لغة وأدب مواسم ومجتمع

أسماء البنات وجولة معها

Print Friendly, PDF & Email

أسماء البنات وجولة معها

أخبرني زميل أنه عمل في أوائل سنوات دراسته الجامعية بأحد المستشفيات في وظيفة مؤقتة، فدخل عليه رجل تنطق عيونه بالغضب قبل لسانه، وطلب منه إصدار تبليغ عن ولادة ابنته التي اختار لها اسمًا نشازًا، فقال الزميل بكلّ جرأة: هذا الاسم ممنوع! وبعد حوار عرف الزميل سبب اعوجاج ذوق الرجل؛ فطمأنه بكلام إيماني، وبث فيه روح التفاؤل بالأجر على حسن التربية، وبخيرية الأصهار، ثمّ اقترح عليه أن ينتقي اسمًا ناعمًا بهيجًا ويشاور زوجته التي تجلس في آخر المكتب، فامتلأت عيونها بالفرح وهي تسمع نتيجة النقاش بعد أن كانت كئيبة من صنيع زوجها البعيد عن الحمد والحكمة.

وحدثني صديق أنه حين تزوج اتفق مع قرينته على أن يسمي هو الذكور ولها حقّ الاعتراض، وتسمي هي الإناث وله حق النقض، وعلته في ذلك أن الرجل أعرف بأسماء جنسه، والمرأة أحرص على اسم البنت منها على مسمّى الولد، مع اقتناع الزوجين بأن التسمية واجب شرعي على الأب وحقٌّ له لأن الانتساب إليه، وبتخابث سألته: هل استخدمت حقّ النقض أم أنك مثل الصين التي لم تستخدم في تاريخها “الفيتو” أسوة بغيرها؟ فصارحني بأنه معجب ببعض سلوك الصين!

لذلك نلاحظ أحيانًا الغرائب في أسماء البنات على وجه الخصوص؛ لأسباب على رأسها أن جلّ النساء مفتونات بالتميز والتفرد، وينفرن من التكرار حتى أن بعضهن إذا دخلت إلى محفل فوجدت من تلبس مثل ملابسها أدركها الغم أو كاد، وليس من بأس في التميز شريطة أن يكون على صراط مستقيم، ودون جنوح نحو ما لا يُفهم، أو صوب شطحات لا يمكن أن يوجد لها تفسير مقبول، وفي المعجم العربي سعة وغزارة. ولبعض الرجال تعلّق بقضايا فيها تزلّف أو تعصب؛ فيسمون بنياتهم بأسماء بريئة من الأنوثة والجمال غارقة في النفاق أو الخبال.

فمن الإغراب أن زميلًا أخبرني باسم مولودته الجديدة؛ ثمّ علمت أنه لا يدري بأنّ معناه القبر، وأجزم أن “الفيتو” إن وجد لديه فهو صيني! وسألني آخر عن معنى اسم سيخلعه على ابنته فقلت له هو الحِبر؛ فما أعجبه بيد أنه أردف بأنه خيار زوجه الذي لا يملك عنه محيدًا! واتصل بي ثالث ذات ليلة يستنجد للبحث عن معنى اسم أطلقته زوجته على ابنته، فاقترحت عليه تغييره لأن هذا الاسم أقرب لأسماء الأدوية منه لبني البشر، لكنه أجابني بأن الزوجة متمسكة به منذ سمعت امرأة تنادي به صغيرتها في أحد مطاعم دبي؛ فالتصق بأذنها وعقلها وأحاسيسها! وأما الرابع فمع سلامة ذوقه الأدبي إلّا أنه رضخ وأسمى صبيته وكأنها جزء من فيالق جيش لجب!

كذلك سمعت من هذا الباب عجبًا؛ فمنها أن رجلًا له جدٌّ بعيد يحمل اسمًا غريبًا نادرًا على وزن “فعلل”، ولم يدركه إكرام جده بتسمية أحد بنيه عليه وإنما جعله اسمًا لابنته على وزن “فعللية”! ونقل لي صديق بأن زميلتهم العربية في المستشفى رجعت بعد إجازة الولادة فسألوها عن اسم ابنتها فأجابت: آن! وحين أبدوا استغرابهم ذكرت لهم بأنها كلمة قرآنية في سورة الرحمن! فتطوع بعضهم للبحث عن تفسير الكلمة وأخبرها أن معناها يقترب من شدة الحر والحميم، وصرح لها آخر بأنها اختارت اسمًا أجنبيًا ليس من العروبة في شيء!

أيضًا روي لي أن مشرفة عربية زارت مدرسة ابتدائية نائية، فراق لها ذكاء طالبة وتفاعلها، فسألتها توددًا: ما اسمك؟ وببراءة أجابت البنت: عنيفة! فبكت الموجهة وقالت لها: أنت جميلة ولطيفة كيف أسماك أبوك عنيفة؟! وعبثًا حاولت المعلمة إخبارها بأن والد الفتاة مفتون بالخيل، ويستعير أسماء خيوله وأفراسه لأبنائه وبناته، فلم تقتنع المشرفة، وينهي الناقل روايته بأن المعلمة حمدت الله لأن الأستاذة العربية لم تعرف اسم الطفلة التي تجلس بجوار عنيفة، وهو اسم فرس لأبيها يخطئ الناس بنطقه فينادونها بقولهم: لعيطه!

أما الموافقات التي سمعتها في أسماء البنات فمنها ما روي لي أن معلمة تدرس الطالبات مادة التدبير المنزلي في المرحلة المتوسطة، وهي مادة يُعنى منهجها بالطبخ والخياطة ولا أدري هل هي باقية أم جرفتها رياح التغيير، والمهم أن اسم تلك المعلمة هو مائدة! وأنبأني زميل أن فتاة نضرة راجعتهم للعلاج وكان اسمها غير معهود لدرجة أنهم ظنوا أنها من الهند، وبعد خروجها بحثوا فوجدوا أنه اسم عربي فصيح بيد أنه لا يناسب أن يكون على فتاة يناديها به الرجال الأجانب وهم يتلمظون!

بينما فُتن جمهرة من الناس بأسماء أجنبية، ولبعضها معاني مستقبحة، فمن الأسماء الفارسية المستعملة ما معناه عند القوم مرتبط بالعهر حمى الله العفيفات منه ومن أهله، كما انجفل بعض الشباب لتسمية بناتهم تقليدًا لاسم ابنة رمز راحل مع أنهم لم يبلغوا معشار ذلكم الرمز في ثقافته، ونبوغه الأدبي والإداري، أو حتى في لطفه ورقي تعامله، وإنما شابهوه بالتسمية وبعض المظهر! وقرأت أن معنى بعض الأسماء الأجنبية المستخدمة عربيًا مثل سوزان هو الإبرة؛ فمن يسمي كريمته إبرة؟!

ومن لطيف ما سمعت أن أحدهم اختار لابنته اسمًا جديدًا يوافق في معناه اسم والدته وجدته القديمين، وسعى إلى والدته جذلًا بزعم أن التسمية عليها بالمعنى، لكنها رفضت قبول ذلك، وأردفت بأنها لا تريد أن يُسمى أحد عليها فتصاب بنته بالعقدة من الاسم القديم. والحقيقة أن كثيرًا من الأسماء القديمة ذات جمال في المعنى والمبنى، ومن أجمل الأسماء القديمة عندي حصة ونورة، وإذا كان لحصة تفسير ظاهر لارتباطه باسم الوالدة سلمها الله، فلربما يُظن أن خلف تفضيل نورة “إنّ”، وبعض الظنون تسرف في الخيال، وتبعد في الافتراضات، حتى قيل إنّ من الإبداع إنّ! وكان معي في الجامعة زميل أسمى طفلته باسم على وزن “فعلان” يبدأ بحرف الميم، فسألته: ما معناه؟ فلم يعرف! ثمّ أخبرته عن معنى الاسم بكسر الميم وبفتحها، وهما من المعاني الحسنة، واقترحت عليه مشاورة زوجه والاتفاق على حركة الميم.

وبمناسبة حكاية “التعقيد” من الأسماء؛ فقد رزق رجل بابنته الثانية بعد خمسة عشر عامًا من ميلاد الأولى، فأسمى الثانية باسم حديث أبكى الأولى التي تستثقل اسمها حتى رقّ لها أبوها وغيّر اسمها إلى آخر يتناسق مع اسم الصغرى. وحزنتُ كثيرًا بعد أن حُكيت لي قصة شاب يبحث عن زوجة، فوقع ترشيح أهله على فتاة لا ينقصها شيء بل هي إلى الكمال أقرب، فلما سألهم عن اسمها وأعلموه به قام كأنه لديغ أو مقروص وأقسم أنه لن يتزوجها وهذا اسمها! والواقعتان عن اسم واحد رائع الدلالة، ثقيل الوطأة على الأسماع والأذواق في عصرنا.

أما تناسق الأسماء في بعض حروفها، أو معانيها، أو أوزانها، أو مدلولها، فذوق جميل لكنه قد يحرج من يفعله كما وقع لرجل أسمى بناته على وزن واحد، فلما رزق ببنته الأخيرة تورط حتى اقترح عليه صديق له صاحب أجوبة قاصفة بأن يسميها باسم غير دارج وميزته الوحيدة أنه على نفس وزن أسماء أخواتها، ومعناه لا يصلح على امرأة البتة؛ فرفض الأب ووجد لمولودته مخرجًا بتسميتها على معكوس أسماء بعض أخواتها السابقات. ومن الأنفة ألّا يسمي الأبوان قطعة القلب على اسم امرأة تمتهن عملًا مرذولًا؛ ولذلك زأر رجل غيور في وجه موظف حينما بادره المسكين بسؤال أحمق: هل أسميت ابنتك على الممثلة فلانة؟!

بقي أن أشير إلى كتاب مختصر نافع للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد عن تسمية المولود، وفيه أحكام شرعية، وفوائد، ولطائف، وقوائم بالأسماء عسى أن تفيد من يبحث عنها، والأهم أن يكون الاسم المنتقى مناسبًا من ناحية دينية ولغوية ومجتمعية، ولائقًا على البنت ومتوافقًا مع بقية اسمها، ويستعذبه زوجها في المستقبل إن نطقه كما هو أو رخمه أو صغره، فزهرات البيوت ومستودع الحنان وذوات الحياء والحشمة جديرات مع كمال التربية بأحسن الأسماء دون تكلّف يجعل أسماء النسمات الطاهرة مثل أسماء العلامات التجارية، أو غير مألوفة في سنن لغة العرب.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 05 من شهرِ ذي الحجة عام 1441

26 من شهر يوليو عام 2020م 

Please follow and like us:

5 Comments

  1. سلمت أيها الأديب مقال رائع. وأذكر قبل مدة ليست بالقصيرة أنني كنت ضيف عند أحد الأخوة في جدة وقبل الغداء كلمني بعض أصدقائه أنه سمى ابنته اسماً غير لائق وطلبوا مني أوجه له نصيحة بتغييره فقلت وما هو الإسم قالوا أسماها رزان وانت تعرف هذه الأسماء الغربية التي لا يجوز أحد يسمي بها فقلت ابشروا وكان غير موجود معنا فلما انتهينا من الغداء اثاروا الأمر في وجوده وقالوا يا شيخ ما رأيك في إسم رزان وهل يجوز التسمية به فقلت ماشاء الله إسم جميل وعربي فصيح ويحمل معنى رائع وكانت تلقب به الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها فاندهشوا من كلامي قالوا كيف فشلت بنا قلت اول أنك ستنصحه قلت لهم فقط أريد استدرجكم لطرح الأمر امام ( ابو رزان ) وذكرت لهم بيت حسان في عائشة رضي الله عنها حصان رزان ما تزن بريبة …… وتهلل وجه صاحبنا ومباشرة دخل البيت واحضر ورقة وقلم وقال اكتب لي البيت واكتب لي شرحه مفصلا وبعدها باشهر رزقت بنتا فأسميتها رزان

  2. صراحه جميل هذا المقال، حيث استفدت منه، اختيار الأبناء لابد أن يكون جميلا ورائع ولا يجوز لنا أن نسمي، أسماء أبنائنا وبناتنا بأسماء، لا تليق بيهن.

  3. في معراج هذه المقالة اتقرى الحنين لبعض الذكريات في حياتي، تسللت لصدري بكل حيوية فكرة النقاش الأول معه، روعة الاسماء التي تجاذبنا أطراف الحديث عنها، اجترت الذاكرة بعض الحنين، تصور يا كاتبنا العزيز، غرائبية الموقف حينها!
    ماذا لو وقتها لم يمتد الحديث وانتهى كل شيء كما بداء،ولم نرزح تحت وطأة اشتباكات الحياة وتعقيداتها، خيوط الأقدار أبت إلا أن تنسج طمأنينتها في دواخلنا وأخذتنا بقوة نحو السكينة..لم يكن إختيار ولسنا امام انتقائية الأشخاص او المواقف او حتى الذاكرة، لكنها لذائذ الماضي الممتعه تتجدد كل لحظة بأرواحنا بشدة وكأنه حدث منذ لحظة!
    بالمناسبة!
    هذا أول مقال تصافحت فيها عيناي مع مدونتك الآسرة!
    منذ ذلك الحين وأنت تزداد وتضئ، ولم أهجر مقالاتك يومًا إلا ذات تعب!

    1. شكرا لكم. جزء منها استهجنه صاحب القصة وموقفي مع الاسم حيادي فلم أذكره، وجزء الاسم المقصود حصري لدرجة كبيرة ونادر فيصعب ذكره صراحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)