سير وأعلام عرض كتاب

فهد العقيلي: أمير المذنب الأبرز*

Print Friendly, PDF & Email

فهد العقيلي: أمير المذنب الأبرز

تحافظ المجتمعات الأصيلة على عراقتها بتعزيز ثقافتها، وحمايتها وترسيخها في وجدان الأجيال حتى وإن تباعد بهم الزمان أو نأى عن أعينهم المكان؛ ليعرف المرء ما لا يسعه جهله تاريخيًا وبلدانيًا ولغويًا عن أهله وأناسه، مع الإلمام بأخبار دياره وماضي قومه ليدرك مراميهم ويستوعب مرتكزاتهم. أما من تعمّق في هذا الشأن فبحث ونقّب في المخطوطات والمرويّات ودواوين التاريخ والتراجم، فقد أضاف قيمة جديدة تصبّ في صالح تأكيد تلك العراقة وتثبيتها، وتصير له بذلك على مجتمعه يدٌ سابغة بالخير سابقة بالمعروف، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.

لأجل ذلك سعدت بالجهد الذي بذله الأستاذ الباحث خالد بن دحيم الحسياني في سعيه الحثيث لجمع تراجم عدد من رجالات المذنب ثمّ نشرها في مجلد كبير كي تصبح محفوظة ومتاحة لمن شاء أن يرجع إليها ويغترف منها، ثمّ انفتل إلى عمل منبثق عن جهده السابق ولكن بتوسع وإسهاب؛ لكتابة تاريخ أمير المذنب الأبرز الأمير فهد بن عبدالكريم بن إبراهيم بن ناصر بن إبراهيم العقيلي (1288-1378) حتى تعي الأجيال شيئًا من تأريخ الآباء والأجداد، وتقف على مآثرهم الخالدة، ومواقفهم المبينة عن طيب معادنهم.

ومما يلفت النظر في سيرة الأمير، أنه تولى الإمارة وهو على عتبات العشرين من عمره بعد سنة واحدة من انقضاء معركةالمليداالشهيرة عام (1308)، تلك الواقعة المريرة التي مات فيها خلق من أهل القصيم، منهم أمير المذنب الأمير صالح بن محمد الخريدلي. واستمر العقيلي أميرًا لمدة تصل إلى ستين عامًا مع انقطاعات يسيرة بسبب تكليفه بمهمات عاجلة، إلى أن توفاه الله وارتحل عن الدنيا، ومع أنه لم يخلّف ذرية من نسله وراءه؛ إلّا أنّ ذكره خالد بأعماله، وتاريخه، وبطولاته، وبوفاء بلدته وأهلها له.

كما يدّل تعيينه المبكر أميرًا على المذنب وهو شابٌّ في مقتبل العمر، وتثبيته على الإمارة من قبل الملك عبدالعزيز، والتفاف الناس حوله، ورجوعه السريع إلى الإمارة بعد أيّ انقطاع يسير عنها، وطول المدة التي قضاها أميرًا لبلدته، على أنه كان مرضيّ الطريقة في الإدارة، وموضع الثقة والأمانة عند الملك عبدالعزيز صاحب البصيرة النافذة في تقييم الرجال، وأنه كان أيضًا محمود السيرة عند أهل بلدته وجماعته الذين بادلوه الحب والولاء، وأطاعوا أمره في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، وحفظوا له المودة والتوقير حتى عقب وفاته.

وسوف يلاحظ القارئ أن هذه المدينة الوادعة الواقعة في الواجهة الجنوبية من منطقة القصيم، قد تعاقب عليها عدّة أمراء من بيوت كريمة مختلفة ومنهم أسرة الأمير العقيلي وهي من أطولهم مدة، وفي هذا الملمح دليل على توافقية حميدة بين أهل البلدة، وسعيهم نحو اختيار الأصلح لبلدتهم والأقدر على تسيير شؤونهم، وتلك سجيّة حميدة، وفضيلة كبيرة، تجعل القوم في وئامٍ تامٍ، وإخلاص منقطع النظير، وهو ما سيجزم به القارئ حين يواصل قراءة هذا الكتاب بإمعان وتركيز وشيء من التحليل.

كذلك سيجد القارئ عن المذنب وأمرائها وأهلها من الرجال والنساء أنّ فيهم كرمًا كبيرًا حتى صارت البلدة موضعًا آمنًا تنزل فيه الجيوش، ومعبرًا محبوبًا ينفذ منه المسافرون والرّحالة لما يجدونه من سماحة نفس وحسن استقبال. ولهذه الخصيصة العظيمة ظهور وارتباط مع قصر عين العقيلي المشهور، ومع حكاية أكلة الجريش المتداولة، فضلًا عمّا حفلت به أخبار البادية والرحالة من ثناء وشكر؛ فالمذنب وأهلها متميزون تمامًا كما امتازت في أرضهم الطيبة السكرية الحمراء بطعمها اللذيذ الآسر.

وإذا رجعنا إلى الأمير ورجالات البلدة الكبراء، فيمكن لنا أن نرسم الخطوط العريضة التي سار عليها أولئك الكرام، وعلى رأسها توقير الشريعة والعلماء والقضاة والأئمة، والسمع والطاعة للحاكم بالمعروف، وإرخاص كلّ ثمين في سبيل حفظ الدين ثمّ العرض والأرض، وتحقيق الأمن والوحدة. ولهم في ذلك مواقف تصف الشجاعة والإقدام من جهة، والحصافة والرشاد من جهة أخرى. وأما الخلال العربية النبيلة من مروءة، وشهامة، وكرم، ووفاء، وأنَفَة، وتعاون على الخير، ففي الكتاب عنها شواهد شامخة تدل على نفسها دون غبش أو قصور، وبواسطتها استطاعت البلدة وأهلها تحقيق المصالح العامة العليا وتقديمها على ما سواها.

إن الباحث الأستاذ خالد الحسياني يشارك بمؤلفه هذا مع مؤلفاته السابقة في مسيرة توثيق الأحداث، وحفظ التاريخ ونقله، وهي أعمال صعبة وعرة، بيد أنها جليلة عظيمة الأثر في الحال والمآل، وأتمنى له المزيد من التوفيق لإكمال هذه الدراسات سواء عن المذنب في شؤونها البلدانية والتاريخية والتعليمية، أو عن بقيّة مدن القصيم والمملكة، وهو لهذا أهل، ومن الله جميعًا نستمد التوفيق والتيسير والتسديد.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

 ahmalassaf@

الأربعاء 29 من شهرِ محرم عام 1442

17 من شهر سبتمبر عام 2020م

  • هذه المقالة تقديم لكتاب سيطبع قريبًا.
Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)