مع منتخبات الظل والحرور
هذا الكتاب لافت في عنوانه، وإهدائه، ومضمونه، وإخراجه، وتفاعل الناس معه. ففي العنوان اجتمع النقيضان وهكذا هي الحياة التي لا تصفو أبدًا، ولا يدوم كدرها، وهي بين بين. وجاء الإهداء إلى القصي الداني ليكون الرمز فيه حاضرًا، وقديمًا قال شاعر إنه تداوى بالقرب والبعد فلم يشفه منهما شيء، وبقي في النفس شيء وأشياء! أما المضمون فسيأتي طرف من خبره، وكذلك الإخراج والتفاعل.
عنوان الكتاب المقصود كما استبان: الظلُّ والحرور: منتخباتٌ من السير الذاتية، المجموعة الأولى، وهو من تأليف: فهد بن عبدالله بن صالح الجريوي، وقد صدرت عن آفاق المعرفة طبعته الأولى قبل أيام قلائل، ويقع السفر ذو المضمون الأنيس في (562) صفحة، وحظي بإخراج جاذب عبر طباعة أنيقة سواء في غلافها الأمامي والخلفي، أو في ورقها النباتي المريح للنفس، وحرفها الواضح للعين. وللمؤلف اختصاص ظاهر بالسير الذاتية، ومن ذلك قربه من آخرين ممن اعتنوا بالسير الذاتية درسًا، وفهرسة معجمية، وإعادة بعث، وكتابة من خلالها، وهذا جزء من الشغف الذي يساكن الإنسان، وهل أجمل من العلم والأدب والتاريخ حين يشغف بها المرء؟!
يتكون الكتاب من المقدمة، ثمّ سرد لأسماء السير الذاتية الواردة في هذه المجموعة، ويعقبها أربعة وعشرون عنوانًا تحت بعضها عناوين فرعية. ومن خلال العناوين الأساسية يمكن حصرها في مجالات الأسرة، والعلم، والثقافة، والتعليم، والعمل، والسفر، والأعلام، والتربية، وأحوال الناس والمجتمعات. ولربما أن حشد عناوين كل مجال، وجعلها متجاورة سيفيد القارئ ما لم يكن التفريق مستهدفًا لتنويع الطعم، وطرد الملل الذي لا يأتي من الأصل.
يقول المؤلف في مقدمته: إن قراءة السير من أشهى أنواع القراءة وأحفلها بالمتعة، ولذا اتصلت أسبابه بهذا الفن منذ عقد مضى، جمع خلاله أزيد من ألف عنوان لسير ذاتية مختلفة في التخصص والبلد ومدى شهرة المؤلف. ولم يجد المؤلف ميلًا في نفسه للمذكرات السياسية- وهي فرصة لمن شاء الغوص بها-، كما أصابته كثير من السير بخيبة أمل لضعفها وشح فوائدها. وبعد هذه العِشرة خلال السنوات العشر انتخب للقارئ خلاصات بعد تنقيتها وتنظيمها في فصول موضوعية حتى تكون ثمرة دانية القطاف، ناضرة الرواء، وغاية الرجاء أن يجد القارئ فيها لذة هينة لينة، ويقع منها على ذكرى تعينه، وحديث يسليه، وأبشره أن قد كان.
ثمّ أوضح الشيخ فهد طريقته في انتقاء كتب السيرة التي سينتخب منها، ودون رأيه بخصوص أجمل السير الذاتية العامة أو المتخصصة التي قرأها، واستقى من غالبها نصوص كتابه. وسرد بعد ذلك عناوين مئة وخمسين سيرة ذاتية حظيت بكونها داخلة في هذا المنتخب بمجموعته الأولى. ونلاحظ من هذا العدد أن السير ذات تنوع في الأجيال، والبلدان، والمجالات، والتوجهات، وفيها رجال ونساء، ومسلمون وغيرهم، وعرب فمن سواهم، وبعضها يقع في جزء وبعضها جاء في أكثر، ولجبرا إبراهيم جبرا ثلاثة كتب ومثله جلال أمين، ولفدوى طوقان اثنان، ومثلها عباس خضر، وكرد علي، ونزار قباني، وعبدالوهاب البياتي، وابن عقيل الظاهري، وهشام شرابي، وعبدالله الطيب.
ومع أن المؤلف الخبير وضع لنفسه حدودًا فيما يختاره كي ينقب فيه، إلّا أنه يحق لنا أن نطمع بأن يعيد النظر في الطريقة عندما يخرج للقراء المتلهفين مجموعته الثانية، ولعله أن يوسع الإطار حتى تدخل بعض السير العظيمة أو الماتعة مثل سيرة نقولا زيادة، والإمام البرقعي، وغازي القصيبي، وعزيز ضياء، وإبراهيم الحسون، ومحمد مزالي، ومنصور الخريجي، وغيرهم مما هو به أخبر وأعرف، مع محاولة تقصير الاقتباسات قدر المستطاع، على أنه قد حرص على ذلك، وفيما نقله إيناس وإمتاع لا تتسرب معه أيّ نية للانصراف عن الكتاب، ولو أن قارئًا أراد الابتعاد عن هذا المنتخب لكنت أول من يفعل؛ ذلك أن هذا الوقت وقت إرباك وإشغال متزاحمة متلاطمة، والله يعين عبده ويلهمه ويرشده.
أما ما سيجده القارئ في هذا الكتاب فغزير مدرار، لا ينبغي لي إفساد متعته الحلال على من ينوي اقتناءه، ففيه شيء من أخبار الآباء والأبناء، والإخوة والأخوات، والأزواج، والمدارس والجامعات، والشيوخ والأساتذة والتلاميذ، والقراءة والكتابة والتأليف والشعر والرواية، والسفر وملاقاة الأعلام، وأحوال الصحة والمرض والسجن، ومن أجلّ الوارد به الاستشهاد بعظمة القرآن العزيز وأثره على الفكر واللسان واللغة حتى من قبل غير المسلمين.
ومن الطريف ولعله من عاجل القبول والبشارة، أني تلقيت رسائل كثيرة عن هذا الكتاب، آخرها بعد نشر المقالة الأولى، وباعثها في لندن يسأل عن كيفية الحصول على نسخة منه ويشتكي من سعر الشحن البريدي الذي استعرت نيرانه مؤخرًا. ووردتني قبله رسائل من عرب وأكراد وأفارقة وهنود، وهم متابعون عبر تويتر أو حالة الواتساب ولا أعرف أكثرهم، وبعض بلادهم قريبة مثل دول الخليج واليمن، وفيها البعيد نوعًا ما مثل السنغال والجزائر وبريطانيا، وهذا التفاعل عسى أن يكون فيه بشرى بالرضا والاستقبال الحسن نزفهما للمؤلف والدار الناشرة، وبشرى أخرى بحب القراءة خاصة في هذا الفن المستطاب، وعسى أن ينجح تسويق الكتاب في الوصول إلى جمهرة الراغبين؛ وإنهم لكثرة غير قليلة، وإنهم لكرام قوم يستأهلون العناء ومن الله نستمد العون والتيسير.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الجمعة 03 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1443
03 من شهر يونيو عام 2022م
