سير وأعلام

عثمان الخويطر: نبيل بين النفط والحياة!

Print Friendly, PDF & Email

عثمان الخويطر: نبيل بين النفط والحياة!

إذا تقدم الإنسان في العمر حمل من الخبرة ما يؤهله لأن يكون مفيدًا ولو أن يروي ما عاصره وما تمحض لديه من آراء وإن كانت قليلة. فإذا جمع إلى عصارة الأيام شيئًا من المعاناة والعيش في أزمنة مختلفة، ووفق إلى عقل بصير، وقراءة نافذة، وكتابة منبثقة عن دراية وممارسة، ثمّ كانت له تجارب في الدراسة والعمل في قطاع حيوي للغاية وبمنصب مؤثر، إضافة إلى حياة منزلية ناجحة بادية الثمار للمراقبين، مع اتجاه صوب الأسرة والمجتمع وعمل الخير ونفع المجتمع خاصة بعد التقاعد؛ فحينها يصبح مثل هذا الإنسان كنزًا يمشي على الأرض، ومن الحصافة الإحاطة بالكنوز، والظفر بإشعاعها وبريق الحكمة من أقوالها وأفعالها، ولو أن يخرج المرء منها بخلاصة واحدة.

مثل هذا الوصف يصدق على عدد من خيار أهل بلادنا وغيرهم، الذين لم يأخذهم التقاعد إلى زاوية مظلمة، أو يوجب عليهم الانكفاء وحصر النفس في هوّة سحيقة من النقد والتململ، أو حتى الانشغال بأضيق دائرة دون ما سواها. وهذا الوصف الجميل يصدق أيضًا غاية الصدق بلا مبالغة على المهندس عثمان بن حمد الخويطر، الذي ولد في عنيزة عام (1352)، وعاش حياة بعيدة عن الاكتفاء بله الترف، فعمل مع والده أو منفردًا، وتنقل بين عدة مدن بحثًا عن لقمة العيش التي تعين أسرته وتعينه، وتقضي عنهم هموم الدين وتزيح قيوده وأغلاله؛ فالدَّين ثقيل مؤرق ينفي الراحة والسكون عن صاحبه، والوفاء به واجب.

لأجل ذلك انقطع أبو نبيل عن الدراسة مبكرًا بعد نيله قسطًا منها في الكتاتيب والمدرسة الابتدائية، والذي يبدو أنه انهمك في العمل وهاجس الدراسة يستيقظ معه ولا ينام البتة، لأن دخوله المبكر في سوق العمل يعود إلى ضغط الديون على والده؛ ولذلك سافر الخويطر بين عنيزة ومكة والظهران ورأس مشعاب وعرعر والأحساء والكويت والرياض للعمل في شركات مثل أرامكو والتابلاين، ولممارسة العمل الحر في متجر أو عبر الاستيراد، وهو ما لم يستمر لأن الرجل أيقن مبكرًا أنه لم يخلق للتجارة والصفقات.

ولأن التعليم رغبة منغرسة في نفسه، فقد تقدم قبل زواجه بأشهر لنيل شهادة الابتدائية من المنازل، ولم يقنع بذلك فبعد الزواج واصل الدراسة المتوسطة والثانوية نهارًا، وهو من أول دفعة تخرجت في ثانوية عنيزة عام (1378) كما ورد في كتاب يرصد حركة التعليم بعنيزة، ورشح ضمن المبتعثين إلى أمريكا لدراسة هندسة البترول بعد ذلك مباشرة، ومن اللطيف الإشارة هنا إلى أن الخويطر لو لم يحظ بزوج متعاونة متفانية لما استطاع الجمع بين العمل والدراسة ومتطلبات المنزل بتفوق ونجاح؛ فالتحية هنا تتسامى إلى أم نبيل مع الدعاء.

وفي طريقه إلى تكساس قابل الوزير الشيخ عبدالله الطريقي بمكتبه في جدة لمدة نصف ساعة، وهي المقابلة التي زادت من حماسة الخويطر، وأشعلت في نفسه محبة الطريقي من لقاء يتيم؛ فالرجل أخلص لبلاده ومواطنيه، ومن جملة حسناته أن عقد اتفاقية لتأهيل السعوديين عبر الجامعة التي درس فيها ليكونوا خير معين لوطنهم في صناعة النفط المهمة، وحتى لا يستفرد الأجانب الغرباء بالعلم والعمل والثروة. وأصبح المهندس عثمان كثير الثناء على أبي صخر فيما يكتبه أو يتحدث به مع المؤلفين أو للبرامج التلفزيونية، بل ويشكر من يكتب عن الطريقي كما حدث معي، والوفاء صفة ظاهرة في صاحبنا الذي ينادي الشيخ عبدالله النعيم بلقب الأستاذية حتى الآن؛ لأن أبا علي درسه في مرحلة سابقة مع أنهما قريبان جدًا في السن.

وتأكيدًا لصفتي الوفاء والنبل ما أخبرني به المحامي د.هشام الذكير بأن والده الكريم الشيخ صالح بن أحمد بن صالح الذكير يجتمع في دورية شهرية مستمرة منذ منتصف شهر شوال عام (1410) مع خريجي ثانوية عنيزة دفعة عام (1378) الذين يسكنون في المنطقة الشرقية، وعددهم اثنا عشر شخصًا منهم المهندس الخويطر، وفي كل اجتماع لهم يتصلون هاتفيًا بفراش تلك المدرسة الذي عاصروه وتعاملوا معه؛ فيسلمون عليه واحدًا واحدًا بتوقير وتبجيل؛ لأنه كان يشاركهم في لعب الكرة فجرًا بالمدرسة، ويحضر لهم الفطور الصباحي المكون من جبن مع الخبز والشاي.

بعد العودة من أمريكا عمل الخويطر في شركة أرامكو منذ عام (1384=1964م) إلى أن تقاعد عام (1416=1996م). وتدرج من وظيفة مهندس إلى أن أصبح مدير عام الإنتاج في الشركة الضخمة، ثمّ مدير عام عمليات التنقيب والحفر، وفي عام (1414=1994م) أنتخب من قِبَل مجلس إدارة الشركة نائبًا للرئيس لشؤون الإنتاج، وأصبح فيما بعد نائب الرئيس لهندسة أعمال البترول، وهو واحد من اثني عشر نائبًا لرئيس أرامكو ينتمون لمدينة عنيزة وهي مزية لم تتكرر لغيرها من المدن.

كما شارك المهندس عثمان في أواخر الثمانينات الميلادية في عملية إستراتيجية لإكمال انتقال ملكية شركة أرامكو وإدارتها كلها، وتحويلها إلى شركة وطنية في جميع المستويات والعمليات باسم أرامكو السعودية، وهي قصة بمثلها يفتخر، وجديرة بأن تروى وتحكى. وبعد تقاعده من العمل الرسمي عيّن عضواً في مجلس إدارة شركة الحفر العربية، ثمّ عضوًا في مجلس إدارة هيئة تنظيم الكهرباء والإنتاج المزدوج، ويبدو أنه قريب من الطاقة بأنواعها، والله يزيده طاقة أينما حل.

ويشار في هذا السياق إلى أن نجله الموهوب الأستاذ أحمد بن عثمان الخويطر أصبح من نواب رئيس أرامكو فيما بعد، وهذه مزية للأب الذي عمل أنجاله الأربعة في شركة أرامكو في توافق لافت، ولم تبتعد كريمته الوحيدة عن هموم والدها وإن انصرفت صوب التعليم والتوجيه التربوي والإدارة المدرسية. وقد اختصر الخويطر سيرته الذاتية في كتاب عنوانه: “رسالة الى أحفادي”، ولكأنه يقول: بعد أن أشرفت على تربية أولادي حتى نبهوا؛ فهذه خلاصة مكتوبة لأحفادي وجيلهم. وجمع مقالاته التي نشرها في صحيفة الاقتصادية خلال عشر سنوات في كتاب من جزئين بعنوان: “خواطر نفطية”، وهذا من النصح لقطاعنا الحيوي، وللعاملين فيه من أهل التأثير والإدارة والتنفيذ.

وقد أحب المهندس عثمان عمله ومهنته، ووجد أبو نبيل في بيته الرَّوح والسكينة، ولذا أجاب عبر حسابه اللذيذ المفيد في تويتر، مخاطبًا أحد الكتّاب الذين تساءلوا عن حال الناس مع العمل وكره الذهاب اليومي إليه قائلًا: ليس كل الناس! عندما كنت عام (1406=1986م) مسؤول الإنتاج بأرامكو في منطقة السفانية التي تبعد عن الظهران (250) كيلو، كانت أسعد أيامي يومي السبت والأربعاء؛ فالأربعاء العودة إلى أسرتي في الظهران، والسبت الذهاب إلى عملي في الشمال! ومع هذا الحب نجد لدى كاتبنا خصيصة جميلة في تجاوز التعميم، ورفض الانسياق خلف الآراء الجاهزة أو الملقاة دون تحرز.

وفي تغريدة أخرى صريحة متسامية تعلي من قيمة العمل، وتحيي في النفوس الهمة نحو الكدح مع الصبر رجاء الظفر بما هو خير، فالآخرة في الدنيا للمجتهد خير من الأولى بما فيها من تعب وجهد، ولذلك يخبرنا الخويطر بصراحة خالية من التردد والتعريض بأنه عمل صبيًا في منزل أسرة كريمة بمكة عام (1365)، ومهنته التنظيف وقضاء حوائج الأسرة، فاللهم اغفر لمن عمل بشرف حتى بات كالًا من عمل يده، وهي فرصة ثانية لدعوة القارئ كي يتجول في حساب أبي نبيل بتويتر، وسيظفر القارئ بدرر وفوائد حياتية وعملية، ويمتاز م.عثمان بالتفاعل الإيجابي مع قرائه ومحاوريه وسائليه، ولا يحبس نفسه بادعاء الانشغال كما يصنع بعض المتعالين غطرسة وغرورًا.

ثمّ إن الخويطر لم يجعل من التقاعد آخر المطاف، إذ التفت بكليته نحو أسرته العريقة، ويمم نشاطه للعمل المجتمعي والخيري بدرجة أزيد من السابق، ورأس صندوق الأسرة بعد صدور التصريح الرسمي له، وشارك في مجلس إدارة وقفها، وبذل نفسه ووقته في هذا الشأن دون أن يجعل من السن حاجزًا معيقًا. وله في العمل الخيري داخل أسرته باع في الخفاء دون نظر لمدى علاقته مع المستفيد. وله في المجتمع إسهام نموذجي بارز من خلال إنشاء أربعة مراكز علاجية للجنسين من ذوي الاحتياجات الخاصة، وتقع في المدينة الإنسانية بالقصيم القريبة في موقعها من عنيزة. وغدا م.عثمان مثالًا في المسارعة إلى كل خير يستطيعه سواء بالإنفاق أو بذل الجاه والفكر والوقت لخدمة هذا الجانب الذي يزيد من إشراقة حياة المرء وقيمتها، ونسأل الله القبول الحسن، وجعل العمل والعامل للمحسنين قدوة وإمامًا.

وبعد فإذا كنت من أسرة الخويطر، أو من أهل عنيزة، أو من ساكني المنطقة الشرقية، أو من العاملين في شؤون النفط، أو في رحاب العمل المجتمعي، فدونك هذا الرجل النبيل لتقتبس جذوة من فكره، أو شعلة من نشاطه بالتحلّق حوله، أو الاستماع له والقراءة منه وعنه. وإذا قعد بك قاعد فلا أقل من أن تنظر إلى حسابه في تويتر، أو تقضي وقتًا مع سيرته وكتبه، ومن المؤكد أنك ستخرج من هذه الخلوة بفوائد وقصص وخبرة محكية دون تصنع، والله يبارك في الرجل النبيل وفي عمره وعمله وعلمه وقلمه وآثاره.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الأربعاء غرة شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1443

الأول من شهر يونيو عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. جزاك الله خيرا الكاتب احمد حفظه الله ورعاه .عى هذه المقالة القيمة عن النبيل ابو نبيل عثمان الخويطر . اسم على مسمى فالنبل صفة تجمع بين الذكاء والنجابة والرفيق باصلاح عظام الامور . هذا مايلمسه القارئ من قراءة المقال فهو نموذج للااقتداء . فانا لست من اسرته او مدينته ولكن لي الاعتزاز ان اكون له اخت في الله

  2. السلام عليكم ورحمة الله
    عزيزي الاخ أحمد أسعد الله صباحك وكل يومك.
    استمتعت هذا الصباح بقراءة مقالك الضافي عن المهندس عثمان الخويطر في مدونتك سير واعلام وكعادتك ابدعت بإيصال المعلومة بسلوب ادبي رفيع .. بارك الله في جهدك
    ودمت بود .
    اخوك /
    فهد… (ابو سليمان )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)