سير وأعلام عرض كتاب

زامل السليم: دهاء وخصال لا تُنسى!

Print Friendly, PDF & Email

زامل السليم: دهاء وخصال لا تُنسى!

لن أنسى تلك الأمسيات العذبة مع والدي رحمه الله عن التاريخ وأحداثه ورجاله، وممن علقت أسماؤهم في ذهني منذ الصغر زامل بن عبدالله بن سليم أحد أشهر أمراء عنيزة ونجد خلال القرون الفائتة، واقترن تحليل الوالد لشخصيته مع إيراد الروايات بما فيها من دهاء وشجاعة وحكمة وخوف من الله، ولا أزال أتذكر الألم الذي يطفو مع إخباره عن معارك على رأسها “المليداء” ذات المآسي المفجعة.

لذلك سارعت لاقتناء كتاب حديث عنوانه: زامل بن عبدالله السليم أمير عنيزة، (1245-1829/1308-1891م)، حياته السياسية والاجتماعية وشعره، جمع ودراسة وتحقيق: صالح بن محمد الحسن الخويطر، صدرت طبعته الأولى عن مدار الوطن للنشر عام (1441-2019م)، ويتكون من (495) صفحة بطباعة أنيقة في غلافيها وما بينهما، ولو كان الوالد على قيد الحياة لقرأته عليه.

يبدأ الكتاب بالإهداء والمقدمة فالتمهيد، ثمّ ستة فصول أولها عن الأحوال الشخصية لزامل السليم، ويجرد الثاني أملاكه ومعاملاته التجارية، وأما الثالث فيرصد الأحداث السياسية قبل إمارة زامل السليم، ويصف الفصل الرابع الأوضاع السياسية والاجتماعية في إمارة زامل السليم، ويسرد الخامس عددًا من قصص ومواقف زامل السليم، بينما يقف الفصل السادس مع شعر زامل السليم، وأخيرًا تأتي الخاتمة فالملحقات ثمّ مصادر الكتاب ومراجعه المخطوطة والمطبوعة والشفوية.

أهدى المؤلف كتابه لابني حفيدي الأمير ولأهل عنيزة ومحبي التاريخ، وتحدث عن مشاق فسح الكتاب، وهو أمر يحتاج إلى معالجة سريعة، فجميع الأسر والقبائل والمناطق حريصة على تدوين تاريخها وحفظه، ومالم تُستوعب هذه العناية الفائقة بالتاريخ، وتُحتوى نتائجها؛ وتُسهل إجراءات المراجعة وإذن الطباعة، فقد يفضي ذلك إلى البحث عن فضاء أرحب للتأليف والنشر؛ بما يجعل الروايات وتفاسيرها أكثر صراحة وربما حرجًا، وكم في السعة من راحة وتصالح واسترضاء.

أما محتوى الكتاب فلفت نظري إلى معالم في سيرة أمير عنيزة زامل بن سليم الذي تولى الإمارة قريبًا من ربع قرن (1285-1308)، وكان قبلها نافذ الرأي والأمر، ومن هذه المعالم حرصه على غشيان مجالس عمه يحيى السليم أول من تولى إمارة عنيزة من الأسرة خلال فترات بين عامي (1239-1257)، ومجلس والده عبدالله ثاني أمراء الأسرة (1257-1261)، فوعى كثيرًا من الأدب والعلم وفنون الحكم والتعامل، وهكذا تصنع مجالس الأسر العريقة بأنجالها.

لذلك ظهرت عليه علامات الرشاد وأمارات النجابة في مطلع الشباب حتى صار فتى الكهول نشاطًا وعقلًا، وأصبح في فترة حكمه لا يشرب القهوة قبل عمه الأسن منه، ويقدّر رجالات بلدته وأهلها، ويسعى لتحقيق النافع لهم بنفسه ووجاهته وسلطته وماله، ولالتصاقه بأبويه وجد في نفسه على آل رشيد الذين قتلوا عمه في معركة بقعاء، وقتلوا والده صبرًا على يدي الأمير الفارس الشاعر عبيد بن رشيد؛ ولربما أن هذه الحزازة من الوجد الحامز أصبحت سببًا في مصرعه على أرض المليدا.

ثمّ كان من نتاج هذه التربية فضلًا عن أمشاج الوراثة أن نشأ زامل وفيه صفات الزعامة من فروسية وشجاعة وإقدام ودهاء ونبل وبعد نظر، وغدا في بعض الأحيان فارس عنيزة الوحيد، وحين وقع الوباء بمكة عام (1271) خلا الموسم الميمون من حجاج القصيم باستثناء حاج هو زامل بن سليم الذي توكل على الله وواصل المسير إلى البيت الحرام.

ولأنه أمير متسلسل أوحى محياه بأنه من نسل كريم، وتزوج سبع مرات إحداهن من عيون الجواء، وامتازت أحاديثه بالعذوبة من أثر ثقافته الواسعة إذ أنه صاحب كتب وتعليقات وعناية بها جعلته يوقف بعضها على أهل العلم، وبهذه السمات مع الخلطة الاجتماعية، وحسن المشورة، والكرم، فاق نفوذه نفوذ الحاكم الفعلي لبلدته، ولم تدرك الغيرة هذا الحاكم الذي يراعي مصلحة عنيزة وأسرة الزامل السليم فيما يبدو. وفي عهد زامل حاول تجنيب بلدته مشكلات اقتضاها موقعها بين أقاليم متعادية، فصارت عنيزة بلدة تطلب صداقتها القوى المجاورة والبعيدة.

كما أظهر زامل إبان إمارته النزاهة عن المال العام فأمر بهدم بيت له بُني باستخدام خشب وجريد من أملاك الإمارة، ورفض تعيين ابنه المؤهل قاضيًا شرعيًا فمن غير المناسب حصر سلطتين في بيت واحد، واستقبل بصدر رحب اعتراضات أهل بلدته، واحتسابهم، محسنًا بهم الظن، ومتجاوزًا عن الحدّة التي تنجم عن خلاف الرأي أحيانًا، وحين شكت النساء من مضايقة أحد الرجال لهن مستثمرًا ندرة الشاي ورغبة الغالبية بشربه، عالج ابن سليم بنفسه هذا المنكر بما يعجل توبة “المتحرش”، ويحفظ أعراض نساء بلاده.

ومع أن الحرب تستلزم إراقة الدماء إلّا إن زاملًا تحرز منها فأوقف أيّ حرب أدت غرضها، وسعى لإقناع أقوام سرقوا أموالًا أو أنعامًا لأهل عنيزة بإرجاعها سلمًا فلما أبوا سار إليهم علنًا عسى أن يعلموا ويرتدعوا دون سفك دماء، ولهذه الخلة وصف بعض الرحالة- وجلّهم ساسة أو مخابرات أو منصرون- صنيعه في معركة عُمان عام (1268) بأنه توغل دون استباحة دماء، وكانت حنكته سببًا في ظفر الجيش النجدي بعمان بعد حصار طويل لم يجدِ نفعًا.

بينما صان بدهائه بلدته من الفناء حين أوهم الجيوش المحاصرة بكثرة رجال عنيزة، واستعدادهم للحرب، واستضاف فريقًا من المحاصرين وبهرهم بصفوف من الرجال يؤدون العرضة وأهازيج القتال في كل مكان حتى ظنوا ألّا قبِل لهم بقتال عنيزة مع أن الذين أدوا العرضة هم أنفسهم في كلّ مرة، وإنما أجرى زامل فيهم تقديمًا وتأخيرًا وتغييرًا في ترتيب المواقع ليوهم الزوار بضخامة العدد وهو ما نجح فيه وآل الأمر إلى صلح وحقن الدماء.

ورزقه الله حضور بديهة، مع بصيرة ثاقبة، فحين سخر منه أحد الخصوم متهكمًا على رجله العرجاء أخبر زامل المستهزئ بأن ساقه أصيبت وهي تذود عن أعراض بني عمك! واستثمر العصبية القبلية في نشر أبيات من الشعر خلخلت تماسك الجيوش الغازية، واضطرت قسمًا منهم للانسحاب، وحين حاول حليفه أمير بريدة حسن بن مهنا أبا الخيل استثارته على آل البسام الذي حثوا زاملًا على رفض مشاركة عنيزة في موقعة المليدا عام (1308) لم ينصع له، وفوق ذلك أبان زامل الأمير لحليفه أمير بريدة بأن أهل بلدته أحرار في إبداء رأيهم، وأن غايتهم مصلحة المدينة وأهلها، ولربما أن الصواب معهم، وهو لا يخشى منهم ضررًا، وما أجمل علاقة المحبة والثقة والتناصح والتعاذر وأكملها وأعظم بركتها.

أما الواقعة المريرة في المليدا بين جيش حائل وجيش القصيم الذي تحالف قطباه بعد لقاء “قمة” بين ابن سليم وابن مهنا على نفود الغميس مع أن أصل الخلاف كان بين حائل وبريدة دون عنيزة؛ إلّا إن زاملًا شارك فيها لأنه يعلم بأن حائل ستعدو على عنيزة بعد فراغها من بريدة، ولما في نفسه ونفوس غالب أهل بلدته من ثارات قديمة لم تُشف منها الصدور؛ وكانت نتيجة هذه المعركة الكبيرة أن عمّ الحزن في جلّ بيوت عنيزة، وقُتل زامل دون أن يُعرف له قبر، وإن ظل أكابر الناس يكرمون عنيزة وأهلها إجلالًا لزامل في قبره، والحمدلله على الألفة تحت ظلال شرع الله وحكمه.

ومن مرويات المعركة أن عثُر على رسالة قصيرة في جيب زامل من عبدالله المنصور الزامل ينصحه فيها بالرجوع وترك اللحاق بجيش ابن رشيد الذي يستدرجهم لمنطقة تناسب خيوله، فإن كان ولابد فعليه ألّا يبرح موضعًا بعينه، فلما قرأ الأمير محمد بن عبدالله بن رشيد هذه الرسالة سأل عن كاتبها فقيل له: درويش بالمسجد! لكنه صعق مستشاريه برأيه الفاحص: هذا ليس بدرويش وإنما عاقل وداهية! وتذكرني هذه القصة ببعض المخدوعين الذين يرون السذاجة في كلّ متدين، ويظنون بأنفسهم أو بغيرهم الفهم العميق بسبب هيئة معينة، أو إجادة لغة أجنبية، أو اختصاص جديد، وليس هذا من الصواب والعدل بشيء فضلًا عن تحطيم الواقع له لمن نظر فيه دون بطر.

أخيرًا أشير إلى أن عنيزة حظيت دون غالب حواضر الجزيرة العربية بروايات تاريخية متنوعة، ويعود ذلك لكثرة المؤرخين من بنيها، إذ تجد المؤرخ الصرف والمؤرخ القاضي والفقيه والشاعر والتاجر والإعلامي والوزير، ولبعض أسرها بروز واضح في هذا العلم مثل أسرة البسام النبيلة، وإن حفظ التاريخ لواجب به تبقى الحقائق، ويعلم الأحفاد أنباء الأجداد، ويزيد من عراقة المكان مهما تطاول الزمان، ويحول دون الإساءة بالنقل أو التفسير أو الاحتكار.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الإثنين 26 من شهرِ ربيع الآخر عام 1441

23 من شهر ديسمبر عام 2019م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)