السيرة الذاتية: الفن الفاتن!
سيطرت في الآونة الأخيرة كتب السير الذاتية على قسم كبير من المؤلفات، والإصدارات الحديثة، وأخبار معارض الكتب، وطرقتها فئات الناس من جميع درجات السلم؛ حتى بدأت رويدًا رويدًا تزاحم الروايات التي ابتلعت نصيبًا غير قليل من دواوين الشعر ذات زمن، وتلك الأيام يداولها الله القادر بين الناس والأفكار والكتب. وأستطيع أن أزعم مطمئنًا بأن لهفة القارئ تجاه كتب السيرة الذاتية تضاعفت خلال السنوات العشر الماضية، وربما تظل في تصاعد لعقد قادم أو أكثر، ولو خبت فلن تموت.
اكتسب سرد الذات مكانته هذه اتكاء على التصاقه الوثيق بالتاريخ والذكريات، وزاد من بريقه أنه يكشف جانبًا خافيًا عن كثير من الناس حتى لو لم يصل الكتاب إلى مستوى اعترافات القديس أوغسطين أو روسو، وحتى لو لم تبلغ صراحته المستوى الذي وصل إليه لويس عوض أو جلال أمين الذي أغضب أشقاءه، وليس بالضرورة اقتفاء أثر هذه التجارب خاصة في جوانب لا يحسن إيرادها صراحة؛ ولأجل ذلك كان عمر فروخ متحفظًا في سيرته وهي نافعة ماتعة.
ومن العجيب أن يصوب البعض سهامه نحو ذاتية هذا النوع من التصنيف مع أن اسمه حاكم عليه؛ فهو سيرة ذاتية تتحدث عن الإنسان ذاته، فلا تثريب عليه إذا انطلق من نفسه وعاد إليها بين فترة وأخرى، وكما أن القفز على سير الآخرين لإبراز الذات معيب؛ فكذلك نسيان الذات في سياق الحديث الذي ما سطر إلّا لأجلها، وقد لا يوفق كتّابها لتغييب الأنا مثل إبداع طه حسين مع الفتى في الأيام، أو رشاقة عبدالرحمن الشبيلي مع صاحبنا في مشيناها، ولا ملامة عليهم فظهور الأنا هاهنا طبيعي، والغريب خلافه، وإن كان الحديث عن النفس شاقًا يستجلب المهابة كما أقر أحمد أمين وهو يقص حياته.
بل إن الأمر يتجاوز فن السيرة الذاتية إلى جلّ نشاطات الإنسان الفكرية من أحاديث ومحاضرات وحوارات وكتابات إذ أنها تعبر عنه بطريقة أو أخرى، وتصف شيئًا من قراءاته وقناعاته، وتنطلق من مواقفه وآرائه، وتزيده نشاطًا وحيوية حتى وهو في عشر الثمانين كما قال حسن العلوي في لقاء تلفزيوني معه، ونحن ننتظر سيرته الذاتية حسبما أخبرني صديق له، ولعله أن يفعل فاستدعاء الذكريات، ومدافعة النسيان، نشاط فكري لذيذ، لا يتوقع المرء قوة تدافعها وتناديها، وإن كان النسيان يلقي بثقله على الذاكرة حتى تضايق أحد أكابر أدبائنا في محفل من أثر هجوم النسيان والتداخل على حافظته، فنحن نعيش لنروي طبقًا لحكمة ماركيز، حتى لو اضطررنا لترميم الذاكرة استرشادًا بمهارة حسن مدن، وهل ألذ من الأحاديث المستطابة العِذاب؟
ويغلب على كتبة السير الذاتية الإشارة إلى غاياتهم من تدوينها، فبعضهم يعلن أنه يحارب النسيان مثل علي الطنطاوي، أو يكتبها لنفسه كما صرح عبدالعزيز الخويطر، أو ليترك طنة بعد رحيله ويستفيد من فراغ الشيخوخة بتحليل علاقاته على رأي منير شماعة، أو يجعلها مرافعة للتاريخ على طريقة حمد المانع، أو يعلن عبدالوهاب المسيري للقراء كيف بنى نماذجه الفكرية وأقام مشاريعه العلمية، أو يقصد عمر آل الشيخ هذا السبيل ليرفد ناظرها بلباب الحكمة، أو يقدم للأجيال أنموذجًا في الجدية عبر غبار سنين عمر فروخ وهو غبار عبق مثمر، أو يكشف خيبة الآمال العريضة بقلم أديب اسمه عادل اللباد.
كما يقوي هذا الوضوح الرابطة مع القارئ، ويعظم الصلة بين الكاتب والجمهور، فيترك الواحد منهم على بينة وهو يطوف بين ألوان الجمال وضروب المعرفة بحثًا عن لذة الدهشة، ومتعة الاستزادة من العلم بين جنبات كشف الذات، وتشريحها، وليس أثقل من سيرة يحيطها الغموض، أو تحاط بمحاولات استذكاء وعبور غير آمن، ويمكن المقارنة مع ثقل الاستماع للكتومين أهل الإفراط في التورية والإخفاء دون طائل، ومن تأمل فلن يسطر حروفه بهذا المسلك الفاقد للحيوية.
بينما يجدر بكاتب سيرته الذاتية أن يجعل القارئ على معرفة بالخط البياني لحياته، ويكشف له تدرج شخصيته في مختلف أحوالها، ونمو معارفه وخبراته، ونضوج أفكاره ومبادئه، ويفاجئه بين فينة وأخرى، فلا يخفي مواضع التردد، ومواطن الصراع الفكري أو العملي دون أن يجعلها منبرًا لتصفية الحسابات أو تقزيم الآخرين خاصة الراحلين منهم، وهو مسار بغيض لا يحمد وربما يزري بصاحب السيرة كما حدث لمفكر كبير شغب فيما كتبه على أعلام مضوا قبله إلى الدار الآخرة.
ولا بأس بعرض الرأي دون تحويل السيرة إلى منشور فكري، أو خطاب حجاج وتقريع، والشيء بالشيء يذكر، فمما يؤخذ على سير المسؤولين ورجالات الدولة أن صبغها البعض بالرسمية، وصبها في قالب يشبه مكتبه في المنصب، ونسي أنه يكتب سيرة ماتعة وليس تقريرًا، أو دليلًا إجرائيًا، ونافس في صفحات السيرة مصدر التعاميم، أو المتربع على الكرسي الوثير في مؤتمر صحفي أعدت محاوره مسبقًا، وطرحت أسئلته ببرود أنجب في الإجابات برودًا أكبر، وليس كل قلم يجيد دندنة غازي القصيبي.
أما قول الحقيقة التي يعتقدها المؤلف في الخبر والتحليل فحتم لازم، وإذا لم يستطع فالسكوت خير له من الكذب وجرح الأمانة، ومن ذلك ألّا ينسب البطولات والصواب لنفسه دومًا ويغمط الآخرين حقوقهم، وألّا يتعامى عن العثرات والتجارب الفاشلة وكلنا نبتلى بها، وألّا يكثر النقل عن غيره فليست السيرة بحثًا علميًا يستوجب على مؤلفها أن يصف مدينته نقلًا عن آخرين وليس من مشاهداته بسبب نظام بيتهم التربوي الصارم القاضي بتقليل الخروج للشارع وهو مأخذ وقع به أحد الكاتبين فأبهت سيرته خلافًا لسمو سيرة إبراهيم الحسون بوصفها لما رأت عيناه في عنيزة ومكة والمناطق الحدودية، وبعيدًا عن تجليات سنوات عزيز ضياء ذات الجوع والحرب والحب.
وكل سيرة ذاتية حقيقة بأن تغدو جذابة لافتة إذا حبكت ضمن سياق سردي صادق وماتع بعيد عن التكلف والغرور وادعاء الحكمة المبكرة، وإذا سلم منشؤها من الخوض في بحار بعيدة عن الذات وأمواجها فسيتألق، ويزداد أنسها بحسب موقع الكاتب من الحياة، ونظرته للكون، وجرأة مغامراته، ومستوى الأحداث التي عاصرها أو شارك في صنعها، وأما قيمتها فترتفع طبقًا لاكتمال تجربة راويها، وهو نقص يقع به بعض المستعجلين الذين يكتبون في سن مبكرة، وليست أيام الناس كالأيام التي تفرغ لها طه حسين، وسكب في حروفها شحنات عاطفة حية، ورسم صورًا دقيقة عن عيشه ومشاعره.
إن هذا الفن الحاضر بقوة قديم عندنا وعند غيرنا، ومع الأيام ينمو ويعيد التشكل والتجديد، وفيه حمد لله على نعمائه، وشكر لأهل الفضل والنبل، وتقديم قصة اسمها تجربة على أيّ حال تفيد الخبير والناشئ، وتحفظ طرفًا من التاريخ، وترتقي لتصبح لزامًا على أناس هم من الأرقام الصعبة في بيئاتهم ومجتمعاتهم، ومن بدأ التدوين أو التسجيل فسوف تدركه فتنة الإكمال حتى يفرغ من عمله مالم تعثره فتنة البحث عن الكمال، ولهم بعد النشر أصدق تحية لأنهم وصلوا بتوثيقهم حبالًا متينة بين الماضي والمستقبل، وهل المستقبل إلّا نتيجة للماضي؟
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-جدة
الخميس 08 من شهرِ ربيع الآخر عام 1441
05 من شهر ديسمبر عام 2019م
3 Comments