شريعة وقانون

هيئة من الخبراء والكبراء!

Print Friendly, PDF & Email

هيئة من الخبراء والكبراء!

من سعادة أيّ مجتمع واستقراره أن يكون فيه لأهل الرأي والخبرة مشورة نافذة، وموضع جليٌّ في الشؤون المهمة والعامة، وأن ينتشر أهل المعرفة والبصيرة من العلماء والنجباء وذوي الهيئات في مؤسسات وهيئات ومجالس ولجان يضمن تعددها وفرة مراكز التأثير الحسن، ووجود نوع من التنافس الحميد، والرقابة التي تُبتغى منها المصلحة العامة لا غير، وكذلك توزيع الأعباء والقدرات، وإن كان هذا الوصف صعب المنال على التمام إلّا أن التقارب منه ممكن، ومبلغ نفس عذرها مثل منجح”، والحمدلله على ما منّ به علينا من نوايا، ورجال، وأجهزة، وتنظيمات، وتطبيقات.

ومن أبرز الكيانات الحكومية التي يصدق عليها الوصف السابق هيئة الخبراء بمجلس الوزراء، التي نشأت مع بدايات تكوين المجلس وصدور أول نظام له عام (1373) باسم شعبة الخبراء الفنيين أول الأمر وربطت برئيس المجلس، وأعيد التأكيد عليها في نظام المجلس الصادر عام (1377) ضمن وحدات المجلس ومكوناته، ثمّ صدر نظامها الداخلي عام (1394) وربطت بالنائب الثاني، وعقب ذلك أضحت شعبة مستقلة ماليًا عام (1396) وفرعًا قائمًا بذاته من فروع المجلس التي ترجع لرئيسه مباشرة، حتى أعيد تسميتها مع آخر تحديث كبير لنظام مجلس الوزراء عام (1414)؛ فغدت معروفة باسم هيئة الخبراء ضمن ديوان مجلس الوزراء، وهكذا أصبحت كيانًا إداريًا بارزًا في جميع التطورات التنظيمية التي جرت على الدواوين الملكية دون أن تمس صورتها الأخيرة؛ لتبقى بيت خبرة عريق في المجال القانوني له تبعية إدارية واضحة عالية، واستقلالية في الموازنة، ومثلها في العمل بغية تحقيق المصالح العليا، ورعاية الصالح العام.

لذلك ارتبطت الهيئة بالتوجيهات المباشرة من لدن رئيس المجلس أو نوابه، واختصت بدرجة رئيسة بالعمل القانوني في النواحي التشريعية والتنظيمية، سواء بتحضير مشروعات أنظمة جديدة، أو مراجعة المشروعات النظامية المقدمة من أجهزة الحكومة، أو اقتراح تعديلات على الأنظمة واللوائح القائمة، ووضع الصيغ للمراسيم والأوامر الملكية. ومن الأعمال التي تؤديها الهيئة التدقيق في الاتفاقيات الدولية والمعاهدات قبل التوقيع عليها، ولأجل ذلك أضيفت إليها شعبة للترجمة من أعمالها قسم يختص بهذا الجانب المهم والحيوي مع أعمال أخرى جليلة وضرورية.

كما أن الهيئة تدرس مع الأجهزة الحكومية الأخرى الموضوعات التي تُحال إليها من المقام السامي، أو من مجلس الوزراء، أو من المجالس العليا، وهي موضوعات ذات مساس بقضايا مهمة وجوهرية إن على صعد التشريع، أو في مجالات التطبيق والتأثير المجتمعي والرسمي، وهذا مفهوم من صفة صاحب الإحالة من الشخصيات الطبيعية أو الاعتبارية، ومن طبيعة عمل الهيئة واختصاصها الذي لا يمكن مزاحمته بأمر لا يقلّ عنه جسامة وخطرًا.

أما طريقة عمل الهيئة فخلاصتها تشاركية بين لجان داخلية، أو مع مؤسسات حكومية أو مجتمعية، وربما يستعان بذوي الخبرة من الأفراد أحيانًا أو القطاع الخاص. وأظهر شيء في عمل الهيئة هو الاجتماع الصباحي اليومي للهيئة العامة فيها، وهو الاجتماع الذي يحضره الرئيس ونائبه والمستشارون، وهو أهم الأعمال اليومية وأكثرها، وله نظام تفصيلي دقيق، ومن المؤكد أن هذه الطريقة تزيد من متانة العمل وتجويده، ومن مهارة العاملين في الهيئة وتبادل خبراتهم، حتى وإن امتد وقت الإنهاء قليلًا بسبب تزاحم الأعمال، وقلة عدد المستشارين، فالأمر جلل، ويستأهل الأناة، وتقليب أوجه النظر بالحدّ المعقول المقبول من الزمن.

وتكون غالب مداولات الهيئة العامة أو لجان العمل للإنشاء والابتداء، أو للدراسة والاقتراح، أو للتعديل والصياغة، أو لوضع أنظمة انتقالية، وقواعد عامة، وغير ذلك مما يحتف بعمل الهيئة المرهق ذهنيًا؛ لارتباطه بعدة محاور آنية ومستقبلية، تستلزم صحة التصور وصواب التوجيه، وإجراء الموازنات فيه عند الضرورة، والترجيح حسب مقتضى الحال أو استشراف المآل، وتقديم الأنفع والأصلح، ودفع ما سوى ذلك، مع سؤال الله التوفيق، والإصابة، والسداد.

لأجل ذلك جاءت التوجيهات صريحة بشأن استقطاب الكفاءات المؤهلة لمناصب الهيئة وأعمالها، وتدرج عدد من رؤساء الهيئة إلى هذا المنصب عبر سلسلة أعمال استشارية وإدارية حتى أصبح كل رئيس منهم على أهبة الاستعداد كي يقف على رأس الجهاز الذي لا يقعد عن العمل. ومن نافلة القول إن عملًا هذا شأنه لجدير بالأذكياء من ذوي النباهة والجدية، وبالأزكياء من أهل الصدق والإخلاص، ولذلك قصرت الهيئة وظائفها على أوائل الخريجين في التخصصات القانونية، وسعت لتدريبهم في أروقة الهيئة، وابتعاثهم إلى جامعات مرموقة لمزيد من الإعداد.

وممن عمل في الهيئة أو قريبًا منها ثمّ أصبحوا وزراء فيما بعد الشيخ أحمد زكي يماني، والدكتور عبدالله العمران، والشيخ محمد بن زرعة، والشيخ محمد العلي الفايز، كما كان من العاملين في الهيئة عبر تاريخها مستشارون ذووا كفاءة علمية بادية، وموهبة ذهنية وصياغية، وقدرة إدارية وتأليفية مشهود لها، وحصرهم يصعب؛ فمنهم غير الرؤساء الشيخ محمد الصقر الذي احتفى به الوزير القصيبي شعرًا، وأثنى الوزير الخويطر في يومياته على جهده للتوفيق بين اللجنة العامة بالمجلس والهيئة. ومنهم د.محمد المرزوقي صاحب الخبرة العملية العبقة، والتآليف المحكمة في الفقه الدستوري، والسلطة التنظيمية، والصياغة القانونية، والأحكام القضائية، والمصطلحات، إضافة إلى المستشارين: أ.عاصم العيسى، وأ.صالح العبيسي، وأ.محمد الغيث، وأ.عبدالعزيز العبدالوهاب، وآخرين سواهم ممن لم يبلغهم علمي القاصر وهو سبب للعذر، وإنما هي عينة دالة فقط، وقد غادر هؤلاء المذكورين المكان مفسحين المجال لخبرات جديدة، وكفاءات تحمل العبء والأمانة الثقيلة؛ ولا غرو فنحن أمة الإسناد الصادق، والتعاقب الرشيد.

أما أصحاب المعالي رؤساء الشعبة والهيئة منذ بداياتها الفعلية عام (1394=1974م) إلى يومنا الحاضر فهم ستة رؤساء منهم ثلاثة صاروا أعضاء في مجلس الوزراء، والثالث من الرؤساء كانت رئاسته بالتكليف. فأولهم هو الشيخ صالح الحصين، ولم تطل مدة رئاسته لأنه استعفى من المناصب كلها، والشيخ علم فكري وإداري وتأسيسي، وقامة شامخة في العمل الخيري المحلي والعالمي، وممن جمع علمي الشريعة والقانون، ودرس على يد العلامة السنهوري. وجاء بعده د.مطلب النفيسة الذي يمكن وصفه بالرئيس المؤسس والأطول مدة حتى الآن (1395-1416=1975-1995م)، وهو من خريجي هرفرد، وممن درسوا في معهد الإدارة وجامعة الملك سعود، وتلاه مباشرة الأستاذ ناصر السميري، وهو من قدماء العاملين بالشعبة والهيئة، العارفين بتطوراتها وتاريخها، والله يرحم أيّ راحل مذكور، ويلطف بالمرضى، ويوفق البقية للمعروف والإحسان.

ثمّ آلت الرئاسة إلى أحد أعمدة القانون في السعودية والقانون التجاري على وجه الخصوص تعليمًا وتأليفًا وممارسة وتطبيقًا، وهو الدكتور محمد الجبر الذي أدركته المنية وهو على رأس الجهاز، فتعاقب على الرئاسة بعده اثنان من أنبه طلابه وأقربهم إليه، وهما ممن تخرجوا في الدفعة الأولى من قسم الأنظمة بكلية العلوم الإدارية في جامعة الملك سعود عام (1403=1983م)، فأولهما د.عصام بن سعيد الذي أصبح وزير دولة وعضوًا في مجلس الوزراء عام (1436)، وأنيطت بمعاليه مؤخرًا مسؤولية الارتباط بين مجلسي الوزراء والشورى عبر منصب وزير الدولة لشؤون مجلس الشورى، وهي لفتة بارعة ذات معنى لصلة الشورى الوثيقة بالعمل التشريعي، ولتمتين العلائق بين المجلسين وما يتبعهما.

والثاني هو الرئيس الحالي الأستاذ محمد العجاجي الذي كان أحد ستة طلاب تخرجوا في الدفعة الأولى كما أسلفت، وفي عهده أصبح للهيئة موقع إلكتروني مرجعي للأنظمة يحدّث باستمرار، وزادت كثافة العمل المسند للهيئة سنة تلو أخرى حسب إحصاءات الموقع، واقتربت الهيئة من مؤسسات حكومية شرعية ومرفقية بالتعاون وتبادل الآراء، وفتحت نافذة للناس عبر استطلاع الآراء بناء على توجيه من المقام السامي. ولمعاليه محاضرة نافعة في اليوتيوب عن الهيئة وعملها، ألقاها في كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة الملك سعود، وهي لباب مختصر، ولحقت بها نقاشات مفيدة مع الأساتذة والطلاب. ويعين الرئيس الحالي نائبه د.عمرو رجب، ومساعده أ.بدر الهداب، وقائمة من المستشارين ذوي الصفاء في الذهن، والبهاء في النفس، والدأب على الإنجاز.

إنه حقًا لجهاز مهم للغاية، وهيئة فيها جملة من الخبراء البصراء، وطبقة من الكبراء الأكارم، وجمع من العلماء والأساتذة، والداخل إليها بعمل أو استشارة يخرج منها وقد زاد واستزاد ولا بد، وفيها عمل رجال دولة كثر، حتى أصبحت الهيئة مكانًا للإنضاج الفكري، والتطوير الفقهي والقانوني والمصلحي، مع إتقان بُعد النظر، وفضيلة التروي، وإجادة الوصول الآمن للمبتغى، والمنتظر منهم أكبر، والرجاء لا يخيب وإن عظم المطلوب.

وعسى أن يُتاح للهيئة التوسع والمزيد من الاستقلالية، مع القدرة على الرصد وإجراء الدراسات، لتضم مع خريجي الشريعة والقانون أصنافًا مهمة من دارسي الاقتصاد، وعلم الاجتماع، والدراسات الأمنية، والإدارة، واللغة العربية، واللغات الأجنبية، والذكاء الاصطناعي، وغيرهم ممن تبزغ الحاجة الدائمة إليهم أو حتى المؤقتة، والله يكتب لهم وعلى أيديهم الخيرات العظام، والمحاسن الكبيرة، التي ينعم بها القاصي والداني من أهل البلاد وساكنيها، وممن عبر بها محبًا مخلصًا نافعًا، ويرتدع بمخرجاتها الضابطة الحافظة من لا تردعه غير الصرامة والقوة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 20 من شهرِ شوال عام 1444

10 من شهر مايو عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. مقال جميل وثري ومفيد. مع اني اعمل ولله الحمد في احد القطاعات الحكومية ولدي تجارب عدة في تمثيل قطاعنا لدى الهيئة. وبعد قراءتي للمقال ازددت اجلالاً لهذا القطاع العظيم.
    شكراً لك ولقلمك الجميل ولجهودك الطيبة

  2. صباح الخير استاذ احمد ، وإن شاء الله تكون بخير . اشكرك الله يسلمك جزيل الشكر على تسليط الضوء – من خلال مدونتكم المعروفة وذات المصداقية والحيادية المشهود بها- هلى تأسيس ونشأة الهيئة وعملها الحالي ودورها. ومن توفيق الله اني كنت جزء من هذا الجهاز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)