عراقة المكان والكيان!
العراقة كلمة يفوح منها النّبل والفضل، فهي مثل العلم، يدّعيه كلّ أحد، ويسعى إليه الجاد الهمام، ويأنف من نقيضه أهل الحياء، ويغضب من الوصم بخلافه جميع النّاس أو أكثرهم. وفيما سلف من أيّام كتبت مقالة عن الأسر العريقة، حازت على قبول وانتشار دفعني لإكمال الحديث عن عراقة الكيان والمكان بعد الفراغ من عراقة الإنسان.
والكيان مفهوم واسع، يشمل المجتمعات، والحكومات، والمجالس، والوزارات، والجيوش، ومعاهد العلم، والمؤسّسات في القطاعات جميعها، وأمّا المكان فقد يعني بقعة صغيرة أو مساحة شاسعة، وبالتّالي فمدى الحديث متشّعب حتى لو كان التّمثيل بجزء منه، لأنّ الإحاطة تحتاج لتطويل يقصر عنه صبر القارئ وجلد الكاتب.
فمن عراقة الكيان حفاظه على تاريخه وجميع ما يتعلّق به، ولأجل ذلك تنصرف عناية الحكومات إلى جمع الوثائق وصيانتها، وإنشاء المتاحف وإقامة المواسم التّراثيّة، وفي أكثر البلدان مراكز لحفظ تاريخها المكتوب والشّفهي، مثل دارة الملك عبدالعزيز، ومكتبة الكونجرس، وغيرهما.
كما يحافظ الكيان على رموزه من الأحياء والجمادات، فلا تنكّس السّعوديّة علمها لأيّ سبب؛ لأنّه يحمل كلمة التّوحيد، وعلم هذا محتواه جدير بأن يصان عن التّنكيس من كدر الحزن، أو التّدنيس بسفه الطّرب والّلهو، وللآباء المؤسّسين قداسة في الوعي الأمريكي مع أنّ بعضهم قتلة أبادوا ونهبوا.
ويتسّرب هذا المفهوم إلى الرّياضة والفن، إذ تظلّ أندية الكرة متشبّثة بنجومها وأرقام ملابسهم، وتجعلها أيقونة وسلعة، وتحمي هوليود أفلامها وممثليها حتى لو رحلوا، وبمناسبة الإشارة لهوليود، فمن الّلافت أنّ الاختلافات الثّقافيّة بين سينما هوليوود وبوليوود، جعلت من العسير على الهند تقليد هوليوود حرفيّاً؛ فسينما بوليوود متمسّكة بالقيم الاجتماعيّة لحاضنتها في الهند ذات التّقاليد.
ولأنّنا وصلنا إلى الهند؛ فمن المناسب الإشارة إلى أنّ المجتمع الهندي مرتبط بتقاليده، ولغته، ولباسه، دون أن يمنعه ذلك من امتلاك قنبلة نووية، مع تقدّم مذهل في جوانب شتى ستؤهّل دولتهم الضّخمة لاحتلال موقع عالمي مؤثر في قابل السّنوات، ومع كثرة شواهد الارتباط بالتّقاليد في الهند واليابان وسنغافورة لا يزال في ديار المسلمين من يصرّ على نزع جلده ولو سلخًا بحجج داحضة بالمشاهَد فضلًا عن المعلوم بالضّرورة!
ومن العراقة الالتزام بالفكرة الأساسيّة لإنشاء الكيان، فنقضها نذير شؤم، ويظهر الالتزام كثيرًا في العقيدة العسكريّة للجيوش، والأهداف التّجارية للشّركات، والغايات التّعبديّة للأوقاف التي رفعت الشّريعة من عراقتها، وصيّرت شرط الواقف مثل نصّ الشّارع، ومن هذا الباب ألّا تنضوي مؤسّسة تحت ما يناقضها؛ فحماية المستهلِك مثلًا لا يناسب أن تكون تحت وزارة تحمي التّاجر المهلِك!
وتسعى الكيانات العريقة لربط صلة دائمة مع رجالاتها، فالجامعات تمنح مكانة لخريجيها خاصّة المتميزين منهم، وتفسح الشّركات والوزارات المجال لأوائل الموظفين في مناسبتها، وربّما حفظت لهم منجزاتهم ونسبتها لهم، ولا يخفى احتفاء الجيوش بالمحاربين القدامى، وهي سمة تزيد من عراقة الكيان وعبقه.
ومن الغريب أن تحاول بعض الكيانات شطب أسماء تقاطعت معها، فالتّاريخ مثل السّماء لا يمكن حجبها ولا طيّها إلّا يوم القيامة من قبل خالقها فقط، ومن المحزن أنّ جامعة مّا عقدت مؤتمرًا دوليًا، فشكر أحد المشاركين مديرها الأبرز الأسبق خلال كلمته، فقابله المتملّقون لمديرها-آنذاك- بعاصفة لوم وتقريع؛ فلمثل هؤلاء يقال بأنّ الشّمس لا تحجب بشيء، وللعقلاء يقال: لا تسيئوا لعراقة كيانكم!
وبما أنّنا نتحدّث عن الجامعات، فمن العراقة أن تحافظ قلاع العلم على هيبته، وقداسة الحق، وقيمة الدّليل والبرهان، وتبتعد عن تمييع هذه الأمور لأيّ سبب، ومن بديع ما يذكر أنّ منافقًا في جامعة عربيّة عرض دراسة فصاحة خطب زعيمها ضمن رسالة علميّة عليا، فوجم الأساتذة حذار النّميمة والبطش، وأبى رمز بلاغي كبير تمرير الموضوع قائلًا: عن أيّ بلاغة تتكلّم والرجل لا يقيم العربيّة في نحوها، وصرفها، وأساليبها، وبيانها، ومفرداتها، وأصواتها؟!
وترتفع العراقة لتصل إلى قصور الحكم، والمجالس النّيابية، واستقبالات الزّعماء، فلتسلّم مقاليد الإدارة أنظمة وآداب مرعيّة في جلّ البلاد، وللمجالس الشّعبيّة عوائد وتقاليد، ولأنّ أعرقها في بريطانيا ذات الإرث والصّرامة في الحفاظ على عاداتها، ظلّت هذه التّقاليد باقية خاصّة ما يترافق مع كلمة الملكة، وبعضها غريب كجلد الماعز، والرّهينة البرلمانيّة، وطريقة المشي وفتح الأبواب، والشّيء بالشّيء يذكر، فمن رزانة مجلس العموم البريطاني ندرة تصفيقه للخطباء، بيد أنّه كسر هذه القاعدة، وقاطع وزير الخارجيّة روبن كوك بالتّصفيق مرارًا وهو يتلو خطاب استقالته اعتراضًا على حرب العراق عام (2003م).
ومن عراقة المكان أن يكون مأرزًا لما انطلق منه، ولأجل ذلك يأرز الإيمان إلى المدينة النّبويّة حين يغيب عن غيرها أو يطارد أو يضيّق عليه، والأصل أن يستفيض العدل في المحكمة إذا طغى القوي على الضعيف، ويأمن الخائف حين يدخل مكتبًا أمنيّاً، ويتعافى المريض في المستشفى، وإذا حدث العكس فهذا يعني أنّ العراقة غاصت في وحل ولا مفرّ من إنقاذها.
وللمباني صلة وثيقة بعراقة المكان وثقافته، ولتحقيق هذا المعنى السّامي تعكس المباني ثقافة المكان، ونظامه الاجتماعي، ولوازمه المتعارف عليها، والأمر أبعد من الشّكل والتّصميم والزّخارف، فلأهل الإسلام أحكام في بناء أجزاء من بيوتهم ومساجدهم، ولقيمة صلة الرّحم، وحقوق الجوار، وفضل الزّيارة، أثر في تخطيط المدن والأحياء.
كما يرتبط مع المكان عراقة جديرة بأن تصان، ويبرز هذا في الحفاظ على المباني القديمة، والأماكن التّاريخيّة، وهو جزء من اهتمام منظمّات عالميّة كاليونسكو، ولأجله نهض النّاس للحفاظ على حواضرهم العتيقة التي عاش فيها الآباء والأجداد، ولدينا أمثلة بارزة في أشيقر، ورجال ألمع، والأحساء، وجبّة، والغاط، وعنيزة، وعيون الجواء، وغيرها.
وللمجتمع عراقة في عاداته وتقاليده خلال مناسباته الدّينيّة والدّنيويّة، وفي سمته ومجاله العام، ومظهر أفراده من رجال ونساء، وفي لغته وطريقة حديثه، وذات يوم استبسل الفرنسيون للحفاظ على لغتهم من عدوان الألمان، وواجهت اليابان إصرار الأمريكان على طمس لغتهم الصّعبة، فالّلغة ثقافة، واقتصاد، وخصيصة قوميّة عليا لا يتنازل عنها إلّا مجتمع مبتلى بعراقته وقيمه.
ومن العراقة صنع رواية حقيقية مناسبة تخلّد سيرة المكان، أو حكاية الكيان، وخدمتها من خلال إخراجها بأكثر من وسيلة كي تعرف الأجيال ما غاب عنهم حضوره والمشاركة فيه بسبب عوامل الزّمن، وليكون حافزًا لمزيد من العناية بالعراقة، وحمايتها من القوارض والقوادح، وتطوير المحتوى دون جناية على عراقة أصيلة لا تباع ولا تشترى، فالمجتمع العريق لن يغرق مهما تلاطمت حوله الأمواج.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الأربعاء 15 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1440
20 من شهر فبراير عام 2019م
17 Comments
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الكاتب الفاضل حفظه الله ورعاه .
جزاك الله خيرا . كما عودتنا التنوع في مقالاتك القيمة المفيدة والتي تصلح للقراء في كل زمان ومكان . ولكل الاعمار من الجنسين . فكما تفضلت في هذا المقال عن عراقة المكان والكيان . وان العراقة لاتباع ولا تشترى .لو خيرت وانا بهذا العمر بين السكن باي قصر كبير وبيتنا الذي ولدت فيه وترعرت . لااخترت بيتنا القديم . كان بيتا كبيرا نعيش نحن وبيت عمي . تفصل بينهما حديقة كبيرة نسبيا بها من كل اشجار الفاكهة والزهور . وبجانبها بئر ماء . يسخدمونه لسقيها . ولكن بعد زواج ا خواتي لاابناء عمي اضطروا لفصل البيتين . ليمكن عمي من بناء غرف جديدة للعرسان . وكانت الضحية ا زالة الحديقة المفضلة عندي . وحزنت عليها كثيرا . مما دفعني لسؤال والدتي هل اذا سالنا الله العلي القدير ان يرزقنا اي شئ نتمناه يعطينا . اجابتني نعم نساله فيعطي . قلت بيت به حديقة كبيرة و زهور وثمار . قالت لي ان شاء . . وشاء الله ان يتقاعد والدي بعمر مبكر من وظيفته . وعرض عليه محافظ المدينة ان يعينه مدير ميتم تابع للادارة المحلية . لاانه يعرفه وواثق من امانته على الايتام . وخصصوا للايتام دارا واسعا لسيدة ثرية كان يشغل سابقا القنصلية البريطانية بالموصل . واشترطت على والدي ان يبقي البستاني للااعتناء بالزهور المجلوبة من كل انحاء العالم . فابقاه والدي . وبما انه لم يكون لدى والدي سيارة اعطوه دارا من بيوت الادارة المحلية في الجانب الايمن من المدينة القريبة من دار الايتام ليكون على قرب منهم . والبلدار الجديدة حديقة واسعة . ولكن مانغص علي فرحتي . دخول اخي وضاح جمال وجه واخلاق الذي يبلغ من العمر16 لااجراء عملية التهاب الزائدة الدودية ووفاته بخطا طبي فالذي اجرى العملية طبيب مقيم جديد . اصيب بنزيف حاد وتوفى .رحمة الله بكت عليه المدرسة والاقارب والجيران .وانتقلنا الى الدار الجديدة والحديقة الغناء بازها رها ونغصتها برؤية امي التي ثكلت بابنها . ومن بعدها اسقطت تمنى الاشياء الدنيوية من تمنياتي . تركتها على الصدف .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الكاتب الفاضل احمد وفقه الله لما يحب ويرضى
عراقة المكان والكيان . اهم ماتشتهر به استراليا هو انتشار الغابات الواسعة في معظم الاماكن الماهولة بالسكان والمتمركزة في . المناطق السواحلية . ووسطها تقريبا صحراء .تشتهر بمحاصيلها الزراعية المتنوعة . كذلك الفواكه . والمكسرات كالجوز واللوز والفسق والماكديميا واشياء اخرى .منذ ان اكتشفها الكابتن كوك اكثر من 250 سنة . واستوطنت من قبل المهاجرين وسكنوا المدن الكبيرة ذلك الوقت زرعوا الخضروات بدل الازهار في بيوتهم . وهم يحبون الغابات والاماكن الخضراء بدرجة كبيرة ويحافضون على الاشجار الاصلية . التي يطلق عليها اسم [ native]حيث انها تمتد جذورها بالاعماق . وخاصة اشجار الكالبتوس على سبيل المثال امتنعوا عن ازالة شجرة نيتف قديمة شجرة قديمة مزروعة من مئات السنين ليسهلواالمرور .ولذا كثير من بيوتهم تقع وسط الغابات الخضراء . وبلاخص مقاطعة فكتوريا.وحماية الحيوانات التي تعيش فوقها كحيوان الكوالا والبوسام يمنع قتلها ويغرم من يقتلها . لاانهاتعودت على العيش فوق الاشجار . وتعود الناس على السكن بين الغابات وشقوا الطرق . وبنوا الشوارع واوصلوا جميع الخدمات ولكن زيادة عدد السكان والمهاجرين الذي سكنوا في المدن الكبرى وبلاخص سدني وملبورن وكانبرا بدات تتقلص المساحات الخضراء ويحل بدلها الغابات الاسمنتيه لكثافة السكان فيها . سكنت عدة سنوات مع ابني انس حفظه الله في ملبورن ببيت من طابقين يقع بمنطقة سكنية وعند نومي احس كانما احد يتسلق الجدار . اخبرت انس بذلك ابتسم وقال لي يوم… اعتز . . وهو يناديني يوم يعني امي . انت تحلمين . وفي يوم من الايام ليلا وان جالسة بغرفتي سمعت صوت اشبه بحدوث هزة ارضية والله نزلت من غرفتي وانا اردد الشهادة. اواصرخ بابني انس خلينا نخرج للشارع هزة ارضية .خرجنا خارج البيت الى ان هدا الوضع . اتصل بالدلال الذي اجر لنا البيت ولحسن الحظ كان يسكن قريبا من سكننا.اتي وطماننا . بان ماحدث شئ طبيعي فالمنطقة السكنية كانت غابات ازيلت ولكن حيوان البوسام الذي يبلغ وزنه 7 كيلوا غرام . ولكن ظل ياتي الى نفس المحل .في السقف اي يسكنون سقوف البيوت محل الشجرة. وماحصل هو تعدي بوسام اخر على سكنه وغذاءه واطفاله . فاشتبك معهم في معركة حامية ومطاردة دامية وانتهت قصة حيوان البوسام . . وكل بناء قديم في استراليا اكثر من 150 سنة لايزال ولا يهدم يرمم ويحسب من التراث . مازلت احن لبيتنا القديم . ولجيراننا واصدقائي ولنمط العيش . ولا استبدله بقصور الدنيا كلها فهو حديقتي الخلفية في ذاكرتي اهرب اليها . وانا اسكن هنا في بيت متواضع في غابة من اشجار الكالبتوس . ولكن الحمد لله لايوجد بها كوالا ولا بوسام . احيانا تاتي حيوانات الكنغر تاكل من مزرعتنا . لاان معظم البيوت هنا لايوجد بها سياج خارجي
.