عرض كتاب مواسم ومجتمع

تعليم عنيزة في ثلاثة قرون

Print Friendly, PDF & Email

تعليم عنيزة في ثلاثة قرون

حفظ التاريخ لا يقتصر على السياسة والحكام والقادة العسكريين؛ فهذا من القصور في الفهم والعقوق نحو باقي مناحي الحياة والمجتمعات. وكم تسعدني الدراسات التي تتحدث عن المجتمعات وشخصيتها، وتطورها العلمي والصحي والاقتصادي والفكري وغير ذلك، إضافة إلى دراسة المفاهيم والأعراف والمؤثرات، كي لا تكون المادة التاريخية حكرًا على جوانب فيها روائح مكر الساسة، وأشلاء الحروب، وأخبار المكائد والدسائس.

لأجل ذلك سررت بكتاب وصلني عنوانه: التعليم في عنيزة سيرة ومسيرة (1110-1443/1698-2021م)، تأليف الدكتور عبدالله بن عبدالمحسن الخرافي، تقديم ومراجعة أ.د.أحمد بن عبدالعزيز البسام، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1443=2022م) برعاية من كليات عنيزة. يقع الكتاب في (281) صفحة، ويتكون من شكر وإهداء، ثمّ تقديم ومقدمة يعقبها سبعة فصول فالخاتمة ثمّ ملحق الوثائق والصور والمصادر والمراجع التي تجاوزت مئة وخمسين مصدرًا مقسمة على ثمانية أصناف شفهية ومكتوبة، ورقية وإلكترونية، قديمة وحديثة، مطبوعة وغير مطبوعة.

بدأ الفصل الأول بنبذة عن عنيزة وهو فصل بلداني خالص، وجاء الفصل الثاني عن مراحل تطور الحركة التعليمية (بنين) في عنيزة وعليه فهو عن تاريخ التعليم والمجتمع. أما الفصل الثالث فبحث نشأة أنماط أخرى من التعليم في عنيزة ويشبه الثاني في المجال مع إضافة سمة الإدارة المحلية والتنمية المجتمعية. واختص الفصل الرابع بالتراجم عبر سرد السيرة الذاتية لمديري التعليم في عنيزة وعدد هؤلاء الكرام الأجلاء تسعة فضلاء أداروا شؤون التعليم في مدينة عنيزة خلال ستة عقود بين عامي ( 1382-1442)، ولا غرو فهم من رواد التعليم في بلدتهم ومحيطها.

وواصل الفصل الخامس تأريخ التعليم والتنمية بدراسة موضوع نشأة التعليم الجامعي (العالي) في عنيزة، وعاد بنا سادس الفصول إلى الجغرافيا من خلال بيان التوزيع المكاني لمدارس التعليم العام للبنين، وآخر الفصول هو السابع الذي أوقفنا على التحليل المكاني لمدارس التعليم العام للبنين في عنيزة باستخدام نظم المعلومات الجغرافية لعام 1442، ومن الواضح أنه يرتبط بمعلومات الفصل السابق باستعمال أداة علمية تصور الواقع بلا تجميل، وتظهر مستوى التخطيط ومدى القدرة على استشراف المستقبل، وجدير بالأجهزة الحكومية الخدمية أن يفيدوا من هذه التجربة بأكبر قدر ممكن.

أما بدايات الكتاب ففيها شكر لمن أعان من أفراد ومؤسسات، وإهداء هذا العمل الطيب لوالدة المؤلف موضي بنت عبدالله السلطان المتوفاة قبل ثلاثة أعوامرحمها الله-. وفي بدايات الدراسة تقديم بقلم المؤرخ البروفيسور البسام، ثم مقدمة المؤلف التي تمنى في آخرها بأن يكون كتابه مصدراً لمعلومات تاريخية تغدو شاهدًا حضاريًا أمام الدارسين والباحثين. ومن المناسب الإشارة إلى ما أورده د.عبدالله الخرافي في هامش آخر فصلين؛ إذ أنهما مستلان من رسالة المؤلف لنيل شهادة الدكتوراه.

من لمحات الكتاب اللافتة أثر العلم الشرعي والفقهاء وحلق المساجد في نشر العلم ورفع الجهل، ومنها تجذر محبة عنيزة في قلوب أهلها الذين حرصوا على استضافة الشيخ عبدالله بن عضيب من المذنب، وأي بر بالبلاد وأهلها أعظم من إشاعة العلم وتقدير العلماء وإكرامهم كي يستقروا فيها ولا يترحلوا عنها؟ وقد استمرت هذه المدرسة العلمية الشامخة فأنجبت أبرز العلماء والقضاة والمعلمين، ويكفي للدلالة عليهم ذكر العلماء الأعلام المشايخ صالح القاضي، وعبدالرحمن السعدي، ومحمد العثيمين، وإنها لمدرسة قائمة إلى يوم الناس هذا.

أيضًا مما يثبته الكتاب أن التعليم الحديث بشقيه الأهلي والرسمي بدأ في عنيزة وكان سابقًا على الحواضر النجدية الأخرى، فأول مدرسة أهلية متطورة عن المعهود افتتحت على يد الأساتذة القرزعي ثمّ تلاهم المربي ابن صالح، وعمر هذه المدارس يتجاوز قرنًا من الزمان. وأول مدرسة رسمية افتتحت عام (1356) حتى قبل الرياض العاصمة. بل حين أراد أحد رموز التعليم في بلادنا وهو الشيخ محمد بن مانع أن يوجد معهدًا شبيهًا بمعهد تحضير البعثات في مكة، اختار عنيزة لتحتضنه عام (1368) ليس لأنها دياره التي ينتمي لها؛ وإنما لكثرة الدارسين من أهلها، وهي حقيقة تؤكدها أعداد الطلبة الذين رصدتهم هذه الدراسة مع أن عدد السكان في تلك السنوات كانوا في محيط عشرة آلاف إنسان.

كما يظهر في الكتاب أن التعليم في عنيزة قام على أكتاف بنيها في الأعم الأغلب مع الاعتراف بفضل غيرهم وفضائلهم وبعضهم مشاهير مثل أحد أئمة الحرم المكي. ومن هذا الباب يمكن ملاحظة أن الأجيال الأولى من المعلمين ومسؤولي التعليم قد تخرجوا على يد ابن صالح ومدارسه، وكم لهذا الرجل من مآثر لا تنسى. ومن لطيف ما ذكره المؤلف أن مدرسة ابتدائية في العوشزية نشأت بموجب أمر ملكي أصدره الملك سعود تلبية لرغبة بعض أهلها من أسرة المطرودي، وتلك خصيصة لهذه المدرسة من بين أخواتها.

كذلك رأيت أن عنيزة احتفت برجالات التعليم من خلال حفظ سيرهم، وتعطير ذكراهم، وتسمية الشوارع والمدارس والمعاهد والمراكز والجوامع بأسمائهم. وقد أضاف مؤلفنا ترجمة لمديري التعليم في عنيزة إلى يومنا الحاضر وتلك لفتة وفاء يشاد بها. ولا يخفى على عين القارئ سرعة انتشار المدارس وتنوعها وتطورها في عنيزة. ومن البهي أن يشارك وجهاء عنيزة من علماء وأمراء وأثرياء ووزراء في خدمة المسيرة التعليمية في بلدهم حسب وسعهم بلا نكوص ولا منّة، ومجانًا كما صنع ابن سعدي وغيره.

ويخبرنا الكتاب أن أول دفعة تخرجت في الثانوية من القصيم كانت من طلبة عنيزة عام (1378) ومن أشهر الخريجين الثمانية الأستاذ عثمان بن حمد الخويطر أحد قيادات شركة أرامكو. ومن المذهل أن يكون النصيب الأكبر لافتتاح مدارس عنيزة في الزمن الذي سبق خطط التنمية الخمسية التي بدأت الحكومة بتنفيذ أولها عام (1390) ولهذه المعلومة دلالة لا تغيب. ومما يوجب الإجلال ذلكم العمل المجتمعي المنصرف لتعليم الصغار، وما تلاه من عمل تطوعي لتعليم الكبار وتخليصهم من الأمية، وجزء منه بلا مقابل أو بعائد مادي يسير.

وينبئنا كتاب د.الخرافي عن أنواع التعليم الأخرى في المعاهد التقنية والمهنية ومعاهد المعلمين، ومعاهد ذوي الاحتياجات الخاصة، ومدارس تحفيظ القرآن الكريم والمعاهد العلمية، مع التعريج على التعليم العالي ومسيرته في عنيزة عبر كليات شرعية ولغوية وإنسانية وصحية وهندسية وتقنية للجنسين، وبعضها حكومي وبعضها خاص، وغالبها تولى تأسيسها أو إدارتها عدد من أبناء عنيزة الأكاديميين. وفي هذا السياق أشير إلى وجود عدة مدارس أهلية خاصة، ومدارس أجنبية تستقبل من الطلبة أضعاف زملائهم في المدارس الأهلية وطنية المناهج! وإن كثرة المشروعات الخاصة في بلدة واحدة لمؤشر على تزايد الإقبال وضمان المرابح؛ فالتاجر لا يدخل مضمارًا ويستمر فيه دون مكاسب.

أما الإحصاءات في الكتاب فمتوافرة مع ضبط الأعداد والسنوات منذ بدايات التعليم والمدارس إلى العام الماضي، وشملت هذه الإحصاءات عدد المدارس، وعدد الفصول، وعدد المعلمين، وعدد الطلاب، ثم تحديد النسبة والتناسب بينهم. كما أبانت الجداول عن التوزيع المكاني للمدارس، وكيف ازدحمت في نطاق عمراني مثل الجنوب الشرقي أكثر من غيره. ومن الإحصاءات استطاع الباحث أن يحسب معامل صلة الجوار لكل مرحلة، ومن الطبيعي أن تكون الثانوية أكثر تباعدًا من المتوسطة التي تبتعد عن بعضها أزيد مما في المدارس الابتدائية، وبناء على النتيجة يمكن الحكم على مستوى العشوائية في انتقاء الأماكن حسب عوامل سكانية ومكانية وغيرها، مع اقتراح سبل التصحيح.

إن هذا الكتاب يكرس التميز التاريخي والمعاصر لهذه الحاضرة السعودية الغنية بالعلم والتجارة والتاريخ والأدب، والثرية بأسرها وأفرادها من رجال ونساء. وكم أتمنى تكملة الجهد بدراسة التعليم النسائي في عنيزة، حتى يستطيع القارئ أن يتصور أحوال التعليم كاملة في هذه المنطقة قدر المستطاع، وهو أمر غير يسير لشح المصادر والمعلومات، بيد انه لن يكون عسيرًا على من وفقه الله من ذوي الاجتهاد والهمة؛ فاللهم هبنا من الحول والطول والقوة ما يعين على تجلية النافع الباهر.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

 ahmalassaf@

ليلة السبت 23 من شهرِ شعبان عام 1443

26 من شهر مارس عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)