سياسة واقتصاد

رؤساء أمريكا بعيدًا عن السياسة

Print Friendly, PDF & Email

رؤساء أمريكا بعيدًا عن السياسة

تشغل الانتخابات الأمريكية، وشخصيات المرشحين، حيزًا كبيرًا من مساحة الأخبار العالمية، وتثير جدلًا واسعًا حتى بين غير الأمريكيين، وعند من لا يستطيع التأثير فيما دونها فضلًا عنها، وأما باب التوقعات فينفتح على مصراعيه وهذا حقٌّ مشاع لكل أحد، ولربما يأتي يوم لا يرفع أحد بهذا السجال الانتخابي رأسًا، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وإلى ذلك الحين سيكون الكرسي الرئاسي خلف المكتب الفخم في غرفة الرئيس الأمريكي موئل عناية كثير من الناس رغبًا أو رهبًا.

فبعد إقرار دستور الولايات المتحدة الأمريكية في الرابع من مارس عام (1789م)، حكم أمريكا حتى الآن خمسة وأربعون رئيسًا، وأُجريت الانتخابات الرئاسية ثمان وخمسين مرة، ويُعدّ جورج واشنطن أول رئيس لأمريكا، وتوفي خلال الرئاسة أربعة رؤساء، وأغتيل أربعة رؤساء آخرين، وانفرد جروفر كليفلاند بتولي المنصب مرتين ليستا على التوالي، وجون كيندي بمذهبه الكاثوليكي، وريتشارد نيكسون باستقالته، وباراك أوباما بأنه الوحيد من غير البيض، ولم تصبح أيّ امرأة رئيسة للبلاد، وكان هاري ترومان آخر الرؤساء الذين وصلوا للمنصب دون أن يكون لديهم شهادة جامعية، وأول زوجة رئيس أُطلق عليها لقب السيدة الأولى هي إليانور روزفلت (1884 -1962م) إبان رئاسة زوجها فرانكلين روزفلت (1933-1945م).

واحتفظ -للأبد فيما يبدو- فرانكلين روزفلت بأطول مدة رئاسية حيث بقي رئيسًا خلال اثني عشر عاماً، بينما لم تتجاوز أيام الرئيس وليام هاريسون اثنين وثلاثين يومًا، والشيء بالشيء يذكر فآل روزفلت، وهاريسون، وبوش، من الأسر المتكررة في الوصول إلى البيت الأبيض، ولربما يعود بعضهم لاحقًا، أو تبرز أسر جديدة، ولم تشهد فيما قرأت أيّ انتخابات سابقة تهمًا بالتدخل الخارجي من منافس دولي، واحتمالية التزوير أو التأجيل كتلك التي جاءت بترامب رئيسًا في نهايات عام (2016م)، وأختها التابعة لها في انتخابات عام (2020م)، وهذا مؤشر على خطورة تحيط بالديمقراطية الأمريكية وربما تحبطها مسقطة تجربة لطالما كانت براقة.

ومن أوليات رؤساء أمريكا أن روزفلت هو أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية يظهر على شاشة التلفزيون عام (1939م)، وهو أول رئيس يستخدم سيارة مصفحة عام (1941م)، وأُنتخب جروفر كليفلاند مرتين غير متتاليتين عامي (1884م) وَ (1892م)، وفشل رونالد ريجان مرتين في الفوز بالانتخابات وغدا رئيسًا في الثالثة عام (1980م)، وأطاح مجلس النواب بالرئيس أندرو جونسون عام (1868م) في سابقة من نوعها، وكان الرئيس المثير للجدل أندرو جاكسون آخر رئيس ممن شهد الثورة الأمريكية وهو سابع رؤساء أمريكا حسب الترتيب.

كما تعرض أربعة رؤساء للمحاكمة وكانوا على وشك العزل بيد أنهم نجوا جميعًا وهم: جونسون (1868م) ، ونيكسون (1974م)، وكلينتون (1998م)، وترامب (2019م)، وللرئيس هاري ترومان مفارقات عجيبة، فهو الذي أمر بإلقاء القنابل على اليابان، وأنشأ حلف النيتو العسكري، ودخل في حروب كثيرة باردة وحقيقية، وفي عهده انتهت الحرب العالمية الثانية، وساهم في إنشاء الأمم المتحدة المعنية بالأمن والسلم، وانخفضت نسبة الرضا عنه لأدنى مستوى في تاريخ الرئيس وهو لم يزل حاكمًا، ولم يكسر نسبته بالهبوط إلّا بوش الابن الذي نال تقييمًا شعبيًا مرتفعًا في السخط والغباء، بيد أن سمعة ترومان وشعبيته ارتفعتا بعد وفاته ونشر مذكراته حتى جُعل ضمن عظماء تاريخ أمريكا.

وأول رئيس أمريكي توفي وهو في منصبه هو الرئيس “وليم هنري هاريسون” عام (1841م)، وهو آخر رئيس ولد لأحد الرعايا البريطانيين، ويعدّ هو و”رونالد ريجان” و”دونالد ترامب” من أكبر الرؤساء الأمريكان عمرًا حينما تولوا الرئاسة، وكانت أعمارهم على التوالي (68) عامًا، و (69) عامًا في المرة الأولى و (73) عامًا في الثانية، و (70) عامًا، وفي الانتخابات القريبة القادمة سيكون الرئيس المنتخب هو الأكبر عمرًا في تاريخ الرئاسة الأمريكية سواء أعيد انتخاب “ترامب”، أو فاز “بايدن”، والله يكفينا بأسهم بما شاء.

ثمّ نلاحظ من سجل الرؤساء الأمريكان أن ستة عشر رئيسًا منهم حكموا لفترتين متلاحقتين ومعهم روزفلت الثاني الذي حكم ثلاث فترات تباعًا، وبعده نصّ النظام على الاكتفاء بفترتين، وآخر ثلاثة رؤساء قبل ترامب ظفروا بفترتين رئاسيتين، ومن الذين حكموا فترة واحدة مات ثلاثة خلال فترتهم الأولى وقتل كذلك ثلاثة، وأصبح أربعة عشر نائبًا رئيسًا فيما بعد نيابتهم مباشرة باستثناء نيكسون الذي صار رئيسًا ولكن ليس بعد نيابته مباشرة، وجميع الذين حكموا بقوة الدستور بعد وفاة الرئيس أو اغتياله لم يحكموا فترتين باستثناء روزفلت الأول وترومان.

أيضًا حكم ستة عشر رئيسًا ديمقراطيًا خلال أربع وعشرين فترة رئاسية، فيما حكم تسعة عشر رئيسًا جمهوريًا خلال ثلاث وعشرين فترة رئاسية، وحكم عشرة رؤساء مستقلون أو ينتمون لأحزاب صغيرة خلال اثنتي عشرة فترة رئاسية، وفاز أربعة رؤساء عن طريق المجمع الانتخابي منهم بوش الابن وترامب، وإن لم يحرز أيّ مرشح أغلبية في أصوات المجمعات الانتخابية، فسوف يختار مجلس النواب في الكونغرس الرئيس من بين أول ثلاثة مرشحين، ويختار مجلس الشيوخ نائب الرئيس، وهذا مسار نادر حدث مرة واحدة وفاز بسببه جون كوينسي آدامز من الحزب الديمقراطي بالرئاسة عام (1824م).

أما وظائف الرؤساء الأمريكان التي سبقت رئاستهم مباشرة فنجد فيها قيادة الجيش أو أحد أفرعه خمس مرات، ونيابة الرئيس أربع عشرة مرة، وعضوية المجلس النيابي سبع مرات، ومنصب وزير الخارجية ثلاث مرات، وحاكم ولاية عشر مرات، ووزير لشؤون منطقة أو دولة مرتين، ووزير التجارة مرة واحدة، ووزير الدفاع مرة واحدة، وبدون وظيفة رسمية مرتين إحداهما للرئيس الحالي دونالد ترامب، وسبق لبعض الرؤساء إدارة وكالة المخابرات المركزية المعروفة بالقوة والتغلغل وتنوع الأساليب؛ مما أكسبهم معرفة عميقة بالبلاد وأوضاعها وبالحكام وشخصياتهم، ومن أبرزهم فيما أذكر جورج بوش الأب.

ومن المهن والأعمال التي مارسها بعض الرؤساء في حياتهم قبل دخول المكتب البيضاوي: ساعي بريد، وخياط، وساقي في حانة، ومنادي في المحكمة، وعامل يجر قوارب الصيد، وصانع دمى، وتاجر خردوات، وماسح أحذية، وراعي ماعز، وأجير ينتف الدجاج، وحارس حديقة، وممثل تلفزيوني، ومزارع فول سوداني، وبائع كتب، ولم تمنعهم هذه المهن من الطموح والمسابقة حتى حكم أكثرهم العالم وليس أمريكا فقط، ونتفوا الدول والشعوب، ورعوها شر رعاية، وأسقوها المواجع، بعد زمن نتف الدجاج، ورعاية الماعز، وإسقاء السكارى.

كذلك عانى الرؤساء الأمريكان من فضائح سياسية وجنسية ومالية وعسكرية، ووقف بعضهم في مواضع محرجة أو مضحكة، وكانوا خلال السجال الانتخابي يصفون بعضهم بالبلاهة والحمق وغير ذلك، فإذا انتهت الانتخابات أذعن الجميع لنتيجتها، وبارك الخاسر للفائز وخلع عليه أحسن الألقاب، وهذه هي طبيعة المنافسة السياسية، وثمرة تراكم الخبرة في المجتمع الأمريكي حتى أمن الرئيس من الانقلاب عليه إلّا بواسطة محاكمات دستورية وقرارات نيابية، دون أن يطرأ على باله احتمالية التغيير بالقوة؛ لأن واشنطن ليس فيها سفارة أمريكية طبقًا لجواب زعيم ظريف من أمريكا الجنوبية، ولخلافة الرئيس الأمريكي خط واضح مرتب فيه بضعة عشر منصبًا على التوالي جاهزين للحكم في الأحوال غير المعتادة.

وللرؤساء الأمريكية مواقف وخطب وتعبيرات دينية مع أنهم يظهرون على صفة الزعماء البعيدين عن تأثيرات الكنيسة، وهذه الآثار مرصودة في غير كتاب حتى ادعى أكثر من رئيس أنه تلقى الأوامر من الرب أو المسيح وأن حروبه صليبية، ولهم خطب مهمة قبيل إعلان الحرب محفوظة ضمن كتاب جدير بالترجمة، وتشتمل برامجهم الانتخابية على مواقف وموضوعات متكررة، ومنذ إيجاد دولة إسرائيل بقرار من الأمم المتحدة دون مثال سابق أو لاحق أصبح أمنها ركنًا أصيلًا في البرنامج الانتخابي للمرشح وفي المسار التنفيذي للرئيس الذي يحرص على أن تُلتقط له صورة وهو خاشع عند حائط البراق “المبكى” مرتديًا الطاقية التي تخص اليهود.

ويرتبط بسباق الرئاسة المناظرات الرئاسية، ومن الطريف أنها بدأت بمبادرة منظمة نسائية ثم آلت إلى مؤسسة غير ربحية تدير هذه المناظرات باحترافية، وتحضير مبكر، ومبالغ طائلة، ونقلت عبر الإذاعة أول مرة عام (1905م)، وعبر التلفزيون عام (1960م) بين كيندي ونيكسون، وكان الأول حسن الهندام مرتاح الجسد والتعابير بخلاف الآخر الذي ظهر بإنهاك وتصبب وجهه من العرق، فخسر نيكسون جمهور المشاهدين وإن كسب المستمعين عبر المذياع، وفي النهاية فاز كينيدي وأصيب نيكسون بعقدة من المناظرات ولذلك لم يدخلها في انتخابات عامي (1968م) و (1972م) التي فاز فيهما بالرئاسة، وشهد عام (1992م) أول مناظرة يشارك فيها مرشح من حزب ثالث هو الملياردير روس بيرو الذي تنافس مع الديمقراطي “كلينتون”، والجمهوري “بوش” الأب.

ومن طرائف المناظرات أن “رونالد ريجان” استثمر سؤال المذيع عن تجاوز عمره السبعين للتعريض بصغر سن منافسه وقلة خبرته فضحك المنافس والجمهور وفاز “ريجان” برقم مرتفع من الأصوات غير مسبوق تاريخيًا، وأثار “بوش” الأب استغراب المشاهدين بكثرة نظره إلى ساعة يديه في إشارة غير لطيفة إلى إصابته بالملل ورغبته في إنهاء المناظرة، وأدت نظراته إلى نفور الناخبين منه، بينما شاركت المرأة في هذه المناظرات أول مرة عام (2016م) إبان المنافسة بين “هيلاري كلينتون” و الرئيس الحالي “ترامب” الذي أفزع منافسته وأخافها خلال المناظرة، وحققت هذه المناظرة رقمًا غير مسبوق من المشاهدات يصل إلى أربعة وثمانين مليون مشاهدًا.

وحين يخرج الرئيس من البيت الأبيض منهزمًا أو بقوة القانون لنهاية فترتيه ينصرف إلى الكتابة وإلقاء المحاضرات وتقديم المشورة والمشاركة في العمل الخيري، ومن اللافت سوء المعاملة التي لقيها كارتر من بيجن عندما تيقن من خسارته لمقعده الرئاسي على إثر أزمة رهائن سفارة أمريكا في طهران، وهو إهمال شكا منه “جيمي” بمرارة لاحقًا، وهذا خلاف مظاهر التكريم التي تلازمهم في بلادهم وفي غيرها، ومما لا يفوتني ذكره وهو ذو دلالة أن جنازة الملك حسين بن طلال شهدت حضور خمسة رؤساء أمريكان ولا أدري هل تكرر ذلك مع غيره أم لا؟

أسأل الله أن يزيد بلادنا وبلاد العرب والمسلمين قوة واستقلالية واعتزازًا ونهوضًا وتعاونًا على البر والتقوى، وأن يجعلنا في مقام القيادة والسبق والتوجيه، وأن يعيد لعالمنا الأمان والنماء والعدل والسكينة، فإن عصر الهيمنة الأمريكية -أيًا كان الحزب الحاكم والرجل المتصدر- لمن رآه بإنصاف خالٍ من الانبهار عصر مليء بالظلم، والحصار، والنهب، والإبادة، والقتل، والله يجعل العاقبة لعباده على خير وسلام وصلاح وإصلاح وعزّة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الخميس 15 من شهرِ محرم عام 1442

03 من شهر سبتمبر عام 2020م

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)