سير وأعلام عرض كتاب

لطائف من حوارات الوزراء!

Print Friendly, PDF & Email

لطائف من حوارات الوزراء!

أحب كثيرًا قراءة الحوارات، سواء مع الكتّاب، أو المفكرين، أو الساسة، لما فيها من مادة جيدة خاصة كلما أحسن المحاور التحضير والتصور، وطال أمد اللقاء، ولم تكثرالغمغمةفيه، وهي الإبهام والإيهام والترميز، والهروب من الجواب والتذاكي، أو الاضطرار لوضع الحلوى قبل السؤال الحرج وبعده مع رش السكر هنا وهناك. ومن الكتب الحوارية الجميلة كتاب طبعت منه ستة أجزاء مع أنه يتكون من أجزاء بعدد حروف الهجاء، وهو متاح للبيع إلكترونيًا فيما أعلم، وعنوانه: شهود هذا العصر، أعده الأستاذ محمد بن عبدالله الوعيل، وصدرت طبعاته تباعًا، ولقي ترحيبًا بالغًا من الملوك والأمراء والعلماء والكتّاب وغيرهم.

أصل هذا العمل لقاءات نشرت في صحيفة الجزيرة السعودية، ومادته غنية بالتاريخ والفكر والأدب والإدارة، وبعضها مع أشخاص ربما لم يحفظ لهم لقاء آخر، وجلّهم من السعودية وفيهم من غيرها، ويتوزعون على مناطق اهتمام عديدة. وقد صدر الجزء الأول عام (1419) بتقديم كتبه وزير الإعلام آنذاك د.فؤاد بن عبدالسلام الفارسي الذي تمنى للقارئ تحصيل الفائدة، مثنيًا على محتوى الكتاب الثرية موضوعاته، والمفيدة معلوماته للمكتبة والتاريخ.

ذكر الأستاذ الوعيل في مقدمته القصيرة أن أول من حاوره في صفحةضيف الجزيرةهو الدكتور غازي القصيبي، وهذا خيار إستراتيجي أجزم أنه كان سببًا في جذب كثير ممن حاورهم عقب ذلك، وضربة المعلّمفنٌّ في كل فن! وفي ختام المقدمة أثنى الوعيل على دعم رئيسي تحرير الصحيفة الأستاذين خالد المالك ومحمد عباس، وابتهجوحقَّ لهبالمؤازرة والثقة التي وجدها من أمير الرياض آنذاك الملك سلمان المعروف قربه من الصحافة والثقافة ومتابعته لعالمهما.

ومما جاء في هذه الحوارات نقرأ أن الوزير الأستاذ هشام ناظر قال: لو لم أكن وزيرًا لذهبت للعمل في الجامعة والتأليف؛ فهذا المجال محبب لنفسي كثيرًا، وهي المهنة المفضلة للوزير الشيخ جميل الحجيلان، ولوزير الزراعة الأستاذ حسن المشاري، ولخلفه د.عبدالرحمن آل الشيخ الذي أضاف لها العمل في مجال الأبحاث، وفيما سبق كتبت عن علاقة عدد كبير من أعضاء مجلس الوزراء الموقر بالجامعات والمحيط الأكاديمي.

كما تحدث عدد من الوزراء عن طريقة العمل في المجلس، وكيفية تلقيهم خبر التعيين، وعن زملائهم من الوزراء، ومن أكثرهم في الحديث الصريح عن الزملاء د.محمد يماني، ود.غازي القصيبي، ويمكن العودة إلى اللقاءات لمراجعة تلك الآراء. ومن لطيف ما ورد قول الوزير ناظر: إن الأمير ماجد بطل في صنع الطرفة، ويعلّق الأمير على ذلك في الحوار معه بأنهاقفشاتفي موضعها اللائق ولا تغضب أحدًا، ومنها ما ذكره القصيبي أن أحدهم سأله عن وزنه بحضور الأمير ماجد الذي التقط هذا السؤال الغريب، وأخرج القصيبي من مأزق الجواب قائلًا: هو وزير الكهرباء، والكهرباء عندنا إما 110 أو 220، ووزنه بينهما!

ونلمح في الحوارات ارتباط أكثر الوزراء بالمكتبة والقراءة، ولبعضهم إنتاج في التأليف أو كتابة القصة أو الشعر، وفيما مضى أحصيت شيئًا من هذا القبيل، ومما فاتني أن رابع وزير صحة د.حامد هرساني هو صاحب أول كتاب طبي سعودي مطبوع، وعنوانهقصة البوال السكريالذي صدر عام (1385). ولبعض أصحاب المعالي نظرات نقدية وآراء أدبية مثل الوزير الشيخ حسن كتبي وزير الحج والأوقاف قبل ستين عامًا. ولأن النقد أمانة لم يجامل د.القصيبي أحدًا في ميدان الشعر حتى من زملائه، فهو الميدان الذي يحبه كثيرًا حتى قال غير مرة في حوارات أخرى ما معناه: أنا شاعر أولًا وأخيرًا.

فلا غرابة إذًا حين تبرز الثقافة والكتابة في تلكم الحوارات؛ فالوزير حسن آل الشيخ لا يترك حادثة تمر إلّا ويكتب عنها، وأحيانًا يكتب لأصدقائه، أو لنفسه سرًا مثلما يقول الوزير هشام ناظر. وللكتابة تبعات قال عنها الحجيلان أول وزير إعلام: الرقابة الإعلامية جزء من سياسة الدولة، لكن يجب ألّا نسقط من حساباتنا حاجة الناس للقراءة، وحسن النية لدى الكاتب! ويبدي وزير المواصلات د.ناصر السلوم احتفاءه بشروحات وزيره الأسبق الشيخ محمد عمر توفيق بما فيها من لمسة أدبية ورونق لغوي؛ ولا غرو فالرجل يحفظ القرآن الكريم، ويعدّه أعظم ثروة لديه، وربما أن هذه المقدرة هي التي جعلته مديرًا للمكتب التحريري ضمن ديوان الأمير فيصل عندما كان نائبًا عن والده الملك في الحجاز، ثمّ انتقاه الفيصل وزيرًا للمواصلات عام (1382) دون أن يعلم أبو فاروق؛ بل كان حينها مسافرًا إلى بيروت لطباعة كتاب له.

تقودنا أحاديث الكتابة والشعر إلى سوق نقولات بهية من حوارات الوعيل، منها تصريح الأمير عبدالمحسن بأنه يمتعض من سماع أو قراءة أي مدح يقال عنه شعرًا أو نثرًا، وإذا كان القول ليس فيه فكأن هذا المدح ذم بطريقة غير مباشرة! بينما أعلن الأمير ماجد أنه يموت من الضحك على من يفعل ذلك معه! وأستحضر هنا موقف الملك فيصل مع كلمة ألقاها القصيبي في احتفال سكة الحديد كما في كتابه حياة في الإدارة، وهي خالية من المديح والتملّق؛ فصفق لها الملك كثيرًا حتى قال الأمير سلطان للقصيبي: لم أشاهد الملك فيصل يصفق بحرارة غير تلك المرة! وعسى أن يعرف أصحاب الأقلام والألسن أن المسؤول يبحث عن الصدق والاعتدال، وأن الرقيب العتيد يقيّد القول الملفوظ!

وتظهر الرياضة في الحوارات، وأيضًا قضايا المرأة، فمن شؤون الرياضة أن وزير الإعلام د.يماني يشجع الوحدة، بينما يحضر الوزير ناظر مباريات فريقه المفضل الاتحاد ويؤازره أهل بيته كلهم باستثناء نجله لؤي الهلالي، وربما يغضب عشاق نادي النصر إذا علموا أن القصيبي لم يعلم بأن مقر النادي في العاصمة الرياض إلّا بعد افتتان نجله سهيل به، وحديث النصر يأتي بنا إلى الهلال الذي كان من مؤسسيه أميران من أبناء الملك عبدالعزيز هما عبدالمحسن وهذلول فيما فهمت، والأول كان وزيرًا للداخلية تسعة أشهر، ولنادي الأهلي ارتباط بالأمير عبدالله الفيصل وزير الداخلية الأول.

أما شؤون المرأة فمنها رأي د.القصيبي بأن المرأة السعيدة هي السعيدة مع زوجها وأبنائها، ورفْض الوزيرين جميل الحجيلان وم.علي النعيمي لزواج ابنتهما من أجنبي حتى لو أسلم! وللوزراء موقف مثالي من المغالاة في المهور وحفلات الزواج الباذخة، ولست أدري عن الواقع العملي لهم تحت ضغط المجتمع وسيطرة الآراءالناعمة، ولكني قرأت تصريحًا ضمن الكتاب لزوجة الوزير هشام ناظر خلاصته أنه عرض بإلحاح على ابنته إعطاءها المال مقابل إقامة حفل زواج مختصر فرفضت! وتفنن غير وزير بأحاديث عذبة عن الزواج وحذرة من التعدد؛ مع أن بعضهم صار من عباد الله المعددين فيما بعد! وفي باب الأسرة يعترف عدة وزراء بأنهم يقضون أوقاتًا سعيدة لتدريس أولادهم، ويوصف بعضهم بأنه رجل عائلة بامتياز مثل ناظر والقصيبي.

وفي السمات الإدارية نلتقط لمحات باهرة؛ فالوزير ناظر يجزم بأن مدير مكتب أيّ وزير هو نصف الوزير وما أجدر المعنيين بحسن اصطفاء النصف! ومن نفيس القول ماحكاه الشيخ جميل الحجيلان ومختصره أن ولي الأمر يبحث عن وزير يتحمل المسؤولية، ولديه وجهة نظر ورأي، وألّا يكون عبئًا على إدارة الدولة مثل من ينتظر التوجيه دون مبادرة أو اقتراح منه، وعند الوزير محمد عمر توفيق رأى مفاده أن خبرة الإنسان أهم كثيرًا من مؤهله العلمي؛ فالمؤهل يتوقف عند مدى معين، والخبرة مستمرة متراكمة.

وقد أصبح عدد من الوزراء رؤساء للأندية الطلابية إبان ابتعاثهم، وهذا مؤشر على قدراتهم الإدارية والقيادية المبكرة. ولدى بعضهم طاقة في العمل الطويل حتى لو كان يعيش بكلية واحدة منذ عام (1381=1961م) مثل وزير المواصلات د.ناصر السلوم. وعند بعضهم سياسة قديمة في فتح الباب للمراجعين من وزارته ومن الناس عامة، وظهر النبوغ المبكر على آخرين كما نراه في ثناء د.يماني على د.مطلب النفيسة بقوله: هو من خيرة شبابنا الذين أثبتوا أنهم في مستوى المسؤولية، ويقدم دومًا آراء ناضجة، وكان النفيسة آنذاك رئيسًا لشعبة الخبراء قبل وبعد تسميتها هيئة الخبراء، وبعد إعفاء أبي ياسر بثلاثة عشر عامًا أصبح النفيسة وزيرًا.

ومن أخبار العمل المجلسي قول وزير الإعلام د.يماني: إن وزير المالية الشيخ محمد أبا الخيل قاسم مشترك في جميع قضايا المجلس تقريبًا، ووصفه لزميله د.غازي القصيبي بأنه من خيرة المخالفين للأنظمة بحكم دراسته للقانون، وهو بمخالفاته يغضب باستمرار الوزيرين محمد أبا الخيل وزير المالية والاقتصاد الوطني حينها، والأستاذ تركي الخالد السديري وزير الدولة ورئيس ديوان الخدمة المدنية آنذاك، ولا غرو أن يجيد القصيبي ذلك فهو الوزير الموهوب الذي يصلح في أكثر من منصب كما يخبرنا الوزير حسن المشاري.

كذلك لا تخلو الحوارات من مفارقات ولطائف وطرف؛ فمنها أن الوزير ناظر بدأ مشواره في العمل الحكومي بوظيفة بلا مسمى، وتدرج وزير المواصلات الأستاذ حسين منصوري من موظف صغير إلى أن أصبح وزيرًا في حكومة الدكاترة التي تكونت في مستهل عهد الملك خالد. ومنها أن وزير التعليم العالي الشيخ حسن آل الشيخ رفض تسجيل لقاءات تلفزيونية مع جمال أحاديثه؛ لأنه يكره التلفزيون، وهو كره يشاركه فيهويا للعجبوزير الإعلام د.يماني الذي تأثر بموقف زوجته من التلفزيون، وربما وقع في حرج حين يُسأل عن مادة لم يشاهدها من قبل، ومما تبديه الحوارات علاقات الدراسة المشتركة بين كثير من قدماء الوزراء.

أيضًا مما جاء في الحوارات أن بعثة الشاب محمد عبده يماني للدراسة في مصر تعثرت بفعل بشري؛ فدرس في جامعة الملك سعود حديثة النشأة على غير رغبة منه، ثمّ أكمل الدراسة العليا في أمريكا، وحين عاد أستاذًا في الجامعة وجد على مقاعد الطلبة بعض زملائه الذين ابتعثوا لمصر فلم يفلحوا وعادوا للدراسة في الجامعة المحلية من جديد! وفي الحوارات ينفي الوزير حسن المشاري عن نفسه تهمة ضعف الذاكرة دون تحديد مصدر التهمة، وأظن أنه سبق لي قراءة شيء من ذلك في وسم الوزير د.عبدالعزيز الخويطر.

ومن مستطرف هاتيك اللقاءات أن الملك خالد عزم بعض خاصته في منزله بالهدا في الطائف، وحين علم أحد الوجهاء الحضور عن وجودمحمد عبدهضمن المدعوين طلب منه الغناء وتسلية المجتمعين! فابتسم الملك خالد وخاطب الرجل بقوله: هذا ليس الفنان وأردف الملك: “وش نبي بها الخرابيط والأغاني خلنا نسمع السوالف الطيبة“. ومنها أن د.‏حامد هرسانيزوّغمن المدرسة، وحين جاء أستاذ يبحث عنه قلّد الفتى صوت امرأة مدعيًا أن مرض الطفل حامد سبب لخروجه! وصادف أن سمع والده هذه الخدعة فجعل ابنه يعمل أول النهار بناءً، وخادمًا في آخره، حتى أعلن حامد التوبة النصوح عن الهروب من المدرسة! وعندما سمي الأمير ماجد وزيرًا للبلديات وصله طرد كبير من صديقه الوزير هشام ناظر، فلما فتحه وجد فيه مكنسة وشيول! وفي اللقاء مع الأمير ماجد أورد هذه القصة، وأشار لعلاقته الوثيقة مع ناظر والقصيبي، وكثرةالمقالببينهم.

ما أمتع هذا الكتاب وأجمله مثل أكثر كتب الحوارات، وكم أتمنى لو تتواصل أيّ مكتبة تجارية أو مؤسسة ثقافية مع ورثة الأستاذ الصحفي محمد الوعيل للاتفاق معهم بما يرضيهم على طباعة هذا الإرث التاريخي والثقافي والإداري الذي نشط له والدهم سنوات طويلة، فأثرى به الساحة الصحفية في زمن مضى، وأفاد منه القراء والمتابعون، ويزداد هذا الأمر إلحاحًا إذا علمنا أن جلّ المشاركين في هذه الحوارات قد انتقلوا إلى العالم الآخر رحمهم الله، وأن بعض الحوارات نادرة نفيسة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

ليلة الثلاثاء آخر يوم من عام 1444

18 من شهر يوليو عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)