سير وأعلام عرض كتاب قراءة وكتابة

الكتابة قسيمة الحياة!

Print Friendly, PDF & Email

الكتابة قسيمة الحياة!

يضيف المرء حسنة إلى حسناته حين يوثّق تجاربه، فيستفيد القرّاء من إنجازاته، ويتجنّبوا الطّرق المفضية إلى الخطأ، وهكذا فعل الكاتب والرّوائي العراقي علي الشّوك الذي رحل آنفًا بعد أن تجاوز التّسعين عامًا، ختمها بكتابة سيرته الذّاتيّة بعنوان: الكتابة والحياة، صدرت طبعتها الأولى عام (2017م)، عن دار المدى، وتقع في (273) صفحة، وتتكوّن من إضاءة بقلم فخري كريم، فأربعة عشر فصلًا، ثمّ الفهرس.

كانت الرّواية هاجسه الأكبر واختياره الكتابي الأولى، وزادته القراءة شغفًا بعالم الرّواية، وظلّ يبحث عن امرأة تلهمه وما أكثرهنّ في حياته، ومع ذلك لم يكتب من الرّوايات ما يوازي شهرة مؤلّفاته الأخرى ومكانتها، علمًا أنّه لم يقدِم على تأليف رواية إلّا بعد خبرة كتابيّة لامست نصف قرن.

درس الشّوك التّاريخ الإسلامي وهي المادة الأحبّ إليه، وعشق الكتب، ولم ينسجم مع طقوس العمل الحزبي والسّري، وهذا ملحظ في سير بعض المفكرين، ومع ذلك فلم يسلم من طغيان عسكر بلاده، إذ دعاه مكتب أمني للقاء مدته خمس دقائق فقط، فبلغ واحدًا وأربعين يومًا!

أكمل تعليمه في جامعة بيركلي الواقعة في مدينة بلا آثام كما يقول، وفيها أطلق العنان لأوّل محاولاته الكتابيّة وهي لحظة لا ينساها أيّ كاتب، ويبدو لي أنّ لدى هذه الجامعة سرٌّ تغرسه في طلّابها، وهذه خاطرة فطير تحتاج لبحث واستقصاء، ولعلّ أحد الدّارسين العرب المتخرّجين فيها أن يفيدنا عن مدى صواب هذا الظّن.

وللكاتب صداقة عميقة فريدة مع د.نوري السّعدي يعدّها نقطة تحوّل في حياته، ولمتانة العلاقة بينهما وخصوصيّتها أطلع علي صاحبه نوري على مقالات إباحيّة عارية كتبها، وظلّ نوري هو القارئ الوحيد لها، ثمّ وقع الشّوك في غرام شقيقة السّعدي الصّغرى، وبادلها الغزل الكتابي، وحين علم والدها -بوشاية من شقيقتها الكبرى الحانقة على تجاوزها من قبل الكاتب- صرم حبال وصلهما؛ فلم تصبح الصّغرى من نصيبه ولا حتى الكبرى.

ومن شأنه الكتابي أنّه يزور المواضع التي قرأ عنها أو سيكتب حولها، ويقرأ لمن سيحضر محاضراتهم، وهذا واجب لمن أراد الاتّقان وتحصيل أكبر قدر من الفائدة، ويرى أنّ طريق الكتابة طويل وبطئ، وهو لا يحب الكتابة بالهروب عن الحقيقة والواقع بسبب الرّقابة، ولذلك هجر موطنه زمنًا.

كما حاول توظيف الرّياضيّات في الكتابة، وما أنفع أن يوظّف المرء علمه ومعارفه ليبدع في مواهبه ومهاراته، وقد لاحظت دون استقصاء أنّ تخصصّي الرّياضيّات والفيزياء لهما صلة وثيقة بالكتابة. ولا يفتقر الشّوك إلى المخيلة وخفّة الدم التي يحتاجهما الكاتب، ووصف غير امرأة بأنّها ملهمة استنهضت ملكاته الإبداعيّة.

وللمرأة أثر كبير في الإلهام دون حاجة للبحث عن امرأة غريبة والارتباط معها بعلاقة غير شرعيّة كما توحي سير بعض الكتّاب، وليس من شرط الكتابة حضور الخمر، والموسيقى، والقهوة، والمعارضة السّياسيّة، حسبما يتوهّم البعض وإن وردت في حياة كتّاب بعضهم مشاهير، بل لا يوجد روابط حصريّة للإبداع سوى تحريك العقل والخيال.

للكاتب الشّوك عناية بعلوم متعدّدة مثل الرّياضيات، والّلغة، والموسيقى، والأساطير، والفيزياء، وتعلّم منها الانتقال من الجمع إلى الاستنتاج، وآفة الكاتب أن يكون جمّاعًا فقط! وألّف في هذه العلوم كتبًا مهمّة أعظم من رواياته التي يصفها بأنّها قدره الكتابي، والرّواية تعني عنده المرأة، فغالب رواياته تنطلق منها، وقد حجّر واسعًا؛ فالكون مليء بالمنطلقات كالسّفر الذي لازمه طوال حياته، وأتاح له فرصًا للكتابة.

ولارتباطه بفكرة أرضيّة أصابه اليأس بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة، وشعر أنّ سقوط الاتّحاد السّوفييتي طعنة في الصّميم، وما أتعس الكاتب حين يتهاوى الفكر الذي يتكئ عليه، وهذا بلاء لا يصاب به من أسلم لله وجهه، فدين الله ثابت الأصول، راسخ الأركان، أكيد البقاء وإن أصيب أتباعه بضعف أو تراجع.

ولأنّه مغرم بالرّواية يعود فيصفها بأنّها حلم أيّ كاتب، مع أنّ الرّواية الممتازة عصيّة، ويجزم بأنّ الكتابة الجميلة لا تأتي إلّا بعد تمزيق أوراق وأوراق، ومن عادته الانتظار لسنوات قبل النّشر وقليل فاعله، ويحرص على الالتصاق بأمكنة رواياته وشخصيّاتها والعيش معها كي يحسن الحديث باسمها، ويرى بأنّ الجمال أعظم قوّة دافعة للإبداع.

وفي آخر السّيرة أحاديث أليمة باكية عن انطفاء لذّة القراءة، وأنّ الكتابة لم تسلس له قيادها بعد تعب العمر وضمور الذّاكرة، وهو الذي كان غزير الإنتاج، يتدّفق كتابيّاً ولا يكاد أن يقف، وبصراحة متناهية يهمس في أذن الكتّاب بأنّ الكاتب قد يفقد ثقته بنفسه ككاتب، وينهاه الشّوك عن ذلك؛ فالكاتب صاحب إنجاز يستهلكه القارئ.

ما أجمل أن يخبرنا أهل الإبداع والبروز عن مسيرتهم بصدق ووضوح، بيد أنّ استخلاصنا لباب ما كتبوه وباحوا به هو الأجمل والأجدر بنا، وتاج الأمر بعد القراءة والاستخلاص أن نستفيد ونقبس ما نعتقده نافعًا لنا ولأجيالنا في حياتنا التي لا تنتهي بمجرد إغماضة الموت!

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الأحد 19 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1440

24 من شهر فبراير عام 2019م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)