سير وأعلام عرض كتاب

الإدارة في حياة غازي

Print Friendly, PDF & Email

الإدارة في حياة غازي

صادف صدور هذا الكتاب لأوّل مرة وجود أخي محمّد سلّمه الله في مهمّة خارج المملكة، ولأنّي أكره انتظار الكتب طويلًا وهو يعلم هذا، طلبت منه جلب نسخة ففعل مع ازدحام جدول سفرته القصيرة، وشرعت في قراءته منذ تسلّمته وقبل أن يتسامع أكثر النّاس به، ولم أكن أعلم أنّ الكتاب لن يُفسح سنة صدوره، ومن المؤكد أنّ محمّدًا لم يتوقّع ذلك!

عنوان الكتاب: حياة في الإدارة، تأليف معالي د.غازي عبدالرّحمن القصيبي، نشرت المؤسسة العربيّة للدّراسات والنّشر الطّبعة العربيّة الأولى منه عام (1998م) وعنها أكتب، وعلى الغلاف صورة المؤلّف عندما كان سفيرًا في البحرين، ويتكوّن من إهداء ومقدّمة، ثمّ نصّ الكتاب متدفّقًا بلا عناوين فرعيّة أو أقسام بسلاسة تعسر على كتّاب كثر إلى أن تنتهي صفحاته وعددها (309) صفحات، دون أن يتسلّل الملل إلى القارئ، وأصبح أشهر كتب أبي يارا، والانتفاع منه كان ولايزال، ويكفي أنّه أشرع الباب واسعًا للوالجين بعده.

يروي د.غازي سيرته الإداريّة منذ ولادته في الأحساء سنة (1359=1940م)، وحتى انتهاء عمله سفيرًا في البحرين عام (1412=1992م)، بمعنى أنّ آخر ثمانية عشر عامًا من عمره (1412-1431=1992-2010م) ليست ضمن الكتاب، وفيها السّفارة في لندن، ووزارة المياه، ثمّ وزارة المياه والكهرباء، فوزارة العمل، مع نفوذ في مجلس الوزراء ولجنته العامّة، وقرب من الملك عبدالله، ولا أدري هل هي مكتوبة أم لا، خاصّة أنّه أشار لرغبته بتدوين موسع فيه طرائف ومواقف ومشاعر إنسانيّة.

رسخت فكرة التّوثيق والكتابة في ذهنه منذ القدم، وعرض في صيف عام (1386=1968م) على والده الشّيخ عبدالرّحمن القصيبي أن يسجّل مذكراته، وهو من الأثرياء العصاميين، ومن رجالات الملك عبدالعزيز في منطقة الخليج، لكنّ الأب أبى تنفيذ الفكرة؛ لأنّ السّر لا يُذاع، والمعروف لا حاجة لتكراره حسب رأيه.

بينما لابنه رأي آخر، فلكلّ سر عمر تنتهي بعده خطورته ويمكن إعلانه هذا أوّلًا، وثانيًا أنّ معرفة النّاس للأخبار تبقى قاصرة عن الإحاطة بخفايا وجوانب ربّما لا يعلمها إلّا قلّة من أطرافها أو معاصريها، ولأجل ذلك سبق د.غازي أكثر الوزراء لكتابة سيرته للأجيال القادمة من القادة الإداريين، وسرد فيها ما يجوز أن يُذاع من الأسرار، وأوضح الجوانب الخفيّة للإنجازات والعثرات، فذاك واجب تجاه البلد والأجيال والتّاريخ.

واستنادًا لقراءتي كثيرًا من سير الوزراء في المملكة وكتابتي عنها، وصلت إلى رأي من قسمين، الأوّل: لا يوجد سيرة وزير حتى الآن أشدّ صراحة منها، والثّاني: لا يوجد سيرة وزير حتى الآن أمتع منها، وأعجب ممن يرون فيها نرجسيّة فقط، فهذا الفنّ اسمه سيرة ذاتيّة، ومن الطّبيعي أن تنطلق من ذات الكاتب، ولا لوم على من صدق، ولم يزعم أنّه محور الأحداث.

فالصّدق يحكم عليه أشخاص على قيد الحياة ساعة نشرها، إضافة لتعهّده في المقدّمة بأن لا يقول سوى الحقيقة، وهذا عهد متداول في جلّ السّير الذّاتيّة، ومع أنّ عددًا من الوزراء انتقد بعض أعمال القصيبي خاصّة في عمادة كليّة التّجارة التي كانت أوّل تجربة إداريّة له وأصعبها، وفي زارة الصّحة، وخالف بعضهم روايات تعيينه وإعفائه، إلّا أنّه لا مانع من احتماليّة صواب ما ذكروه جميعًا، فكلّ واحد شهد على ما وقع له، وهذا مبلغ علمه، فلا أحد يعلم عن كلّ شيء، ومن المتعارف عليه تاريخيًا تعدّد الرّوايات والتّفاصيل لحادثة واحدة، فضلًا عن إمكانيّة تكرار أمر واحد غير مرّة بأكثر من صورة.

وأمّا تدوير الأحداث حول النّفس فأمر تنفيه السّيرة، وكم من مرّة ومرّة نسب أعمالًا جليلة وآراء صائبة لغيره، وبالمناسبة فيمكن استخلاص مواقف من سيرة القصيبي للملوك فيصل وخالد وفهد وعبدالله وسلمان، وللأمراء سلطان ونايف وسعود الفيصل، وللوزراء د.عبدالعزيز الخويطر وأ.محمّد توفيق، وأ.هشام ناظر وأ.محمّد أبا الخيل، ود.سليمان السّليم وم.عبدالعزيز الزّامل، ولآخرين من زملاء العمل مثل م.محمود طيبة الشّهم النّزيه، وَ م.يوسف الحمّاد الذي عاش صامتًا، ومات صامتًا، لكنّ منجزاته تسطع في قلب العاصمة، وَ د.عبدالرّحمن السّويلم الذي هيأ أحد المشافي الكبيرة للعمل في زمن قياسي.

يجلّي الكتاب ملامح من حياة الرّجل يحسن الوقوف معها والتّنبيه إليها، فقد عاش متعلّمًا طوال عمره ومعلّمًا، فعن أيّ عمل أسند إليه قرأ كثيرًا، وتعاقد مع مؤسسات استشاريّة ينهل منها دون أن يستأسر لها أو يعطيها فرصة لتستأسد عليه، والتزم بمتابعة تقرير أسبوعي عن تطورات المجالات الموكلة إليه، فانغمس في معمعة الإدارة ولم يغفل عن استمرار التّعليم الذّاتي والتّطوير، وهاهنا يكمن فرق كبير.

وخلال مراحل عمله أستاذًا في الجامعة، أو مسؤولًا إداريًا كبيرًا، أو سفيرًا، بنى مع شركائه علاقات وثيقة، واقترب من موظفيه بلمسة إنسانيّة حانية لا تفقد الحزم ولا تهجر الّلطف، وتعمّد الوقوف على العمل دون الاكتفاء بالتّقارير الجميلة، وأنصت للمستفيدين مباشرة، وأجاب على اتّصالاتهم، وفتح لهم باب مكتب الوزير، وهو ما أضحى واجبًا فيما بعد.

ويقوم أسلوبه التّعليمي على جعل المادة مفيدة ومشوقة بتقريبها وبذل أضعاف جهد الطّالب من خلال قراءة تصل إلى ثلاث ساعات عن كلّ ساعة تدريس، مع الرّجوع إلى عدّة مصادر ولا يكتفي بقراءة كتاب واحد، إضافة لتبادل علاقات المودّة مع الطّلاب، وفتح باب النّقاش لهم، واستضافتهم في منزله، والإذن بالطّرائف والضّحك داخل القاعة، وهذا العمل يتجاوز رساليّة التّعليم إلى سمو التّربية، وأثر المعايشة.

بينما يبرز في مسيرته اصطفاء الأعوان من ذوي الكفاءة والاستقلاليّة في الرّأي، وإسناد المناصب الكبيرة لهم، وترشيحهم للوزارة فما دونها، وقبول الاختلاف معهم، وجفوله من استقطاب أصدقاء السّمر، ورفقاء الثّقافة والفكر، وحاشية السّفر والرّحلات، إلى شؤون العمل، فذاك شأن، وهذا شأن آخر، والعطب في اختلاط النّسيجين ضمن منظومة واحدة.

واقتبس من خبرات السّابقين، ففي سكّة الحديد اقتنص أسلوبين من إرث أرامكو، ونقلهما معه لأعماله الّلاحقة وهما: الاجتماع الصّباحي المبكر مع أركان المؤسّسة؛ فيضمن تبكير الجميع، والاتّفاق على العمل، وإتاحة باقي الوقت لمهام أخرى، وفي نهاية الأسبوع يستعرض ملف القراءة الجامع لكلّ قرار أصدره مسؤول في المؤسسة، وفيه فرصة لمعرفة ما أنجز، وتدارك أيّ خلل، ومنع الخطأ مستقبلًا.

كما كانت لديه مبادئ إداريّة وقوانين اكتسبها من القراءة أو الخبرة، وفي كلّ تجربة خاضها استخدم هذه المبادئ واختبرها، فاستبان له مناسبتها أو سقمها أو الحاجة لتحسينها، وخرج من معاركه الإداريّة بمبادئ إضافيّة نثرها في جنبات كتابه الذي يحتوي على مقولات إداريّة كثيرة تفيد الإداري العريق والنّاشئ، وسوف أعود إليها في مقالة لاحقة.

ويحرص على توقير الأنظمة السّعوديّة، ويصرّ على إلزام الشّركات الأجنبيّة المتعاقدة بها، ولم ينكسر تحت وهج حضارتهم، ولم ينحن لزيف دعواهم بأنّها غير واضحة، كما وقف بصلابة ضدّ محاولات السّفارات الغربيّة التّأثير على المناقصات والعقود، وحين تدخّل زعيم دولة أجنبيّة، اقترح القصيبي أن تُنقص شركة من بلاد هذا الزّعيم مئة مليون من عرضها الذي كان الأرخص قبل هذا التّخفيض، وهكذا يفعل من يحبّ وطنه.

من أكمل ما في سيرته الإداريّة إشارته بصراحة إلى أنّ الوزارة الجديدة في مفتتح عهد الملك خالد عام (1395=1975م) لا يكاد يوجد فيها وزير لم ينتقد الأوضاع في المملكة وإن بحدّة أحيانًا، وبعضنا-كما قال- انجرف مع التّيار القومي النّاصري، فلم يعاقبنا أحد، ولم يستقبلنا في المطار ضبّاط الأمن، ولم يكن لنا ملفات تحصي كلماتنا، بل افترضت الحكومة الولاء في جميع مواطنيها، ويعقّب بأنّ استمرار هذه الشّراكة بهذا الأسلوب الرّشيد له أثر مباشر على الاستقرار، وأضاف تكملة لهذا السّياق: لم يُفرض عليّ أو على غيري إصدار قرار أو توقيع عقد.

وأفاض في الحديث عن منجزاته الأهم في توحيد شركات الكهرباء وتوسيع خدماتها، وفي تحدّي إنشاء سابك بداية من تسميتها على سنن اللّسان العربي، ووقوفه مستشارًا قانونيًا للشّركة أمام جحافل المحامين المرتبطين بالشّركات، وانتهاء بتصميم شروط لها، فالمسؤولية بيد الشّباب السّعودي الذين يستحقون الثّقة، ولا يوجد إغراءات ماليّة، ويستغنى عن تكثير عدد الموظفين بانتقاء الموهوبين، وستكون سابك شركة أهليّة وليست قطاعًا حكوميًا، ويمضي العمل فيها بروح الفريق إذ لا ينضم إليها إلّا من آمن بها وبفكرتها.

ولا تخلو حياة القصيبي الإداريّة من مواقف أفصح عن رغبته تقييد كتاب كامل عنها وليته فعل، فمنها أنّ الملك فيصل يُسكِت من يتكلّم فيما لا يحسن، ويزدري الملك خالد نفاق المسؤولين، ويتعجّب من تهافت الوزراء على تلبية الدّعوات لفرنسا وأمريكا مقابل التّثاقل عن الذّهاب إلى بنجلاديش أو الحبشة، وكم تمنى الملك فهد أن يرزق الله د.غازي شيئًا من الصّبر، بينما استغرب الملك عبدالله من انخفاض أسعار مناقصات وزارته وتساءل: لم لا يفعل باقي الوزراء مثلك؟ وللملك سلمان طريقة مختصرة في قراءة ما يرد إليه من مكاتبات لحفظ الوقت.

وحين ألقى كلمة أمام الملك فيصل ليس فيها إطراء أشخاص أخبره الأمير سلطان بأنهّ لم يشاهد الملك يصفّق مثل تلك الّليلة، وروى قصّة القبول العجيب لمشاركته في ندوة هارفرد، وكواليس عمادة كليّة التّجارة، ومقترح الوزير محمّد توفيق بتعيينه وزيرًا للعمل والشّؤون الاجتماعيّة، وتنافس القبائل والمناطق على الخدمات، ولفت النّظر إلى أنّ أهم لقاءات المرء قد يكون في مكتبة أو قطار أو مناسبة عشاء، وربّما يشتهر بعد حرب أو على إثر وشاية ضدّ ديوان شعر!

ومن المواقف أنّ أحد الموظفين عسُر عليه قراءة توجيه الشّيخ محمّد أبا الخيل فاجتهد بقراءة “لا ضير من المشروع”، وأحالها إلى “لا خير في المشروع”، بينما عرض الأستاذ محمّد عمر توفيق على أبي يارا عروسًا هي السّكة الحديد، وانزعج أبو فاروق من إهمال الدّول المستضيفة للوزراء المرافقين مع المسؤول الزّائر متمنيًا لو رأى الآخرون حقيقة المجد الذي يعيشه أصحاب المعالي! ولم يخف الكاتب تضايقه من الزّيارات الرّسميّة، وآثارها الثّقيلة.

لذا عرّج القصيبي على هذه الزّيارات، وذكر جوانب طريفة منها، وبعضها موجود في كتابه الوزير المرافق، ومن أكثرها عبرة قوله عن شاه إيران إنّه يعلم عن النّفط، وصناعة الحديد والصّلب، وخبايا الأسلحة، أكثر مما يعرفه أهل الاختصاص فيها بشهادة الخبراء، ومع هذا الولع بالتّفاصيل لم يوفق إلى تقصّي مشاعر شعبه فكانت النّهاية التي هوت به من حيث لم يحتسب، وأدركه الخذلان ممن ظنّ أنّهم رهن إشارته.

أمّا طرائف سيرته فكثيرة جدّاً، منها توظيف طبيب شريطة ألّا يكتب الشّعر، وعضو مجلس قيادة الثّورة الذي ينهي الخلاف بالمسدّس، واجتماعات وزراء الصّناعة العرب على مدار ثمان سنوات دون جدوى، وحساسيّة السّفراء، واضطراب البيروقراطية أمام مريض نال موافقة على علاج عينه فاكتشفوا أنّ الأخرى هي المعطوبة وأرادوا إرجاع الأوراق من جديد لتصحيح مكان العين! ومنها الإشارة لمن زعم زهده في منصب الوزارة، أو استعجل استقبال التّهاني قبل إعلانها فلم ينلها، وخبره مع الإعلام ذو عبرة؛ فهو إعلامي خدمه رفاقه ثمّ أضرّوا به من كثرة ظهور صوره وأعماله حتى توسّل إليهم ألّا يفعلوا حذار الغيرة وسوء التّفسير!

وبمرارة لا تخفى روى أتعس فترات حياته في وزارة الصّحة وسماها محرقة الوزراء، وأشفق على من يغدو وزيرًا لها، وحسم الجدل حول فترته القصيرة فيها قائلًا: إنّ الذين اعتقدوا أنّ الخدمات الصّحيّة تحسنت في حقبتي نظروا بعين الرّضا والتّعاطف وليس بعين الحياد والمنطق، إذ يجمع الخبراء على صعوبة إدارة القطاع الصّحي، وختم هذه الحقبة برسالة المتنبي الأخير لسيف الدّولة، وبعد إعفائه نُصح بالتّفرغ للقراءة والكتابة، ونظر لهذه النّصيحة على أنّها حسن ظن بمواهبه الثّقافيّة، أو سوء ظن بقدراته الإداريّة!

ويعدّ ما كتبه عن عمل السّفير من المعلومات اللّطيفة المفيدة عن الحياة الدّبلوماسيّة، وأنهى تجربته الأولى بوداع مؤثر من بلد صباه البحرين، مرتحلًا عام(1412=1992م) إلى لندن بلد دراسته الدّكتوراه، وإلى هذا الوقت اكتفى بالكتابة، وكان يرمق بعين الزّمن إداريًا شابًا شغوفًا يقرأ كتابه، وقد كان وسيكون أكثر مع تضمين هذه السّيرة الماتعة ضمن منهج مادّة المهارات الإداريّة لطلبة الثّانويّة، وآمل أن يقرأها طلّابها فمن فوقهم، فلهم من رجل الدّولة د.غازي ومن راقمه كثير من المحبة، وكثير كثير من الدّعاء.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الاثنين 15 من شهرِ رمضان المبارك عام 1440

20 من شهر مايو عام 2019م 

Please follow and like us:

22 Comments

  1. السلام عليكم
    بارك الله فيك الكاتب الفاضل احمد حفظك الله ووفقك لما يحب ويرضى . جزاك الله خيرا لقد انصفت الرجل المتوفي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)