سير وأعلام عرض كتاب

مضر بدران والقرار

Print Friendly, PDF & Email

مضر بدران والقرار

لا أركن كثيرًا للأوصاف المعلبّة، مثل أن يُقال عن فلان بأنه آخر الرجال الكبار؛ وذلك لأنّ المجتمعات بطبيعتها منجبة ولو سكنت وخبت ضوؤها زمنًا، بيد أنها ستنهض إن أخذت بالأسباب، وتلك من سنن الله في الكون وبني الإنسان، ويتأكد هذا الرأي إذا كانت البقاع مميزة في إنسانها، وتاريخها، وموقعها، وتعليمها، وهذا ما تمتلكه بلاد الأردن العزيزة، واشتُهر به أهلها النشامى الميامين.

ثمّ زاد يقيني بهذا الأمر حين فرغت من قراءة كتاب عنوانه: القرار، وهو سيرة ذاتية كتبها رئيس وزراء الأردن الأسبق مضر بدران، وأصدرت المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الأولى منه عام (2020م)، ويقع في (423) صفحة مكونة من إهداء وشكر وتقديمين، ثمّ سبعة فصول، فثلاثة ملاحق فيها أوسمة، وصور، وأوراق من أرشيف الصحافة الأردنية والعربية.

أهدى المؤلف كتابه لأسرته وللأردن وللملك الحسين، وقال أ.د.خالد الكركي في التقديم الأول: إن السيرة مكتوبة بحسٍّ روائي فيها صدق وجرأة وتطابق مع شخصية صاحبها، فهو الشاهد الأمين وليس شخصًا عابرًا في تاريخ الأردن، بينما كتب التقديم الثاني أ.محمد خير عبدالكريم الرواشدة وجاء فيه: إن بدران التزم بحدود أدبيات البوح مع الحفاظ على أسرار الدولة، وترفع عن الخصومة، وفيما كتبه جسارة من رجل يمتلك الوثائق ويعرف الأسرار.

وأستطيع بناءً على ما قرأته في السيرة أن أصف الرجل بأنه مزيج من القانوني صاحب الهاجس الأمني، والبصيرة المخابراتية، والجَلَد الإداري، والخبرة الديوانية والوزارية، والرؤية الاستشرافية، والموقف الفكري، مع القدرة على التصور والشرح، والاحتواء، والمناورة، وفوق ذلك فلديه معرفة بالرجال عميقة، وجرأة في التعبير عن الرأي بصراحة حتى لو أغضب الملك الذي كان يتسع صدره لمجادلات أبي عماد، وهي حسنة للحسين فلا زعامة مع ضيق العطن، وحسنة لمضر فلا أمانة لمن لا يقول ما يعتقده، أما جوهر “القرار” فهو الإقدام على صنع القرار واتخاذه وتنفيذه في العراك مع الحياة والأحداث والصعوبات، ومع البشر ومناكفاتهم وصعوبة بعضهم، وفي أحلك الأحوال وأحرج المآزق.

ولم تغب عن الكتاب الحروب العربية مع إسرائيل إبان عمل مؤلفه في الحكومة باستثناء حرب لبنان عام (1982م)، ولم يفت على المؤلف رواية أحداث أيلول وحرب تحرير الكويت من وجهة نظره بما يخدم موقف حكومته؛ ولا ريب أنها جزء من الرواية تحتاج إلى إكمال من أطراف أخرى أو تعليق عليها، واللافت أنه لم يتعرض للحرب الأهلية اللبنانية مع تزامنها مع مسيرته، فضلًا عن اشتراك لبنان مع الأردن في الإقليم المبارك، ولم يتطرق الكاتب كثيرًا لحركة نقل ولاية العهد السريعة والمفاجئة بعد سبعة وثلاثين عامًا قضاها الأمير الحسن في منصبه.

كما يوجد في سرد المسيرة تقييم لرجال دولة وزعماء داخل الأردن وخارجه، وربما من غير العرب، ورواية بعض المواقف عنهم، وبعضها لا يخلو من غرابة، وإنه لمن أمتع المواضع في سير الساسة تلك الفقرات التي تظهر المداولات الخفية، وتشرح حقيقة العلاقات بين الرؤساء، خاصة أنها تعطي تصورًا عمّا يكون بعيدًا عن أعين المراقبين والمشاهدين، فكم من وعد لم ينفذ، وضغط زحف على جسر الاقتصاد، ومشاجرات ومؤامرات، ومجانبة للحقائق أو تفسير للوقائع تختلف حسبما يرى كلّ طرف.

كذلك يروي المؤلف شيئًا عن المفاوضات المصرية مع إسرائيل في كامب ديفيد، وضغط “كارتر” على الملك حسين للدخول فيها، والمثير أن كارتر قال للحسين: أعلم أن عليك خطورة من ذهابك إلى كامب ديفيد، لكنّ الخطورة أكبر إن لم تذهب! وفي عزاء البابا حملّت والدة كارتر ممثّل الأردن رسالة شفهية للملك ترجوه فيها أن يدخل في التطبيع كي تضمن فوز ابنها في الانتخابات، وفي المقابل شكر ريجان ونائبه بوش الملك الحسين على منع كيسنجر من دخول الأردن والترويج لخطة كارتر في التطبيع قبل الانتخابات، علمًا أن منع كيسنجر قرار أمر به بدران من تلقاء نفسه.

أما المؤلف فلديه رأي ثابت رافض للتطبيع وللمشاركة فيه أو الجلوس على مائدة المفاوضات مع اليهود، ويلخص رأيه بما معناه: إسرائيل لن تلتزم بشيء، ولن تعيد حقًا لفلسطين أبدًا، وأمريكا غير قادرة على إجبار حكومات إسرائيل بشيء! ومن العجيب أنّ الضغط الاقتصادي على الأردن ومنع المعونات أو تأخيرها عنها تزامن مع اتفاقية كامب ديفيد لإجبارها على المضي نحو التطبيع منذ ذلك الوقت المبكر طبقًا لرواية الكاتب.

ولا يخلو الكتاب من قصص كثيرة ومواقف ذات عبر، فمنها إصلاحاته وهو وزير للتعليم ونصرته للمعلم، وحنانه على الطلاب والطالبات، وتصرفه الحكيم والجريء بإطلاق سراح المساجين المنتهية مدد الحكم عليهم بعد أن تكاسل سلفه فتركهم في المعتقل حتى بعد نهاية الحكم، وفي هذا السياق أحرق سبعين ألف ملف فيها أوراق كتبها المخبرون فذهبت هباءً من رماد بلا قيمة دنيوية، وعند الله تلتقي الخصوم، ولا غروا أن يفعل ذلك فهو يرى بأنّ العدل أنجع وسيلة لتثبيت نظام الأردن الملكي، وينفي عن جهازي المباحث والمخابرات في بلاده ماشاع عنهما من ممارسة التعذيب خاصة مع سجناء الرأي، والله يصلح الأحوال جميعها.

أيضًا يفضح الكتاب صلف السفير الأمريكي في عمّان وكذبه، ونكثه لعهوده، ومحاولة حشر أنفه في كلّ شيء، وهي علّة قد لا تكون مقتصرة على سفير واشنطن، وليست عمّان الشاكية الوحيدة منها، وللرئيس معه وقائع ومساومات لصالح الأردن، وفي شؤون العمل الدبلوماسي يخبرنا المؤلف أنه يحب أيّ سفيرٍ إذا كان كثير الكلام لأنه يدلل على توجهات حكومته، وروى شيئًا عن التجسس في السفارات، وذكر أنّ الصحف الأمريكية تنشر 95% من معلومات مخابرات أمريكا؛ ولأجل ذلك أوكل مهمة متابعتها ورصدها لبعض موظفيه.

مما ورد في الكتب من أخبار وقصص أن وزير الخارجية السوري عبدالحليم خدام نصح رئيسه حافظ الأسد باعتقال الرئيس المصري أنور السادات حتى لا يمضي قدمًا في اتفاقية التطبيع مع اليهود! وكان الأسد حذرًا في التعامل مع الأمريكان ويقول: عندما أتحدث مع أمريكي أتصور يهوديًا داخل عقله! وبعد أن نزل رئيس الإمارات الشيخ زايد، وأمير قطر الشيخ خليفة، إلى مطار عمان اتفقا على التبرع بخمسة عشر مليون دينار أردني لبناء مطار يليق بالمملكة الهاشمية وبالملك الحسين، ومن أسف ألّا يجرؤ مسؤول في العراق على مخالفة رئيسهم صدام حسين باستثناء وزير الخارجية طارق عزيز.

وحينما استمع الحسين لنصيحة رئيس وزرائه بدران بأن يفتح الطنجرة كي يعرف ما بداخلها، وأجريت انتخابات برلمانية نزيهة عام (1989م) فجاءت بأغلبية من المعارضة بأطيافها، لذلك بادر زعماء سهروا ليلتهم تلك لمتابعة نتائج الانتخابات بعرض مساعدة مالية مجزية قدرها ثمانية مليارات دولار شريطة حلّ البرلمان حسبما قال المؤلف، وربما أن صنيعهم هذا لحماية الحكومة الأردنية من المشاكسات البرلمانية، وتنغيصات المعارضة، ولتحسين وضعها المالي القريب من الانهيار!

أيضًا من الوقائع الخاصة بالمؤلف أن الأمير الحسن تعجب من دقة تنبؤاته فسأله كيف تعرف؟ وله موقف راشد من أطياف بلاده، فهو ضدّ إقصاء مكونات البلد السياسية والفكرية، وضدّ تخوينها، ومع أهمية التفاهم معها، وكان له دور في كشف زيف الاتهامات وأقوال الشهود الكاذبة عن أحد رموز العمل السياسي في الأردن؛ مع أنه كان بعيدًا عن العمل الحكومي حينها، ويجزم بأن طبيعة دراسته للحقوق والقانون، وعمله في المخابرات والأمن، جعلته لا يتعاطى مع أيّ أمر على أنه مسلّم به، ويقرر بأن صاحب الفكر حين يعمل في الحكومة يستطيع إقناع قواعده وأتباعه، ويفهم فلسفة صنع القرارات الحكومية، وبذلك يرتفع نضجه ووعيه سواء أكان مع الحكومة أم معارضًا لها، ولديه يقين راسخ بأن البرلمان المنتخب بنزاهة خير معين لأيّ حكومة ضد تدخلات أمريكا والغرب.

وفي الكتاب حكايات أسرية عن آبائه وأجداده وزواجه، وقصة اختياره الدراسة في سورية دون مصر حتى لا يفقد عامًا دراسيًا لإصرار مصر على دراسة الأردني سنة قبل التحاقه بالجامعة، وحين ذهب لدمشق قُبل في كلية الطب بوساطة رئيس وزراء سوريا حسن الحكيم بحكم الصداقة مع والد المؤلف، ومن الغد استقال الحكيم فذهب مفعول وساطته، ليجد الشاب نفسه مضطرًا لتغيير الكلية واختار دراسة القانون بناء على نصيحة موظف سوري تنبأ له بأنه سيصبح وزيرًا وإن كان يلثغ بحرف الراء، ففي كلية الحقوق أستاذ كبير يلثغ بستة حروف! وله في الجامعة قصص وعي ومشاركات سياسية وفكرية، ودرس فيها على يد معروف الدواليبي خلال رئاسته للوزراء في سورية.

ثمّ ختم رئيس الوزراء وصاحب السيرة الماتعة كتابه بقوله: “لقد مرت علينا أيام في هذا الوطن صعبة جدًا، لكنّ قدر هذا الوطن العزيز أن يكون محميًّا ومباركًا، فأنا أشعر بالحماية الإلهيّة لهذا التّراب وأهله ونظامه، ولا أقولها من باب (الدّروشة)، بل أقولها من باب ما شهدتُه وخبرتُه من مصاعبَ وصعوباتٍ اجتازها الأردنُّ قويًّا عزيزًا”، والحمدلله على فضله الذي خصّ به بلاده التي يعيش فيها عباده وأولياؤه، ويرتفع صوت الحقّ ونداؤه فوق أرجائها خمس مرات في اليوم والليلة معلنًا للكافة دون مواربة بأنّ الله أكبر.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

ليلة الجمعة 17 من شهرِ جمادى الأولى عام 1442

الأول من شهر يناير عام 2021م 

 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)