل وأصل.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

ليلة الجمعة 24 من شهرِ المحرم عام 1445

11 من شهر أغسطس عام 2023م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. الأستاذ خالد الخويطر كاتب ومحقق، وضابط لتأريخ نجد الحديث، ولا سيما تاريخ عنيزة والقصيم
    نفع الله به وبكتابه، مع أجزل الشكر لمدونتكم الرائعة أستاذ أحمد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)