سير وأعلام عرض كتاب

  أسامة شبكشي: سفير في بلد الأفكار

Print Friendly, PDF & Email

  أسامة شبكشي: سفير في بلد الأفكار

كتبت قبل سنة من الآن مقالة عن سيرة معالي البروفيسور أسامة شبكشي المنشورة بعنوان مواقف وأشهاد، فانهالت عليّ رسائل البريد وتويتر من داخل المملكة وخارجها تسأل عن الكتاب وأماكن توافره، ومنها رسالة من طبيبة خليجية مبتعثة لألمانيا تقول: إن واقعها يشبه حكاية شبكشي، فتواصلت مع معاليه وأخبرني أن الكتاب متاح حاليًا في المكتبات، ومعه كتاب آخر، ويمكن شراء أيّ واحد منهما وقراءته بمعزل عن أخيه، وهذا مفيد للقارئ.

عنوان الكتاب الجديد: ألمانيا كما رأيت، تأليف: أ.د.أسامة بن عبدالمجيد شبكشي، صدر عام (1440=2019م)، وطبعته دار نشر كلاوس شفارتز في برلين، ويقع في (436) صفحة. يتكون هذا الكتاب من إهداء وسبعة فصول، وفيه صور كثيرة بعضها عن ألمانيا، أو نشاطات المؤلف، أو ما نشر في الصحف عنها، وكلمة ألمانيا مكتوبة أعلى الغلاف الأمامي بحروف جرمانية.

كما يحتوي الكتاب على معلومات مهمة عن ألمانيا، يستفيد منها من سيعيش فيها، أو يزورها، أو يتعامل معها، فضلًا عن كونها مادة ثقافية ماتعة. واسترجع المؤلف ذكريات مجيئه في شبابه الغض لألمانيا، وما عرف أن آخر محطاته الوظيفية ستكون فيها، وليس بكثير عليه بعد ذلك أن ينافس الألمان في الجدية والدقة.

والكتاب في أصله سيرة عملية لاثني عشر عامًا صرمها البروفيسور سفيرًا في أحد أهم بلدان أوروبا والعالم، فألمانيا من أقوى الاقتصاديات، وفي مقدمة الداعمين للمنظمات العالمية، ولشعبها حضور إبداعي تجاوز مئة فائز في جائزة نوبل، وكانت ركنًا في حرب عالمية مدمرة، ولها بروز في الفيزياء والطب والصناعة والأدب والفلسفة والموسيقى والرسم، ويوجد فيها عدد كبير من المتاحف والمسارح والأفلام، وقبل ذلك فيها أكثر الجامعات ومعاهد التعليم بأدق التخصصات وأخطرها، مع نتاج معرفي ضخم أثمر اقتصادًا قويًا، ووهب لألمانيا المرتبة الأولى متجاوزة غرماءها التاريخيين في فرنسا وبريطانيا.

كان اختيار معاليه للتمثيل في ألمانيا موفقًا لدراسته هناك وإجادته لغتها كما ينطقها أهلها، وقد واجه عددًا من التحديات سواء في موقع السفارة الذي لا يعبر عن أهمية المملكة، أو تأخر مرتبتها قياسا بغيرها، أو تراكم المديونيات على المرضى المعالجين حكوميًا، وضعف العلاقات مع الأوساط المؤثرة من ساسة واقتصاديين وأكاديميين وإعلاميين ورموز مجتمع، والمخجل شكوى إدارة المرور من تربع موظفي السفارة على عرش المخالفات بين السفارات!

ومن أحرج المواقف أيضًا اتهام الألمان للأكاديمية السعودية برعاية الغلو، فلم يصدق معاليه دعواهم المرسلة على إطلاقها، ولم يهمل المتابعة استرسالًا مع الثقة، بل تحقق ولم يعرِض عن المسألة، ثم أزال اللبس والخوف عن الألمان، وأبطل أيّ إجراء مخالف للنظام تفعله الأكاديمية، وشجع مسؤوليها على التعاطي مع المجتمع المحيط، وتقديم الخدمات الممكنة لهم، فغدا هذا المجتمع أكبر نصير لها ضد غوغاء اليمين المتطرف.

وحين زار معاليه تجمعًا ليحاضر فيهم جابهه البعض بالاعتراض على حكم ضد مواطن سعودي؛ فقال لهم بهدوء: هل ترضون أن نعترض على محاكمكم؟ وبعد نهاية اللقاء سألته المرافقة: أين درست القانون؟! وعندما رفض مدير مدرسة أن تجاورهم السفارة كي لا تنقل لطلابها التطرف الوهابي، وعلى مضض أقنعه السفير بالقبول ووعده برحيل السفارة لو تضررت المدرسة من الجوار، بيد أن المدرسة هي التي رحلت بعد أن فضحت الصحف الممارسات الجنسية فيها!

بينما يستبين من السيرة عمق فهم المؤلف للأعراف الدبلوماسية فلم يخرمها بل احتج بها أحيانًا، وصنع للسفارة جسورًا متقنة مع جميع الاتجاهات الحكومية والمجتمعية من خلال منافذ سياسية واقتصادية وإعلامية وثقافية وتعليمية ومشاركات نابضة بالحياة، وفقرات ترفيهية بريئة استهدفت الأطفال ووالديهم، واستقطبت الزوار بالملايين، والشكر من المسؤولين، وفوق ذلك منحت للسفارة سمعة ومكانة قفزت بها من مرتبة متأخرة إلى الترتيب الثاني المنافس للسفارة الأمريكية التي لم توفق بمبنى آمن جميل كما فعلت وصيفتها السعودية.

وأصبح سفيرنا الأول على قريب من ثلاثمائة سفير وقنصل وممثل في برلين عام (2012م)، وتسابق مجتمع برلين للمشاركة في احتفالات السفارة مع أن لها اشتراطات في لباس الرجال والنساء يمنع أي اجتهادات لا تتناسب مع ثقافة البلد وقيم العمل الدبلوماسي. وحظي السفير بقرب جلّ ساسة ألمانيا لنشاطه ولغته ومنطقه، وظفرت أنشطة السفارة بتفاعل إعلامي كثيف لافت.

كما يحث معاليه الدبلوماسي على الرزانة ووزن الكلمات، والمحافظة على هدوء البال والحذر من الانفعال كي يمتلك الحكمة ولا يفقد البوصلة، ويوصيه ببناء العلاقات ومعرفة تاريخ البلد وثقافته ورموزه، وزيارة المعارض وإيجاد موضع قدم لمنتجات بلاده الثقافية والزراعية والصناعية والتراثية، فأهم مهارات السفير التسويق لبلاده وهي تفوق مهارتي التفاوض والتحليل، ويؤكد ضرورة ألّا يُشاهد الدبلوماسي في أماكن مشبوهة، وأن يحترم زي وطنه في المناسبات، ويتبع قوانين البلد المضيف.

ومن كثرة ما يُرى السفير الكاتب في وزارة الخارجية الألمانية سرت مقولة في الأوساط الدبلوماسية في برلين مفادها أن من أراد الحصول على إذن لدخول الوزارة فليحضر موافقة من الشبكشي! ومصداق ذلك زيارة وزير الخارجية الألماني لمقر السفارة مرارًا وليس من عادته زيارة أي سفارة إلّا في يوم افتتاحها، وعقْدُ وزير الخارجية الألمانية اجتماعات شبه منتظمة مع معالي البروفيسور وثالثهما وزير ألماني فقط.

أيضًا لفت نظري اهتمام الشبكشي بالإعلام الألماني والعربي، والتواصل مع عدد كبير من المؤثرين فيه، بيد أن أهم إجراء اتبعه هو الحرص على أن يكون الإعلامي الألماني أو العربي المقيم موضوعيًا، وأن تكون كتابات أصدقاء السفارة وأحاديثهم متزنة حتى تقبل وتؤثر ولا تتهم بالمحاباة، وهذه سياسة رشد تكاد أن تكون مفقودة؛ فيصبح من يدافع عن شيء عبئًا عليه بكلمات مستهلكة، وألفاظ رتيبة، وتعابير مغسولة، وانفلات الزمام مدحًا أو ذمًا.

ولم يكن بناء العلاقات مع رجال السياسة والاقتصاد والإعلام يسيرًا في بلد يتعاظم فيه نفوذ اليهود، ويسترضيهم الغالبية، ولا يقوى أحد على إغضابهم؛ فعندما صرح رئيس حزب ألماني بتعاطفه مع العرب كان مصيره انقطاع حبال مظلته التي يهوى القفز بها، وهوى الرجل بسقوطه من ارتفاع ستة الآف قدم صريعًا على الأرض، وطويت قضيته بعد تقييدها على جان مجهول!

أما طرائف الكتاب فمنها البيات دون عشاء، وقصص معاطف كثيرة تجلب البسمة؛ فمن معطف مقطوع الكم بإهمال مضيف الطائرة وتنبيه موظفي السفارة له وهم يستقبلونه في المطار، إلى آخر مخلوع على منصة الملعب مع مستشار ألمانيا وأمام كاميرات الصحفيين التي التقطتهم دون رحمة، وآخرها رفض سفير عربي أن يفتش قبل دخول مكان احتفال، فلما جاء رئيس ألمانيا خلع معطفه تلقائيًا وخضع للتفتيش فأدرك الحياء السفير العربي وامتثل للنظام الذي لا يعرف الاستثناء! ومنها زيارة عجوز ألمانية تجاوزت الثمانين لمنزل السفير لأنه كان ملكًا لأهلها وهي طفلة قبل سبعة عقود، ويا لها من ذكرى.

وعلى هامش مباريات كأس العالم في ‫ألمانيا عام 2006م، شارك معاليه مع سفير ‫أوكرانيا في مؤتمر صحفي قبل مباراة فريقيهما، وسألهما الصحفيون عن المباراة المرتقبة، فقال الأوكراني: سنلقنهم درسًا قاسيًا؛ بينما أجاب معاليه بدبلوماسية: نحن نلعب معهم وليس ضدهم! فغلب صاحبه الذي اعتذر لاحقًا بأنه متعب من أمعائه فلم يزن قوله.

وبعد نهاية زيارة السفراء العرب لمصانع مرسيدس، أخبروهم بنبأ سعيد هو أن عميد السلك الدبلوماسي سينال هدية من آخر طراز، وقبل نهاية الزيارة أخرج نائب رئيس قسم التسويق من جيبه نموذجًا للسيارة وأهداه لمؤلفنا العميد وصارت نادرة يستملحها السفراء، ولا غرابة من صنيعهم إذ اكتشف المؤلف أن الهدايا المقدمة لأي مسؤول ألماني تذهب للحكومة إذا تجاوز سعرها ١٠ يورو!

أيضًا من طرف الألمان المتداولة على ندرتها أن أستاذًا جامعيًا فرض على طلابه إعداد بحث يتعلق بالنمل، فاقترح الفرنسي المغرم بالحب بحثًا عن الحياة العاطفية للنملة، بينما ذهب الإنجليزي المفتون بالمال إلى استقصاء الأثر السيئ للنملة على التجارة العالمية، أما الألماني الجاد فطلب الوقت والفرصة لكتابة مقدمة عن دراسة النملة تقع في ستمئة صفحة. ومنها أن الصواريخ الأمريكية والروسية إذا تجاوزت المجال الأرضي وسبحت في الفضاء تنسى لغاتها الأم وتتحدث بالألمانية؛ فغالب علماء الصواريخ من أصول ألمانية.

ومع حدوث حروب طاحنة بين ‫ألمانيا وأكثر دول ‫أوروبا فضلًا عن عدائها التاريخي مع ‫فرنسا، إلا أن ذلك لم يمنع ساسة الألمان من تحسين العلاقات مع أوروبا بدءًا بفرنسا، والدعوة لإنشاء الاتحاد الأوروبي بتنسيق كبير مع فرنسا، ولا غرو فالجفوة تزول، والخلل يسد، والكسر يجبر، أو جله؛ والمصلحة تقود لأعمال رشيدة، ولا غرابة فلدى وزارة الخارجية الألمانية فرق عمل مؤهلة جاهزة للعمل في أي مكان بالعالم حال حدوث أزمة أيًا كانت، ولذلك ما أكثر رجال الدولة عندهم الجاهزين للمشورة والخدمة.

ولا يخلو الكتاب المفيد من ملحوظات، منها ورود كلمة ممنون مرتين بمعناها الدارج في اللهجة الشامية بمعنى الشكر، بينما معناها العربي الفصيح غير ذلك وهي كلمة قرآنية. كما أن بعض السنوات لم تكن دقيقة مثل تفجيرات ميونخ وزيارة الملك عبدالله لألمانيا في موضع ذكرهما الأول، والخط المستخدم للآيات الكريمة لم يكن الأنسب والأيسر في القراءة، ولم يذكر المؤلف سبب أو تفسير استعجال رجوعه إلى المملكة، وأخيرًا فجدول سفراء السعودية لدى ألمانيا يعاني من فراغات بالسنين خلافًا لجدول سفراء ألمانيا في الرياض.

جزى الله معاليه خيرًا على إمداد مكتبة الدبلوماسية السعودية والعربية بهذا الكتاب، وآمل أن يكون حافزًا لغيره من المسؤولين كي يكتبوا تجاربهم، فهذا جزء من حق الوطن والأجيال، ويجب ألا يمتنع صاحب الخبرة من تدوينها وتوثيقها بحجة التواضع أو غير ذلك، وفي التأليف مسالك كثيرة للإفادة، وفي مهارات التحرير قدرة سحرية على تجاوز ما لا يحسن روايته أو التصريح به، والغاية العظيمة ستجد وسيلة شرعية مأمونة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف -الرِّياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 05 من شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1440

06 من شهر أغسطس عام 2019م 

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)