كوخ يقطر خمرًا!
قبل عقدين تقريبًا سافرت وزميل عزيز أحاطني بمودته -ولا يزال- إلى مؤتمر عالمي، وركبنا طائرة تتبع خطوط طيران أوروبيّة، وعندما أقلعت الطّائرة من المملكة واستقرّت في السّماء انتشر المضيفون يوزّعون على الرّكاب أكواخًا بأشكال مختلفة، وفي رحلة العودة صنعوا ذات الشّيء بمجرّد استواء الطّائرة بعد إقلاعها من مطار العاصمة الأوروبيّة وقبل أن يغشانا النّعاس وندخل في نومة آمنة.
وحين وصلنا إلى بلادنا -صانها الله من كلّ سوء- تفاجأنا بتخلّف حقائبنا، فاعترضت لدى الشّركة التي لم تأبه أوّل الأمر باعتراضي لأنّها اعتادت على إهمال بعضنا لحقوقه أو جهله بها من الأساس، فهدّدت بتصعيد الواقعة وحينها لانت لهجة مسؤولي النّاقل الجوي الأجنبي، ووعدوا بسرعة إحضار حقائبنا، وفوق ذلك صرفوا لي ولزميلي مبلغًا ماليًا تعويضًا عن التّأخير، وقيمته المعنويّة أهم، فما يفوت حقّ وراءه مَن يصرّ عليه ويصابر.
المهم أنّ زميلي اتّصل بي بعد أيّام وقال: هل لاحظت شيئًا في أكواخ الطّائرة؟ فأجبته بالنّفي ليخبرني أنّ أكواخ الذّهاب كانت مفتوحة النّوافذ، بينما أُحكم إغلاق نوافذ أكواخ الإياب ببلاستيك مقوّى، وحين نزع زميلي هذا الغطاء البلاستيكي وجد كميّة من سائل داخل الكوخ، وكان هذا السّائل القبيح خمرًا!
فهرعت للأكواخ التي غنمها طفل دون سنّ الفطام ليلعب بها، وتخلّصت من محتوى الكوخ الآخر حامدًا الله أن لم يعبث به الصّغير فيؤذي نفسه، ومع ذلك أكبرت للشّركة صنيعها من جهتين، الأولى: توقيرها لأنظمة بلادنا بمنع الخمور على أراضيها، والثّانية: اعتزازها بثقافة مجتمعها ذي الأكواخ الرّيفيّة الجميلة.
كما وقر في نفسي أمر خلاصته أنّنا نستطيع التّفاعل مع العالم وإجبارهم على تبجيل ثقافتنا؛ فكيف والعالم يحتاجنا في أشياء كثيرة تمكنّنا من فرض شروطنا إذا أحسنّا استخدام مواطن القوّة والفرص الوفيرة عندنا، والمورد العذب كثير الزّحام، والحسناء تشترط بلا ملامة أو خوف فوات خطّابها!
علمًا أنّ الإحصاءات تشير إلى أنّ نصف سكان العالم تقريبًا لا يشربون الخمور، بينما تتفوّق نسبة استهلاك بعض البلاد الإسلاميّة على استهلاك ألمانيا وروسيا مع أنّ المسكرات محرّمة في ديننا، وهو تفوّق غير محمود، وترتفع نسب الاستهلاك في أفريقيّا الفقيرة بدرجة مذهلة، وأمّا البلاد العربيّة الأعلى في قوائم الخمور فليست ثريّة بل منهكة محطومة، أو تنتسب أموالها الطّائلة إلى سائل غير الخمر، أو إلى غاز لا يُسكر!
وهذه الأرقام الكاشفة تنفي أيّ صلة بين الخمر وانتعاش الاقتصاد، وتقصي الأكذوبة التي تربط بين الخمر والنّخبويّة، كما تفنّد تسويغ إتاحة الخمور لأغراض سياحيّة فلو كانت العلاقة طرديّة لتربعت أوغندا على عرش الوجهة السّياحيّة الأولى، وكم في شرع الله من كمال حين حرّمها وباء بإثمها عشرة مشتركين، وأطلق عليها الخليفة الرّاشد الحيي عثمان ذو النّورين رضوان الله عليه وصفًا جامعًا فهي أمّ الخبائث كانت وستبقى ما بقيت الدّنيا، والحمدلله على حظرها في بلادنا منذ القدم حتى على موظفي السّلك الدّبلوماسي الأجانب مع كثرة ضغوطهم لأجل إباحتها أو إتاحتها.
إنّ المجتمع العريق يحافظ على ثوابته وقيمه وأعرافه، ولا يجاهر بما يناقضها، ويحول قدر استطاعته دون تجاوزها علانيّة بأيّ ذريعة، وستظلّ الخمر من الكبائر في شريعة أهل الإسلام، وممنوعة في بعض البلاد، وبغيضة في جلّ مجتمعات المسلمين حتى لو عرضت في الشّوارع والمطارات وبيعت في المعارض الفخمة، فتلك غمّة ستنجلي بأمر الله الرّشيد متى ما انتعشت شعيرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في قلوب المسلمين، وعلى ألسنتهم، وفي ثمار أفكارهم وأعمالهم، فالخمور تحطّ من قدر الكرامة الإنسانيّة، وتهوي بأبناء آدم إلى مستويات يرونها في حال صحوهم دون البشريّة بكثير، وأموالها قذرة مثل قذارة عوائد كدّ الفروج العاهرة، وأجور السّحرة والكهّان.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الأحد 13 من شهرِ شوال عام 1440
16 من شهر يونيو عام 2019م