سير وأعلام قراءة وكتابة

أحاديث عن السير وكتابتها

Print Friendly, PDF & Email

أحاديث عن السير وكتابتها

الأحاديث في السير الذاتية والغيرية محببة للسامع والمتكلم والكاتب؛ ففيها أدب وتاريخ، ورواية وقصص، ولن تخلو من أعاجيب ومواقف تبكي الجدران أو تضحك المحزون، وتوقظ الوسنان وتزيد الهمة، هذا غير ما في فصولها من عبر وسلوان، ولأجل ذلك يطلب الأصحاب في الدوريات اللقاء بمن يطربهم حولها، وتستضيف البرامج المرئية والمسموعة العارفين بها.

والسير فنّ قديم خلافًا لما قد يعتقد البعض، إذ أن مرويات الناس عن أنفسهم منذ الأزل تدخل في هذا الباب، وهو ليس من مبتكرات الغرب كما يظن فئام آخرون، فمنه في تراثنا الإسلامي والعربي على سبيل المثال قصة إسلام سلمان الفارسي رضي الله عنه، وتقييدات العلماء عن شيوخهم ورحلاتهم وقراءاتهم وطلابهم، ومن أوسعها ما كتبه ابن خلدون عن نفسه في كتابه التاريخي الذي حوى المقدمة الشهيرة في مكتبتنا الإسلامية، والمشتهرة عند الأمم الأخرى.

ولعله يناسب هنا الإلماع إلى أن كلّ الناس لديهم قصة وحكاية في الأصل، وإنما الفرق في طريقة العرض والمعالجة، وفي الأسلوب واللغة، ولذا فيا ليت أن يبادر صاحب أيّ تجربة وخبرة ومحفوظات لتسطيرها، وألّا يتركها حبيسة الصدر فتندثر برحيله، وأن يسارع لتدوينها ونشرها بنفسه، ففيما وقفت عليه ذهلت من امتناع الأبناء عن نشر سير آبائهم وأجدادهم وذويهم، بل وتحفظهم الشديد في كتمانها وكأنها من مدخراتهم التي تفنى بالإشهار، أو من أكبر الكبائر وأخطر الكلام!

طبعًا هذا لا ينفي وجود حالات كثر تخالف ذلكم النكوص الغريب، كما صنع مثلًا أنجال الشيخ عبدالعزيز العبدالعزيز المنقور مع سيرة والدهم الوجيه، وكما أحسنت زوجة الدكتور سليمان السليم وأبنائه لجمع ما كتب عن راحلهم الوزير واستكتاب صحبه ثمّ طباعة تلك المقالات في مجلد ضخم، وإنما القول ينصرف لمن حبس سيرة أبيه أو جده التي كتبها الراحل بنفسه أو كتبت عنه، ومنع عن الناس فضلها، وحرم صاحبها من الذكر والأجر.

ومما يجب التنويه به في باب السير أنه علم يتجاوز الإنسان إلى المكان، وهذا باب من العلم البلداني الرفيع المهم لفهم التاريخ والطبائع والأحداث، وما أشنع غيابه أو تغييبه. ومنه سيرة الكيانات الأهلية والرسمية والتجارية التي تخبر القراء عن جوانب مهمة من التاريخ الإداري والاقتصادي والاجتماعي، فما أحوج المسؤول إلى البصر بماضي جهازه، وما أحرى طالب الجامعة أن يحيط بقصة قلعته العلمية، وما أنفع الإلمام بتاريخ التطور التشريعي والتنظيمي والاقتصادي والإعلامي حينما يريد المرء المحاضرة عن شيء منها، أو الاقتراح لها، وعلى هذا يقاس؛ فمن ولج إلى أمر لا يعرف سابقته ربما أتى بالمضحكات أو المبكيات. ومن أصناف السير التي تحفظ العراقة ولا يجدر بنا الغفلة عنها ما يكتبه المخلصون عن أسرهم وأخبار أجيالها الغابرة والحاضرة.

كما أن السيرة الذاتية أو الغيرية لا يلزم منها أن تكون كاملة شاملة لجميع أحداث عمر الإنسان؛ فسيرة محمد أسد “الطريق إلى مكة” حفظت قصته منذ ميلاده عام 1900م حتى عام 1932م فقط مع أنه عاش ستين سنة ثرية بالمغامرات والعلم بعد هذا التاريخ، وسيرة عزيز ضياء “حياتي مع الجوع والحب والحرب” تكلمت عن عشرين سنة فقط من عمره المديد الذي ناهز التسعين، بل إن “أيام” د.طه حسين على شهرتها حكت عن قسم من حياته فقط. ومن التجزئة الموضوعية ما نراه في سيرة د.عمر فروخ “غبار السنين”، وفي مذكرات الكتبي قاسم الرجب، وسيرة الوزير د.حمد المانع، وعيش د.عبدالله عسيلان نصف قرن مع مكتبته، والأمثلة كثيرة متنوعة، ومن أشدها نفعًا ولذة ما ارتبط مع القراءة، والكتابة، والشأن الثقافي بالجملة.

ومن المهم لمن يخطط أن يكتب شيئًا من مسيرته ألّا يتأخر في تدوين الأحداث يوميًا أو بين فينة وأخرى، وأن يحتفظ بالوثائق والصور والمراسلات الورقية والإلكترونية لديه، وأما من انبثقت لديه الفكرة متأخرًا، فيمكنه أن يبدأ ولا يقعد به خوف النسيان، فإن الذاكرة تتداعي وتتوالى الذكريات بمجرد الرواية كتابة أو حديثًا، ولي في هذا تجارب استماع إلى معمرين يناهزون التسعين، حتى أنهم أنفسهم تعجبوا من ذاكرتهم التي عادت شابة دفاقة، وسمعت من كبار كتبوا سيرهم وهم على أعتاب العقد الثامن؛ فما خانتهم الذاكرة ولا أعجزتهم عن تصوير دواخل النفس وبعض المجريات مهما تقادمت.

كما أنه لا مناص من الإشارة إلى أن كاتب السيرة أو راويها قد يحتاج لمحرر يتدخل في صياغتها، وليس في هذا من حرج على المحرِّر أو المحرَّر له، فهو سبيل مطروق، وليست الكتابة السردية الشائقة طيعة لكل قلم، أو جارية بيسر على كل لسان. وما دامت القصة جاءت على لسان صاحبها أو قلمه أول الأمر؛ فلا بأس من التنقيح والتجميل، ولا أجد وجاهة لمن يستغرب هذا المنهج حتى لو كان صاحب القصة والرواية ليس من أهل البيان والأدب، مادام لا يقول إنه من صاغها وكتبها بصورتها الأخيرة، فمثلما يتزين المرء إذا برز للناس، فسيرته وكتابه بالتحسين والتزويق أولى وأجدر؛ فهي الباقية.

كذلك من الموضوعات التي تطرح كثيرًا في مواجهة السير الذاتية والغيرية مسألة الصدق والصراحة ومساحة الحرية في مضمونها، والقاعدة التي أتبعها هنا هي افتراض صدق الكاتب والمؤلف، مع وجود احتمال لمراعاة سياق الزمان والمكان والحال، واحتمال آخر للنسيان والغفلة والخلط، واحتمال ثالث للغلط أو الخطأ في الرواية أو التفسير، ومثله احتمال وارد لغلبة حظ النفس والانتصار لها، ومن جنسه اتباع الهوى والتحيز، وبلاء غمط الآخرين وانكار الحقوق، واحتمال إضافي لذر الرماد في العيون أو للقفز على ما يروج وأكل الكتف مع الأكلة الذين لا يسمون الله ولا يحمدونه؛ لأنهم ولغوا في بهتان وافتراء أو للتناغم مع ما يشبه ذلك، واسم الله العظيم أجلّ وأعلى من شهود الزور ووحل التجني والاستعداء.

ومن لطيف ما عبر بي في هذا الباب أن طبيبة من البحرين تواصلت معي للحصول على نسخة من سيرة الوزير أ.د.أسامة شبكشي الأولى؛ لأن حياتها تتقاطع مع بعض تفاصيل حياته، فربطتها مع معاليه إبان حياته لأن سيرته لم تكن إذ ذاك معروضة للبيع. وتواصل معي شاب يسأل بلهفة عن سيرة الأديب إبراهيم الحسون، فلما استفهمت منه عن سبب حرصه أنبأني أن جده صديق للحسون، ويريد الجدّ أن يستمتع بما كتبه رفيقه الجميلة أحاديثه. ولا أنسى أن زميلًا أخبرني بأن عمته أو خالته -نسيت- تزوجت عشرين مرة -يا دافع البلاء-! وتتمنى العجوز أن تكتب تجاربها بعيدًا عما يخدش الحياء؛ ويبدو أنها لم تجرؤ على الإقدام، ولو فعلت لقهقه كثير من الرجال وربما لطموا، وولولت كثير من النساء -ربما-!

ختامًا أشير إلى أن السير تعين المثقف على النشاط والجدية في قراءة العميق والمفيد من الكتب الأخرى، ولا تخلو من حفظ ما قد يساعد على فهم التاريخ. ولهذه الغاية فإن حسن الانتقاء ينبني على رغبة القارئ نفسه، فربما تبحث ذائقته عن سيرة الإنسان المختلف، أو المؤثر، أو الغامض، أو المعروف عنده، والقاعدة أن يتوجه الإنسان إلى ما يظن أنه أقرب لتلبية حاجته وإمتاع روحه. وعلى الحصيف ألّا يكون أسيرًا لما اشتهر من سير، فبعضها يستحق الشهرة حقًا، وربما يوجد ما هو أجمل من بعضها الآخر وأرقى مثل سير د.نقولا زيادة، ود.عبدالوهاب المسيري، ود.وليد سيف، ومالكوم إكس، وغيرها، وفي معجم السير المطبوع عناوين واسعة للاختيار، وفي بعض المؤلفات التي سبكت مادة جديدة أنيقة من عدة سير غنية وكفاية لمن شاء الاكتفاء بمفيد المختصر.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 08 من شهرِ ربيع الآخر عام 1445

23 من شهر أكتوبر عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. بوركت أستاذي، وبورك مداد قلمك ..

    صدقت، فأعظم فوائد كتابة السير، ما ذكرت:
    “.. ومنع عن الناس فضلها، وحرم صاحبها من الذكر والأجر”
    وقد كانت والدتي حفظها المولى تروي لي من حين لآخر شذرات متفرقة من حياة أمها رحمها الله، فأعان الله على تدوينها ونشرها، فوجدت من تفاعل القريب والبعيد مع قصتها أمراً لم أتوقعه ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)