إدارة وتربية

تجربة عُليا من فرنسا!

Print Friendly, PDF & Email

تجربة عُليا من فرنسا!

إدارة التعاقب، وتهيئة الجيل اللاحق، وتأهيل الخَلَف، خطة عمل حكيمة انتهجها الأنبياء عليهم السلام مع أصحابهم، والعلماء مع طلابهم، والآباء مع أبنائهم، والتجار مع أنجالهم، بل يتبعها كلّ أحد مع من يليه سواء في شريف الأعمال أو ما دونه، وليست الكيانات بمنأى عن هذه الطريقة الرشيدة، ويظهر ذلك جليًا في الأسر العريقة، والشركات الكبرى، والأحزاب القوية، والجيوش العقائدية، والجمعيات والمنظمات، والدول، وغاية أولئك جميعًا ألّا تنقطع آثارهم، أو تُفقد مصالحهم، أو تُطوى أشرعتهم في المجال الذي يتحركون فيه؛ فيضيع تاريخ عريق، ويذوي مجد عريض، صُرفت لتحقيقه النفائس الثمينة من فكر، ووقت، وجهد، ومال، وجموع.

وهاهنا تجربة قرأت عنها عرضًا في سيرة ذاتية تحت الإعداد لأحد الوزراء، فأعجبتني ولذلك بحثت عنها لعلي أن أخدم الفكرة التي بزغت لي حينما رأيتها، وتُسمى هذه التجربة: المدرسة الوطنية للإدارة، وهي من أعرق المدارس الفرنسية العالية، أُسست عام (1945م) بقرار من الرئيس الفرنسي شارل ديجول، وتولى الإشراف على إنشائها رئيس وزرائه ميشال، وأدار عملية التأسيس الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي موريس توريز، وهذا التناغم بين المختلفين يعزز التعاون من أجل المطالب الكبرى، والأهداف السامية، وإن اختلفنا في تفاصيل أخرى.

تسعى المدرسة إلى تهيئة كبار الموظفين للحكومة، وجعل الوصول إلى المناصب المدنية العليا متاحًا، وغير منحازة عن فئة إلى فئة ثانية أيًا كانت صفتها، ويقع مقرها في باريس، ثمّ نقلت عام (1991م) إلى ستراسبورغ عاصمة مقاطعة الألزاس شرقي فرنسا للتأكيد على طابعها الأوروبي فهي مقاطعة ألمانية فرنسية، مع محافظة المدرسة على موقعها في الحرم الجامعي الباريسي لتقديم دورات إدارية قصيرة، ويتخرج فيها سنويًا قريب من مئة متدرب، وفي عام (2002م) دمج معها المعهد الدولي للإدارة العامة.

أما فكرتها فتقوم على اختيار مرشحيها من أوائل المتخرجين في أفضل المدارس العليا بفرنسا، ثمّ إخضاعهم عقب ذلك لبرنامج تعليمي وتدريبي مكثف من خلال عدّة مسارات مزمنّة تطول أو تقصر وفق منهج واضح، وأهداف معروفة، ويؤهلهم ذلك لأن يصبحوا من كبار المسؤولين الفرنسيين؛ بعد أن نهلوا من العلم النظري في القانون والإدارة، والتفكير والكتابة، والشؤون الاقتصادية والدولية، ثمّ تعرضوا لتدريبات عملية وتطبيقات ميدانية، وشاركوا في دراسة حالات واقعية.

فتربعت المدرسة الرفيعة في الوجدان الفرنسي على قمة هرم الدراسات العليا، وغدت قدرة المرء على الظفر بالمشاركة في مسابقة الدخول إلى صرحها العالي سببًا للفخر ومدعاة للسعادة، وأما الدراسة فيها حتى نيل شهادتها فيشبه الفوز بمنصب مرموق إن في مؤسسات الدولة أو في القطاع الخاص، وتتطلّب الدراسة فيها الحصول على شهادة جامعية، وخوض مسابقات عسيرة للقبول، ولا يكفي النجاح في هذه الامتحانات، وإنما يجب إحراز درجات عالية؛ حتى يصبح الطالب ضمن القلّة المقبولين.

لذلك أنجبت المدرسة أربعة رؤساء لفرنسا هم: “ديستان، وشيراك، وهولاند، وماكرون”، إضافة إلى سبعة من رؤساء الحكومة، وأما أكابر الموظفين من وزراء وسفراء، وبرلمانيين ومحافظين، ومستشارين ومديرين، وموظفين دوليين ورؤساء شركات، فيعسر إحصاؤهم، وفي السنوات الأخيرة حُصر عدد المقبولين في السنة بتسعين طالبًا فرنسيًا، وثلاثين طالبًا أجنبيًا، هذا غير المئات من الطلاب الذين يلتحقون بها في دورات قصيرة.

كما شاهد الفرنسيون أثرها على كسب ولاء الطلبة الأجانب؛ فبادرت المدرسة إلى عقد شراكات مع دول عربية وإسلامية وعالمية مثل مصر، وسورية، ولبنان، وأندونيسيا، وكوسوفو، والصين، وغيرها، سواء لدراسة طلاب هذه البلاد داخل المدرسة، أو إقامة برامج محلية بالتعاون مع معاهد إدارية عليا في تلك البلدان، حتى لامس عدد الطلبة الأجانب الذين أهلتهم المدرسة أربعة آلاف طالب ينتمون لمئة وثلاثين دولة.

كذلك تنظر فرنسا لما تعقده من اتفاقيات ثقافية مع الدول حول برامج هذه المدرسة على أنه من القوة الناعمة لها، ولا تكتفي بذلك بل تطلق على كلّ دفعة دراسية اسم رمز من رموز فرنسا وشخصياتها الكبرى، أو تطلقه على شيء من قيم الدولة وحضارتها مثل حقوق الإنسان، وفي بعض الأحيان النادرة ذهب الاسم إلى غير عظمائها وشخصياتها اللامعة، فمن الأسماء مثلاً أن حملت دفعات اسم روسو، وزولا، وهوغو، وبعضها تزينت بأسماء آخرين مثل الرئيس السنغالي الراحل سنغور، والمستشار الألماني الراحل برانت، ورئيس وزراء بريطانيا الراحل تشرشل، والزعيم الأفريقي الراحل مانديلا، والعالم البولندي كوبرنيكوس، والفنان الإيطالي دافنشي، والعربي الوحيد فيها حسب اطلاعي هو الفيلسوف ابن رشد.

ومع أن الرئيس الفرنسي الحالي “ماكرون” من الدارسين في هذه المدرسة، إلّا إنه أعلن عن نيته لإلغائها بسبب سخط المحتجين ذوي السترات الصفر على موظفي الحكومي من خريجيها، وزعمهم بأنهم لم يخدموا البلاد، ولم يحققوا مطالب الشعب، فضلًا عن كونها مدرسة نخبوية لا يتجرأ على الانضمام إليها إلّا أبناء النخبة الحاكمة أو الثرية بما لهم من امتيازات جعلتهم لا يشعرون بهموم الشعب وآماله.

بينما ينقض هذه الحجج آخرون بما أتاحته المدرسة من نسب قبول خاصة لأبناء الأرياف والضواحي وقصرها عليهم، وبأن الخلل الحكومي لا يرجع للمدرسة وإنما لإشكالات حكومية إدارية ومالية، وعلاجه واسترضاء المحتجين ليس على حساب المدرسة، خاصة أن المدرسة العريقة تتطور في برامجها ومناهجها بين آونة وأخرى، وهي واجهة حضارية وإدارية، ومكتسب فرنسي يصعب التفريط فيه دونما دراسة متأنية، ويسترجعون فيه هذا السياق أسماء طلابها، وشيئًا من آثارها المحلية والإقليمية والدولية.

وبغض النظر عن هذا بأجمعه؛ ألا يمكن نقل هذه التجربة خصوصًا أن فرنسا ماضية في التعاون مع من يشاء من الدول، ويمكن بعد ذلك تكييف الدراسة فيها بما يناسب أوضاع الدول العربية والإسلامية، وإضافة مناهج من التاريخ والاجتماع والسياسة الشرعية والبيئة المحلية، والفوائد المترتبة على ذلك كثيرة آنية ومستقبلية، منها اكتساب العلم، وارتقاء المدارك بالزمالة والنقاش، واتساع الصدور للآراء المتباينة، وتأهيل من لديه قابلية للتطور، وتصدير من يثمر تأهيله، وغير ذلك من حسنات وحكم تجتمع في نصيحة عمرو بن العاص لصناديد قريش بأن يقربوا صبيانهم وشبابهم من مجالسهم ونواديهم؛ فصغار اليوم هم أكابر الغد، والموفق من جمع الحكمة القرشية، مع المدرسة الفرنسية، ومزجهما بثقافتنا العربية والإسلامية، فنحن والله أمة تستحق الأحسن.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الإثنين 13 من شهرِ جمادى الأولى عام 1442

28 من شهر ديسمبر عام 2020م

Please follow and like us:

One Comment

  1. الكاتب الفاضل احمد حفضه الله ورعاه. صدقت والله صغار اليوم هم اكابر الغد. ولقد بذلنا جهدهنا في تربية الصغار اناثا وذكورا . ليكونوا مواطنين سعداء صالحين اينما حلوا وارتحلوا . فلله الحمد والشكر عدد ماشكره الشاكرون وغفل عن شكره الغافلون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)