سير وأعلام عرض كتاب

عبدالرحمن المرشد ونصف قرن بين الجنود

Print Friendly, PDF & Email

عبدالرحمن المرشد ونصف قرن بين الجنود

حكى لي صديق وهو عسكري متقاعد تجمعني به عضوية ناد له خبر خاص لطيف أسوقه لاحقًا في مقال آخر؛ ومختصر حكاية الصديق أن ابنه كاد أن يفقد فرصة التخرج في الكلية الحربية لولا عدل الفريق المرشد وإنصافه ولطفه البالغ، وكنت قبل حكاية هذا الصديق، قد استمعت إلى ثناء قاض متقاعد من الجيران على حسن استقبال الفريق المرشد له في مكتبه عندما زاره القاضي شافعًا. ومن تلك اللحظات تمنيت قراءة سيرة معالي الفريق الركن عبدالرحمن بن عبدالله بن حمد المرشد، وسعدت كثيرًا حينما أنبأني الكاتب الأديب د.إبراهيم التركي أن سيرة الفريق على وشك الصدور، ولذلك لم أتأخر في قراءتها بمجرد أن أعارها لي أخ حبيب أدام الله وداده.  

عنوان هذه السيرة: نصف قرن بين الجنود: قراءة إنسانية في سيرة القائد العسكري السعودي الفريق الركن عبدالرحمن بن عبدالله المرشد، صدرت عن مركز العالم للتوثيق، وسردها: أسامة الزيني، وهي من مطبوعات مؤسسة العالم للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع، وتقع في (240) صفحة من القطع المتوسط، مكونة من إهداء وتصدير، فمقدمة ثمّ ثلاثة عشر عنوانًا، ولبعض هذه العناوين عناوين فرعية، وعناوين الكتاب جذابة مبتكرة.

في هذه السردية معارك قديمة وحديثة، خشنة وناعمة، باء طرفها القريب من صاحب السيرة بالهزيمة على أكثر من صعيد، وهي هزائم أدت إلى يتم ووحدة، وإلى عزوبة وغربة، وفقد وعزلة، وفقر ومسيس حاجة. وفيها عذابات مادية ونفسية أليمة لمثلها يتفجع القلب، وإن هاتيك الهزائم، وتلك العذابات، لكفيلة بأن تسيل الدموع من الجدران الصلبة الصم الصامتة، وهو وصف مبالغةوإن كان معبرًاويتماشى مع الطبيعة السردية للكتاب بما فيها من عبارات طنانة أحيانًا.

كما نرى في السيرة أثر الأم العظيمة، والزوجة الوفية، وصبر المرأة المكافحة المربية، وفضل البصيرة التي وهبها الله لعقل أم حانية وقلب والدة رؤوم. ونلمح دون عناء أيضًا بركة مشاعل النور ورواد التعليم المرابطين في مدرسة المربي ابن صالح، ونقف على نتائج الإصرار والعزائم وتكرار المحاولة والمطالبة مثلما يتبدى في حياة الطفل عبدالرحمن، ومسيرة الفتى الهميم، وعيش الشاب الناضج الذي دلف إلى عالم الحكمة والروية كما لو بلغ الأشد ووصل مرحلة الرشد والكهولة قبل أقرانه وهو لما يزل في صبوة من العمر وميعة من الشباب، بيد أن الجدية لا تبقي لهما مكانًا عند المكافحين.

ومع وجود الخذلان والنكران من البشر مثل صنيع صديق والد المترجم الذي رفض كفالته لدى المدرسة العسكرية، ومع فشو القسوة والغلظة البادية في نهج الضابط المستعلي على الشاب الغر الخلي من النصير والمعين، سوف نشاهد مواقف المروءة عند الصديق الشهم، والفزعة في نفس عامل الشاي والقهوة الذي رقّ لانكسار الفتى، والنصرة لدى الضابط الكبير، والاحتضان من آخر، مع حسن التوجيه والتوصية والنصيحة، ولربما أن هذه التطبيقات المتناقضة قد صنعت من المرشد مزيجًا متجانسًا من الرحمة والحزم، ومن الحنان والضبط.

وسوف نعيش في المسيرة مع لحظات سعادة وحبور، ونتفيأ تحت ظلال الكتاب والقراءة مذ كان الصبي يستعير كتابا عن أبطال جيشنا السعودي في حرب عام (1948م)، ولن تتخطى عين القارئ مشاهدة الأقدار التي تسوق شخصية كانت قدوة، وأخرى لها فضل وسابق معروف، كي يكونا موضع التجلة والإكرام من المترجم بما لهما عليه من فضل، وهي وقائع من ضمن أخرى أطلق عليها المحرر رسائل السماء، وهو إطلاق رنان بيد أن غيره منه أولى؛ ذلك أن الولع ببعض الألفاظ ولوكها بالإعادة يفقدها البريق ويسلب منها الوهج.

ومما يتجلى في سيرة الفريق الهمام الشجاعة والجرأة، وقوة الإعداد، حتى أصبح على أهبة الاستعداد للمشاركات الخطرة، والانتقال الفوري من مكان آمن إلى الجبهة، والسعي الحثيث لزيادة التعلم العسكري واللغوي حتى غدا المرشد ركنًا لا في كلية الأركان وحدها وإنما في الجيش وتاريخه. وبعد أن تلقى خبر تقاعده لم ينكسر، وبقي فيه شغف الخدمة والتعلم، وأمضى سنواته في ربوع عنيزة الجميلة ومجالسها المستعذبة، ولربما سافر هنا وهناك، وأمتع روحه بالقراءة والتدبر في القرآن الكريم.

ثم إننا نجد في السيرة من لطيف تدبير العزيز العليم أن الخيرة كانت في التأخير، وأن زيارة المريض مع ضيق الوقت أصبحت منجاة من التفجير، وأن حسن العهد بالصداقة أو النصيحة أو المبادرة بالإنقاذ قد صنعت رجالًا من حماة البلد وحراسه، وأن صنائع المعروف لا تضيع ولو بعد ربع قرن وأزيد؛ إذ تمضي السنون وتبقى الفعال الجميلة يلهج بها الأوفياء، ولا يملون من الدعاء لأهلها وأصحابها، ويحرصون على زيارتهم، وتخليد أحدوثتهم البهية في مسامع الناس.

أما أحد أجلّ ما ورد في السيرة فهو الحديث عن الأوسمة التي تحصّل عليها فريقنا الموفق، وهي محلية ودولية ترافقت مع مسيرته العسكرية التي تجاوزت نصف قرن، منها خمس سنوات دراسية خالصة، وثمانية وأربعون عامًا في الميدان ضابطًا وأستاذًا وإداريًا وقائدًا، ودع عنك الأوسمة والنياشين المزخرفة والمذهبة، فأسناها قيمة لدى الرجل طاحونة أمه، وزبيله الذي ينقل فيه اللحم والخضروات، فهما أدوات عيشهما في عنيزة للنجاة من وطأة الفقر، والخروج من دائرة ذل الحاجة، وضغط المسغبة.

إن هذه اللمحات الاحتفائية العاجلة من سيرة مصاغة بقلم سردي بديع لا تمنع من التنبيه إلى وجود ملحوظات طباعية ونحوية، وأخطاء متكررة في التواريخ مثل تاريخ طباعة ذكريات الحسون، وتواريخ الصور في آخر الكتاب، وفي الأسماء مثل اسم الوزير ابن سليمان، مع الحاجة للتدقيق في بعض المعلومات مثل أمن الطرق ومنع إغاثة المصاب، ورحيل العمالة اليمنية، وأثر الدول البعيدة في صحرائنا المستقلة. ومن مواضع الملاحظة خلو الكتاب من عام النشر، ووضع صورة مدنية آسرة على الغلاف الأمامي، وصورة عسكرية صغيرة على الغلاف الخلفي، ومقتضى المضمون يشير إلى وجاهة الذهاب إلى العكس.

ثم إني مع الختام أشيد بهذه الإطلالة السيرية من قبل أحد كبار ضباط القوات البرية بل من أركان جيشنا، وأتمنى أن يبادر إلى مثلها مسؤولون آخرون عسكريون ومدنيون، وأثرياء ووجهاء وعلماء،؛ ففي السير والخبرات شيء غير قليل من التاريخ بأحداثه وحكاياته التي ربما تغيب لولا أن قيض الله لها رجلًا رشيدًا مرشدًا؛ فوثقها ورواها، ثمّ أبرزها حلوة للناظرين، شهية للمتذوقين، نافعة للباحثين، حاثة للآخرين، وأثرًا خالدًا في الباقين.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الأربعاء 13 من شهرِ جمادى الأولى عام 1444

07 من شهر ديسمبر عام 2022م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. يحمل الكتاب الكثير من المعاني الإنسانية والعبر التي عاشها القائد عبد الرحمن المرشد كونه إنسان بسيط نشأ في بيئة صعبة ولم يولد وفي فمه معلقة من الذهب فمن رحم المعاناة كانت نشأة القائد الذي استحق ان يقود جنود من خير الجند ويكون ملهماً لغيره من نفسه جيله والأجيال اللاحقة
    فيعد الكتاب ليس كمثله من السير الذاتية الأخرى ولكنه مرجعاً يدرس في قوة البائس وتحمل الصعاب والكثير والكثير من العبر التي تدل على ان الصعاب هي التي تخلق الشخصيات العظيمة أمثال الفريق عبد الرحمن المرشد ❤️

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)