سير وأعلام

عبدالرحمن الراجح: شيخ عيون الجواء وقاضيها

Print Friendly, PDF & Email

عبدالرحمن الراجح: شيخ عيون الجواء وقاضيها

لكلّ مكان ذاكرة ترتبط بالإنسان والعمران والأحداث، لذا تعزُّ الأماكن على أهلها لما تحفظه من ذكريات الإباء والآباء والأجداد لدرجة التشبث بالمواضع القديمة حتى لو كانت البقاع الجديدة أكثر جاذبية، ولولا هذه العلاقة الحميمية اللصيقة بالمكان لاختفت المدن والقرى التاريخية العتيقة من الوجود، فما أجدر المكان برواية سيرته وحفظ تاريخه، ومن أعظم أركان هذا الحفظ تدوين سير رجالاته من العلماء والأمراء وأهل التأثير والنبوغ.

لذلك أكتب اليوم بإجلال عن سيرة العالم والخطيب والقاضي الكبير الشيخ عبدالرحمن بن راجح بن ناصر الراجح (1250-1337تقريبًا)، وهو أحد أبرز من حمل عبء كتابة الوصايا والأوقاف وتوثيق عقود المبايعات والأنكحة في عيون الجواء بالقصيم إضافة إلى بعض الأعمال ذات الصفة القضائية والعدلية، مع إمامة جامع العيون التاريخي القديم والخطابة فيه، هذا الجامع الذي يُعدُّ من أكبر جوامع المنطقة وأقدمها وأميزها بناء.

تربى شيخنا على يدي والده ‏العقيلي الوجيه الشيخ راجح بن ناصر الراجح المتوفى عام (1280)، الذي سكن في بغداد، ونال فيها الحظوة والمكانة عند القائم وعامة الناس حتى عُرف بفضّ النزاعات بين العقيلات والعراقيين، وكثيرًا ما استعانت به هذه الأطراف للتدخل والإصلاح أو الحكم، وكان صاحب نجدة للملهوف، وجبران للكسير، وإغاثة لذوي الحاجات والجوائح الذين أوقعتهم صروف الدنيا في لأواء العيش وضنك الحال.

ولم تقتصر همة الوجيه العقيلي راجح بن ناصر على العمل الإداري والمتاجرة في الخيول وغيرها، بل تسامت نفسه إلى العلم والثقافة؛ فكوّن مكتبتين كبيرتين تضمان أمهات الكتب ونوادرها، ثمّ زادتا بجهود نجله عبدالرحمن فيما بعد، وحتى لا يضيع ما فيهما من كنوز وذخائر، ولخدمة البلدة وأهلها ومن حولها، نُقلتا واحدة إلى المدينة النبوية وربما أنها ضمن محتويات مكتبة المسجد النبوي، والأخرى إلى عيون الجواء، وبعد وفاة الشيخ عبدالرحمن أحسن ورثته صنعًا حين تبرعوا بها إلى مكتبة الشيخ عبدالله بن حميد في بريدة.

ومن بصيرة الأب الوجيه ونصحه أن استلحق ابنه عبدالرحمن إليه في العراق لينهل من علمائها ومكتباتها، فسافر من عيون الجواء إلى حائل، ومنها إلى العراق مترافقًا مع الأمير محمد بن عبدالله بن رشيد (1237-1315)، ودرس هناك في المساجد واستفاد إضافة إلى ما حصلّه من علماء بريدة بلدة أخواله السعدون التواجر إذ كان كثير السفر إليها والترداد عليها، فقويت علاقاته بعلماء العراق وبريدة وعنيزة خاصة مع مشايخه وزملائه، واستوثقت عُرى المحبة والتقدير بينه وبين عالم بريدة وقاضيها الكبير الشيخ محمد بن عبدالله بن سليم (1240-1324)، ومع قاضي عنيزة الشهير وشيخها الشيخ صالح بن عثمان القاضي (1282-1351).

ثمّ عاد الشيخ إلى بلدته فخدم أهلها بنشر العلم وتوسيع دائرة التعليم، وشارك في ذلك مع كرام بررة سبقوه أو تبعوه من علماء المنطقة المشايخ الكرام من آل السايح والمطلق والراجح والعجلان والعقيل والرديني منطلقين من جامعها القديم ومعلمها البارز الذي يعود تاريخ بنائه إلى مئتين وخمسين عامًا كما يقول أكثر من باحث ومؤرخ من أبناء المنطقة مثل الأستاذ إبراهيم الدسيماني في لقاء عبر اليوتيوب، والأستاذ سليمان السلمان، والأستاذ عبدالله المفلح حسبما أخبرني د.خالد اللميلم نقلًا عنهما، وإن التعليم لمسار يضيء حياة صاحبه وعالَمه وتبقى آثاره حتى بعد رحيله إلى الدار الآخرة لأنه من أنفس العمل الباقي.

وللشيخ عبدالرحمن الراجح مواقف محفوظة محمودة، منها أنه سمع عن الخلاف بين قرينه الشيخ ابن سليم مع الأمير عبدالعزيز بن متعب بن رشيد (1285-1324) حتى اشتهرت عن الأمير الجنازة مقولته: لولا العلم الذي في صدر ابن سليم لجعلت رأسه يمشي أمامه! ولذلك كان لا مناص من خروج الشيخ للنجاة بنفسه وعلمه من بطش الأمير المعروف، وقرر التوجه إلى بلدة أخرى.

فاقترح الشيخ عبدالرحمن على جماعته أهل العيون أن يستضيفوا الشيخ حتى يستفيد بنوهم من علمه وفضله، وصنيع الشيخ فيه كما بدا لي أربع مكارم: أولها حميته لصاحبه الشيخ المظلوم، وثانيها: مشاركته في حجز الأمير عن إيذاء العالم، وثالثها: ابتغاء مصلحة البلدة وأهلها وطلبة العلم، ورابعها: مشاورة الأمير ووجهاء قومه حتى لا يستفرد برأي أو يستعجل بإجراء.

لأجل ذلك قدّر الأمير ووجهاء البلد حُسن طلب شيخهم وأهميته، وعرفوا له فضيلة مقترحه وما فيه من محامد، بيد أنهم رأوا أن غير بلدتهم آمن وأحسن لشيخ بريدة وعالمها؛ لأن عيون الجواء على طريق جيش حائل الكبير الغشوم، ومن حماية المنطقة الابتعاد عن مغاضبة ابن رشيد، وهو ما كان إذ انتقل الشيخ ابن سليم إلى مناطق أخرى فنعمت بوجوده، ونهلت من علومه، وأمن من سطوة ابن رشيد.

كما نهض الشيخ عبدالرحمن عجلًا إلى زميله الشيخ صالح القاضي، وقصده في عنيزة طالبًا منه الشفاعة عند الملك عبدالعزيز (1297-1373) لابن خالة نجله راجح الشاب الوجيه إبراهيم بن علي المنيف (1290-1355) -أخوالهما من أسرة الشايع الكريمة- الذي سجن في بريدة عقب انتصار الملك عبدالعزيز في معركة روضة مهنا عام (1324) بسبب تهمة باطلة لحقته من الوشاة، فقال القاضي للراجح: سوف يتغدى الإمام عندي اليوم ولن يكون إلّا خيرًا، فشاركنا وسترضى بإذن الله.

وبعد حضور الإمام لمنزل الشيخ وشرب القهوة أخبره القاضي بمجيء الراجح واستئذانه للحديث، وبعد الإذن قال الشيخ للإمام: إن ولاء ابن منيف لكم وليس صحيحًا ما يشاع عنه، ونطلب فكاك أسره وإطلاق سراحه، فقال الإمام: سنفعل مادام أنك تشهد له بذلك يا شيخ عبدالرحمن، ولم ينتظر الشيخ وهذا من حكمته إذ طلب من الإمام كتابة أمره بالإفراج فكتب أمره لعامله على ورقة ووقعها؛ وهذا من بُعد نظر الحاكم لأن العفو وكسب القلوب أمر يستحق المبادرة لردم أيّ هوة قد تتسع فيعظم رقعها، ثمّ عاد المنيف لبلدته قصيباء وأهله سالمًا معافى، علمًا أن الشيخ المنيف هو والد الروائي عبدالرحمن منيف، وجدّ الوجهاء من حفدته أبناء وبنات نجله الأكبر عبدالله.

وللشيخ الجليل علاقة وطيدة مع أمير عيون الجواء عبدالله بن محمد بن عساف (1250-1337 تقريبًا) الذي تولى إمارة العيون أربعين عامًا في حقبة عصيبة وقعت فيها معارك طاحنة بين جيش حائل وجيش القصيم والرياض، ومن مواقفهما أن الأمير طلب إلى الشيخ تطليق زوجتي ابنه أول مهاجر معروف من نجد إلى قارتي أمريكا العم علي بن عبدالله العساف (المتوفى عام 1360 تقريبًا) حتى لا يقع عليهما الضرر من غياب الزوج.

وحين علم الأمير ابن عساف بنية أحد الوجهاء خطبة ابنته وهو لا يرغب به زوجًا لها بادر إلى تزويجها بمن يرتضيه وترتضيه ممن خطبها من أبناء جماعته أهل العيون، وعقد لهما الشيخ عبدالرحمن الراجح فجرًا بناء على طلب الأمير، ولما وصل الخاطب ضحى ذلك اليوم استشهد الأمير بالشيخ القاضي عبدالرحمن بن راجح الذي قال بأن الفتاة أصبحت في عصمة زوج.

أشير أخيرًا إلى أن الشيخ الراجح تزوج عدة زوجات من بنات أسر جوائية كريمة هي الشايع والمنيع والعمرو، وأنجب وله أولاد وأحفاد لهم ذرية مباركة تقيم في المدينة النبوية والدمام وعيون الجواء والرياض وبريدة وحائل وقصيباء وغيرها من مناطق المملكة، وكثير من المعلومات المكتوبة في هذه المقالة نقلتها من حفيد المترجَم له نزيل مدينة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم العم الشيخ إبراهيم بن عبدالله بن راجح بن الشيخ عبدالرحمن، وتلك ذرية بعضها من بعض، رحمة الله ورضوانه على الجميع.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الإثنين 12 من شهرِ محرم عام 1442

31 من شهر أغسطس عام 2020م  

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)