سير وأعلام

عبداللطيف المنديل: الوزير الوطني الكبير!

Print Friendly, PDF & Email

عبداللطيف المنديل: الوزير الوطني الكبير!

يجتمع في سير أفذاذ الناس أكثر من عظمة ومجد، فقسم منها لأفراد، أو لبيوت وأسر، وثالثة لأماكن وديار، ورابعة لتربية واصطفاء، وخامسة لآثار وأعمال، وهو من عطاء الله لأناس يصدق عليهم هذا الحال، ومنهم فيما أحسب معالي الشيخ الوجيه الوزير عبداللطيف بن إبراهيم المنديل (1285-1359)، الذي يرجع إلى أسرة الفوزان من جلاجل بإقليم سدير شمال الرياض، ويؤول نسبه للبدارين من قبيلة الدواسر.

انتقل والده إبراهيم من جلاجل إلى الزُّبير عام (1253=1837م)، وعمل في التجارة والزراعة، ثمّ رزقه الله من واسع فضله ففتح دارًا للضيافة، وصنع لأسرته منزلة عليّة في العراق خاصة في البصرة والزبير النجدية ثقافة ونمط حياة، العراقية موقعًا وتبعية إدارية، وأنجب الشيخ إبراهيم ستة من الأبناء النابهين، نال نصفهم مرتبة الباشوية، وعمل بعضهم في الشأن السياسي بين العراق وتركيا وبريطانيا والجزيرة العربية أسوة بوالدهم.

وامتازت هذه الأسرة النبيلة بتربية متينة للأبناء في البيت، والمجلس، مع إلزامهم بالدراسة والتعلّم قدر المستطاع، وإشراكهم في الأنشطة التجارية والخيرية والسياسية، وما الباشوات يوسف وعبدالوهاب وعبداللطيف إلّا دليل على نجاح والدهم ووالدتهم حصة الحماد في التربية والتهيئة، ثمّ استمرت النجابة في أجيالهم ولذلك نعت الصحف العراقية الحفيد براك بن عبدالمحسن بن إبراهيم المنديل لما توفي شابًا عام (1910م)، وكان يجيد أربع لغات، وما من شك أن في إجادته اللغوية إشارة إلى بيت أراد صنع المستقبل بالتعاقب المؤثر كابرًا عن كابر.

لذا ورث عبداللطيف المجد عن والده وإخوانه الذين سبقوه، فنهض به وزاد عليه، وصار من أعظم وكلاء الملك عبدالعزيز وسفرائه ومستشاريه، ومنحه الملك الثقة الكاملة فلم يكن الرجل حامل رسائل كحال جلّ سفراء اليوم، وهي شكوى مريرة صرح بها معالي د.غازي القصيبي في أواخر سيرته، وإنما نال أبو ماجد هذه المكانة الرفيعة بفضل الله ثمّ بمواهبه وإخلاصه وحسن تقديره وتدبيره، وبنصحه الصريح البريء من الموافقة لأجل الاسترضاء أو المحافظة على مكاسب القرب، فهو يفصح عمّا يجول في خاطره بعد تفكير متروٍ وأناة وتقليب للاحتمالات ولو علم أنه يخالف بذلك رأي زعيمه، وبمثل أولئك الأركان تقوم الدول وتقوى.

وللباشا الوزير مواقف كثيرة، منها المالي كالإقراض، وتسيير تجارة الدولة ومصالح مواطنيها الاقتصادية في العراق، وفيها السياسي بنزع فتيل الأزمة بين بلاده والقوى المجاورة عراقية وعثمانية وإنجليزية، أو بتحييد القوى الإقليمية والدولية لمنع وقوع صدام معها يفضي إلى إعاقة مشروع وطنه، فضلًا عن تصحيح آراء الآخرين تجاه رجالات دياره، مع مشاركة فاعلة في الاتفاقيات والمعاهدات وتوجيهها لصالح بلاده خاصة في المناطق التي يحتمل وجود النفط فيها، ويتخللها مواقف إدارية بترتيب شؤون الموانئ والأعمال المالية لبلد حديث النشأة بعيد عن الإدارة العصرية، ومما قرأته في بعض المصادر أن كنية الباشا راقت للملك عبدالعزيز فأطلقها على نجله السادس والعشرين الأمير ماجد (1357-1424)، ولربما أنه أول أمير من آل سعود يحمل هذا الاسم.

وللكاتب المؤرخ الأستاذ محمد بن عبدالرزاق القشعمي تفصيل وافٍ عن هذه الأعمال وغيرها في كتابه المتميز: معتمدو الملك عبدالعزيز ووكلاؤه في الخارج، وهو كتاب يحكي من خلال استعراض سير أولئك الرجال براعة الملك في اصطفاء الأعوان وصناعتهم واستثمارهم والتعامل معهم، والاستماع لآرائهم ولو لم يوافق على ما أشاروا به، أو كان مناقضًا لما استقر في نفسه قبل أن يباحثهم، وتلك سجية القائد وصفة الزعيم الذي ينصت لمن حوله، ولا يضيق ذرعًا بنقاشهم ولو طال؛ فإدارة الدولة لايناسبها دومًا الإيجاز وأخذ طرف العلم ومختصره خاصة في المسائل الجوهرية.

كما أثبت رجل الدولة المحنك صدق انتمائه بفقد منصبه الوزاري في حكومة العراق بسبب وقوفه مع بلاده الأصلية، وحيلولته دون حدوث اشتباك مسلح بين بلاد عربية مسلمة متجاورة، وبصلابته تلك حمى البلدين وأهلهما من فتنة عمياء، وما أحوج الحكومات إلى أعضاء نافذين صادقين من ذوي البصيرة وبعد النظر والجرأة في إبداء ما يعتقدونه الأصوب، حتى لا ينزلق التاريخ إلى هوة سحيقة بسبب استعجال أو تزيين فعل لا تؤيده الحكمة التي هي عمل ما ينبغي في فكرته وكيفيته وتوقيته ومآلاته دونما خسائر تربو على الفوائد المؤكدة.

ومما تبرزه سيرته أن الإنسان يستطيع خدمة ذويه ومواطنيه وحكومته وإن نأى موضعه عنهم، وأن الرجل العاقل يظفر بثقة المتخاصمين والمتنافسين، ولربما يكون سببًا لفض النزاع بينهم، ومن جسارة الباشا وقوة قلبه اعترافه بمرجعيته لمنطقته أمام الدولة العثمانية مع توتر العلاقة العسكرية بينها وبين بلاده، ومن توازنه أن عاش في العراق واستوزر في حكومتها غير مرة خلال زمن لم تكن العلاقات بينها وبين بلاده سلسة مرنة بسبب طبيعة الجوار وأثقال الماضي القريب آنذاك التي ذابت أخيرًا.

ولأنه حظي بمكانة رفيعة لدى عدة حكومات حرص بعض المؤلفين على مقابلته، ثمّ وصفوه بما يجلّي جوانب التميز والمزايا التي تلفت النظر إليه وتجذب محدثه وجليسه، وترك انطباعات سامية في نفوس من تعاملوا معه عنه وعن قومه، واختارته حكومة العراق ثلاث مرات لعضوية مجلس الوزراء في حقيبتي التجارة والأوقاف، وأصبح عضوًا في عدة مجالس على مستوى البصرة أو العراق، وأكثر زملائه في تلكم المجالس من أهل التجلّة والكرامة، وأصحاب أسماء لامعة في تاريخ العراق الحديث، مما يدل على أن هذا الرجل النجدي زاحمهم بكفاءة واستحقاق، وفاز بمقاعده عن جدارة أكيدة.

بينما لم تقف جهود معاليه عند الشأن السياسي فقط، إذ كانت له ضيافة فخمة في منزله الأنيق استمرارًا لمسيرة أسرته، ونشط في أعمال خيرية ومجتمعية تخصّ الأوقاف، والمكتبات، والتجارة والزراعة، وإنجاز مشاريع سقيا الماء وإنارة البيوت بالكهرباء، وكم في السقيا من أجور لو علم أهل الأموال، وكم في الكهرباء من منافع للناس والبقاع، تجعل العاملين في هذه المجالات الخدمية على ثغور عظيمة تجلب لمن أحسن النية الثواب الأخروي وعالي الدرجات بفضل الله وكرمه. 

أما حين نتتبع حياة الشيخ المنديل فلن نقع منه على كلمة تبجيل وإطراء ومبالغة في غير موضعها تجاه أشخاص أو أعمال، ولن نسمعه يردد الحديث متشدقًا عن الوطن أو الوطنية مع أن الملك عبدالعزيز يناديه بالخؤولة، وفوضه عنه في شؤون جسيمة إبان أوقات عصيبة، ومن المؤكد أنه لم يخوِّن غافلًا، ولم يبحث في الوثائق التي بين يديه لإدانة أحد، ولم يستجدِ منزلة أو قيمة بإيذاء معصوم الدم أو الحرية أو المال، وإنما محض قومه ووطنه الانتماء الخالص والوداد الصِرف بصورة رشيدة حين اجتهد في خدمة البلاد بماله، وجهده، وفكره، ووقته، ومنصبه، ومقترحاته الضخمة فما دونها.

لأجل ذلك حفل سجلّه العملي بالمكرمات والمنجزات إذ أبطل قرارات خطيرة سقطت ببطلانها حكومة عراقية بعد استقالة بضعة وزراء كبار، وأطلق اسم بلاده السعودية على طريق بصري مهم، وأحسن تمثيل أهله ومجتمعه في حقول خيرية واقتصادية وسياسية، وعُرف بكمال الفعل، وجميل الحديث، ولربما أنه مع ذلك لم يكن يجد في نفسه لنفسه فضلًا أو معروفًا على مرابعه ودياره؛ والبعض حظه البخس بضع أسطر مخزيات، أو مجموعة من كلمات ساقطات، ويظن أنه المجاهد الأكبر!

ألا ما أزكى الإنسان الإيجابي المخلص الفطن الذي يعلن ما يراه من حقّ وصواب بحكمة وبصيرة، ويفعل الخير الذي يهتدي إليه وفق الثوابت والمصالح الكبرى، ولا يدخر الجهد والرأي في أيّ مسلك ينتفع منه البلد والإنسان والبيئة في الواقع والمستقبل الآتي؛ حتى تصف سيرته التوازن الحميد، والانصاف العزيز، وإن أسرة المنديل لذات علامة فارقة في تاريخنا المحلي والإقليمي، وهي جديرة بأن يدوّن تاريخها وسيرة رموزها خاصة الأب وأولاده ومن سار من بنيهم وأحفادهم على ذات الدروب الراقية.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 30 من شهرِ ذي القعدة عام 1441

21 من شهر يوليو عام 2020م  

 

Please follow and like us:

2 Comments

  1. السلام عليكم
    سلمت يمينك ويراعك استاذ احمد مقال متميز اجلى الغشاوة عن كثير من تاريخ أسرة المنديل والباشا عبداللطيف. ملاحظتي فقط عن أن منطقة السعودية بالبصرة نسبة لسعود المنديل وهو الذي أشتري كل تلك الاقطاعية فسميت السعودية. الملاحظة الثانية ثقة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه بالباشا عندما ارسل له رسالة يطلب منه المساهمة في شركة أرامكو ويحثه وأهل نجد في الزبير في المساهمة في تلك الشركة الفتية عند تأسيسها وهناك في دارة الملك عبدالعزيز نسخة من تلك الرسالة
    شاكر جهودك في إبراز رجالات المؤسس داخل وخارج المملكة العربية السعودية.

    1. الأخ سعود:
      وعليكم السلام ورحمة الله، وشكرا لكم.
      بالنسبة للملاحظة الأولى: الباشا أطلق اسم السعودية على شارع بصري حسب مصادر كثيرة، وأما المقاطعة فلم أقرأ عنها.
      أما الملاحظة الثانية: فصحيح خبر الرسالة الملكية، ومشار لغايتها برعاية المصالح، وهي تخص شركة النفط هناك وليس أرامكو.
      أكرر لكم الشكر على القراءة والتفاعل والتواصل، والله يرعاكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)