تحطيم النّماذج!
لكلّ أمّة وحضارة نماذج تستحق التّرميز والتّقديم، مع منحها أحكامًا خاصّة، وموضعًا سنيًا، وجعلها في صلب الوجدان، وواسطة الفكر، وأمام النّاظرين أينما ساروا وسروا، فالوجهة معروفة، والغايات واضحة، كي تهب هذه النّماذج والرّموز والمقدّسات للأمّة طاقة تعينها على المسير للأعلى، وتمثّل مرجعًا وموئلًا، يمتاز بالنّصاعة والإشراق، والرّيادة والإلهام، والمرجعيّة الحاكمة، ولذا حرص القرآن والسّنة على تعظيم شأن الأسوة والقدّوة والمقدّسات.
وأرشدنا القرآن العزيز لتوقير شخص النّبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله سبحانه وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحجرات: 1 – 5]، وقال جلّ وعلا: ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: 157].
كما نقل النّبي الكريم عليه الصّلاة والسّلام هذا المعنى السّامي لأمته في أحاديث كثيرة منها قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه الإمام البخاري: “أيها النّاس إنّي أتيتكم، فقلت: إنّي رسول الله إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟”، وروى عنه الشّيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: “لا تسبّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه”.
وتوافقت أجيال الأمّة على ذلك في اعتقادها وأعمالها وأقوالها، وتسامقت في الأدب، وبالغت في الاحتراز، فحين قيل للعبّاس رضي الله عنه: أنت أكبرُ أم النّبي صلّى الله عليه وسلّم؟ فقال: «هو أكبر منّي، وأنا وُلِدْتُ قبله». أخرجه ابن عساكر، وابن أبي شيبة، وخضع النّاس في حياتهم وتعاملاتهم لأحكام الشّريعة، وفتاوى أعلامها الموقعين عن ربّ العالمين.
وظلّت الأمّة وفيّة لرموزها الكبرى من مقدّسات، وأحكام، وأشخاص، ومعانٍ، وصنعت منهم لها قدوة ومرجعًا، وتربّت ناشئة المسلمين على ذلك، فأمّتنا أمّة عريقة أصيلة نبيلة، تعرف قدر أكابرها، ومكانة مقدّساتها، وتذود عنها بعد أن أنزلتها سويداء القلب، وجعلتها ملء السّمع والبصر، وخالطت مشاعرها، وامتزجت بجميع شؤونها.
فنال الخليلان عليهما الصّلاة السّلام موضع الأسوة الخالصة، وحاز جميع الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام مرتبة الإجلال والمحبّة، وانفرد جيل الصّحابة ورعيلهم العظيم بالقدوة في الفهم والخلق والعمل، وكان للقرآن والسّنة وأركان الإسلام، والخلافة، والجهاد، مركزيتها الأساسيّة في حياة المسلمين، وأصبحت الكعبة ومكة مهوى الأفئدة، ولا تستريح القلوب إلّا في مدينة الحبيب صلّى الله عليه وسلّم، وإليهما مع المسجد الأقصى فقط تُشدّ الرّحال.
علمًا أنّ هذا المسلك يكاد أن يكون شأنًا عامًا منذ القدم، فلا تخلو حضارة من أيقونات ورموز، ولا تحيا أمّة دون قدوات ونماذج، وإن اختلفت تعابير تقديرها، فمنهم من خلّد هذه الأشياء بمنتجات كلاميّة إبداعيّة، بينما جعلها البعض في صور، أو نحتوها في تماثيل، والقاسم المشترك حماية الجميع لها، وحدبهم عليها، وتصييرها حاضرة حيّة في وعي الأجيال، ومقدّمة حتى على النّفس أحيانًا.
وتجاوز الأمر في حضارات غربيّة وشرقيّة تقديم العظماء وأوعية الحكمة، إلى تصدير الطّغاة والمجرمين الذين سفكوا ونهبوا وأبادوا، ويتضح ذلك في السّابقين والمعاصرين، فتاريخ بعض الحكّام يستحي منه العقلاء، وماضي بعض المجموعات أشبه بالسّبة والعار، ومع ذلك لم تمتنع أقوامهم من تخليدهم ووصفهم بالعظمة والآباء المؤسسين، وإطلالة سريعة على تاريخ الفراعنة السّالفين، أو الأمريكان الحاضرين، تجلّي هذه الحقيقة.
كما يحرص الهنود على تعظيم غاندي وإبرازه بصورة إنسانيّة روحيّة مشعّة، وعلى تضخيم الحضور الثّقافي والفكري لزعيمهم نهرو، ومثله تفعل حضارات الصّين واليابان مع الأباطرة والمفكرين، وليس ببعيد عنهم تقديم سنغافورة، وكوريا الجنوبيّة، والبرازيل، لزعمائها كأبطال تغيير وتطوير، والسّعي لحجز موضع قدم لهم ضمن عظماء التّاريخ.
ومن التّقديس ما تصنعه أمم كثيرة لحفظ أيّامها، وتواريخها، ومناسباتها، وتقويمها، وجعلها حدثًا عالميًا يتسامع به القاصي والدّاني، وإلّا فما علاقة غير النّصارى بميلاد المسيح عليه السّلام، وتقويم الكنائس وملوك اليونان؛ حتى جعلته أكثر البلاد موسم عيد وإجازة واحتفال؟
وبعد أن عانت أمّتنا المسلمة من الحروب والانتهاكات العسكريّة المتوالية التي لن يكون آخرها العدوان الأمريكي أو الفرنسي على العراق وأفغانستان ومالي، استخدم الغزاة طرقًا أخرى ماكرة إضافة للحروب التّدميريّة، وهي موجودة منذ القدم، بيد أنّهم استثمروا ثورة الإعلام، واهتبلوا فرصته السّانحة؛ لكسر ثقافة المسلمين وأركانها، وتهشيم عمودها الفقري.
فمن مفردات هذا القبح العالمي في تحطيم نماذج أمّتنا ما تعرّض ويتعرّض له الجانب الكريم والمقام السّامي للنّبي الأكرم محمّد صلّى الله عليه وسلّم من اعتداء عبر الرّسوم، والمقالات، والدّراما وغير ذلك، وإنّ هبّة الأمّة الشّعبيّة لدليل على حبّها وتوقيرها لخير خلق الله، بيد أنّ تراجع الأثر الرّسمي والقانوني قد يغري القوم المردة على المواصلة بكيد أنكى.
ولم يسلم القرآن الكريم، وسنّة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وسيرته العطرة، وسير أصحابه الكرام، ورواة الحديث ودواوين الحديث الشّريف، وباقي علماء الإسلام، وكتب العلم ومدارسه، من أباطيل خدمت بسبل كثيرة، وربّما باء بإثمها أناس ووسائل محسوبة على المسلمين والعرب، كي يكون أثرها أنجع، وخطرها أكبر، وتشويهها لجمال هذه النّماذج أشد، وإيلامها أوجع وأشد مضاضة.
كما استهدف الأبالسة التّاريخ الإسلامي بكلّ نقيصة، وشكّكوا في مناهجه الباهرة وأحداثه الكبيرة، وجعلوه دنيويًا دمويًا، أو شهوانيًا غارقًا في المباهج والملذات، مع أنّ سادات ذلك الزّمان حكموا أكثر الأرض، ونشروا فيها العدل والأمان بدون هيئات ومجالس، وقدّموا للإنسانيّة مثالًا يعزّ نظيره، ويندر أن يقترب من عليائه أحد.
ولم تنج الّلغة العربيّة وآدابها من فنون التّهشيم حتى غدت غريبة في مرابعها، بعيدة عن الألسنة، وأبعد عن الأفهام؛ وهي لغة القرآن والسّنة وكتب العلم والحضارة، ولم يتركوا أحكام الإسلام ومبانيه، فأصبحت الزّكاة داعمًا للإرهاب بزعمهم، والحجّ موسمًا للموت والتّعب، والمساجد مكانًا للقتل والتّفجير، وأمّا رمضان والصّيام فهجموا عليهما بجيش من الّلهو والصّخب؛ حتى يحرموا عباد الله لذّة القرب ولذيذ التّوبة.
ثمّ عاثوا في الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام حين حركّوا مجاهيل وأغرار، أو استثاروا مستعجلين مندفعين؛ فصار الجهاد قرينًا لغير ما شرعه الله وأراده، وزادوا ضغثًا على إبالة بتخريب المعنى الجميل للخلافة الإسلاميّة في ذكريات المسلمين من خلال مسرحيّة هزليّة مريبة، وانفتل المفسدون نحو نموذج التّدين لدى الفتيان والفتيات؛ للإزراء به عبر روايات ومسلسلات وكلمات.
لكن الأمّة لم تنثن أمام جحافل الغزاة والمفترين، ولم تتراجع حتى حين دهمها غوغاء النّاس من صليبين ومغول وقوى عظمى معاصرة وغيرهم بجيوشهم وأدواتهم، وما لانت قناتها لمعتد بقول أو فعل؛ فسلّت سيوف الجهاد بسلاحها وأقلامها، وبقيت فيها أنفة الدّيانة، وحميّة المجد المكتسب، ولم تفرّط فيما حازته من مكارم ومكانة، ومهما خفت الضوء في ساحة؛ فإنّه سوف يسطع في بقعة أخرى ليكون نورًا يضيء وبه يستضاء.
ولن تكون هذه آخر معاركنا مع أعادينا وأتباعهم من المرجفين والمخذّلين، ولا إشكال لدينا من نقد ما يجوز فيه النّقد، وإنّما البلاء في إرادة إسقاط النّموذج من أصله، ونزع مكانة الأحكام والأماكن، وتعميم أحوال النّقص على أزمنة أو رجال، وقد درجت الأمم على عدم محاكمة ماضيها إلّا في سياق تطوير حاضرها، وصنع مستقبلها، مع التزام العدل والإعذار، ومن الحكمة غضّ الطّرف عن هنات مَن عُمرت حياتهم بالفضائل حتى غمرت الزّمان والمكان وما وراءهما.
ومن المتعيّن على العلماء والمفكرين والمربين الانحياز إلى رموز دينهم، ومعالم حضارتهم، وأركان ثقافتهم، وغرسها في نفوس ناشئة المسلمين من خلال التّربية المنزليّة والمسجديّة، وتفعيل الشّبكات المجتمعيّة، وإدراج هذه النّماذج في دروس التّعليم الرّسمي وغير الرّسمي، وبثّها في وسائل الإعلام الجديد والقديم، وإبراز رموز معاصرة رزينة أمينة لا تبيع دينها ولا تشتري به ثمنًا، مع استخدام جميع طرائق التّعليم والتّوجيه والبلاغ لجعل توقير رموزنا المعنويّة والماديّة قيمًا راسخة في نفس المسلم والمسلمة مهما كانت درجة التزامه الدّيني، ومهما كان مستوى التصاقه بها، فالحرّ لا ينزع جلده، والكريم لا يتخلّى عن إرثه المبارك العظيم، ويأبى إلّا أن يحافظ على اعتزازه بحضارته وسمو ثقافته، ولربّما جاد بنفسه في سبيل سلامتها أو بقائها.
أحمد بن عبدالمحسن العساف-الرياض
الاثنين 11 من شهر رجب الحرام 1440
18 من شهر مارس 2019 م
3 Comments