عرض كتاب قراءة وكتابة

الكاتب والسياسة!

Print Friendly, PDF & Email

الكاتب والسياسة!

هذا كتاب عنوانه: الكتّاب في السياسة: إعادة إشراك قضايا الأدب والمجتمع، تأليف: “نغوغي وا ثيونغو”، ترجمة عهود بنت خميس المخيني من عُمان، صدر عن ابن النديم للنشر والتوزيع ودار الروافد الثقافية-ناشرون عام (٢٠٢٠م)، ويقع في (205) صفحات تحتوي على شكر وعرفان فتوطئتين إحداهما لطبعة عام (1982م)، والأخرى للطبعة المنقحة عام (1997م)، وبعدهما ثلاثة أقسام عناوينها: حرب الصور، الكلمات والسلطات، روابط الأمل.

أشار المؤلف الكيني في التوطئة إلى العلاقة بين الكتابة والسياسة وإلى أسئلة الحقّ في الكتابة، وجزم بأنّ كلّ كاتب هو كاتب في السياسة، وأن الكتّاب والمفكرين مخلوقات سياسية وإن قبعوا في ملكوت الأفكار النقية؛ فليس من فنٍ متحرر من السياسة ومستقل عنها، ولا خيار للكاتب سواءً أكان واعيًا بذلك أم لا؛ لأن أعماله تحكي جانبًا من الصراع؛ وليس من حقه البقاء على الحياد، فللقلم فوهة، ومن مهماته العظام تصفية استعمار العقل؛ وإلّا فما جدوى الأدب في الحياة؟!

كما نبّه الكاتب إلى عظمة جدل الأفكار في قاعة الدرس وما شابهها من أعمال ثقافية تفاعلية مفيدة للكاتب والمثقف، وأثنى على أثر الخلوة والتأمل في عملية إنتاج الأفكار وتحديد الرؤى، وتنشيط الحياة الفكرية؛ فالعلاقة بين الحياة والأفكار أساسية، ولا تتطور الأفكار في الخواء أبدًا؛ لأن فعل الكتابة ينطوي على علاقة اجتماعية، ويدور هذا الفعل السامي حول العمليات والتاريخ والسلطة، وبذلك يكون الأدب جزءًا من إدراك المرء لنفسه.

أيضًا يحوم المفكر الكيني حول مركز الأدب في المحيط الثقافي، وكيف يرى الشعب نفسه، وبالتالي يكرر التأكيد على اتصال الأدب بجميع أنشطة الحياة، وعليه فأيّ تغيير في الاقتصاد والمجتمع سيغير من الثقافة؛ ولذلك تتحكم الطبقة المهيمنة نوعًا ما بالثقافة والفكر، وتؤثر بصورة حاسمة في المجتمع، مما يعزز القناعة باشتباك الاقتصاد والسياسة والثقافة والمجتمع معًا وإن ظهرت في دواخلها تقسيمات طبقية واضحة، ومن البدهي أن الهيمنة والمقدرة التابعة لها قد تكون رسمية أو غير رسمية.

ولأن المؤلف قضى عمره في مقاومة الاحتلال المباشر أو بالوكالة وعى أن الإخضاع الثقافي من خلال السيطرة على أوساط الثقافة يقع ضمن سياق تمكين الاحتلال وتيسير نهب الثروات وتسخير الشعوب؛ حتى يشعر الإنسان المغلوب ليس بعبوديته للقوي فقط، وإنما بأنه عبد ممتن لسيده؛ فالحقيقة تقول: إن العبد ليس عبدًا حقًا حتى يقبل أنه عبد! وإن العبد المبتهج بعبوديته أكثر كائن مثير للشفقة! وهذا المفهوم مركزي في أفكار الكاتب ومهما ابتعد عنه فهو يرجع إليه لغاية صنع روح مقاومة في القرّاء الأفارقة ترفض الإذعان مع الاستعداد لإعادة البناء.

فالوعي بالحرية كما قال “هيجل” هو الذي شكّل الحضارة الإنسانية، وينمو هذا الوعي بالحرية بواسطة الأدب لأنه جزء لا يتجزأ من القوى التي حطمت هيمنة الإمبريالية؛ فالأدب نتاج شعب لهم تاريخ وعندهم حسُّ الوعي الفردي والجمعي بالذات، حتى غدا الفنُّ مستنهضًا للمشاعر، وأصبح التعليم هو الوسيلة التي تُستنسخ بها الذات وتُمرر للأجيال اللاحقة، ولا غرابة بعد ذلك أن يكون التعليم هو القلعة الأولى التي يودُّ جيش الأعداء مداهمتها وإفسادها وتحطيمها، وإن بدا للناظر غير الفاحص أنه يعمرها ويزينها.

ومن مكر الاحتلال استخدام الأدب للهجوم المباشر على الوعي من خلال الغلو في تقليد عظيم للآداب الأوروبية حتى أصبح الاقتباس من “شكسبير” و “موليير” وأمثالهما دلالة تحضر ومقياس عمق ثقافي، واُستعمل هؤلاء الكتاب للتصدير الدبلوماسي الثقافي؛ واجتهد المحتلون البيض في صناعة إنسان إفريقي غير قادر على الغضب بل لا يجيد إلّا التسامح فقط، مع تنشئة الطبقة الإفريقية الوسطى الجديدة بقيم الطبقة الأوروبية الحاكمة، وترسيخ النظر إلى تلك القيم الغربية على أنها الوضع الكوني الراقي والطبيعي والصحيح، وما سواه تخلّف وهمجية وانحطاط.

فنجم عن ذلك الركض خلف قمامة أدبية من الغرب، وحاول البعض إدراك ذاته عن طريق التاريخ الأوروبي مما أوقعه في خطأ فادح لما في هذا المسلك من تشويه للنفس، فضلًا عن كون المضطهِد يتحكم بوعي المُهيمن عليه، ويقمع كلّ أدب معادٍ للاحتلال، مع تصوير المناضلين ضد الهيمنة الأجنبية من أجل تحقيق الاستقلال بمصطلحات مشوشة هدفها إخفاء الحقيقة من جنس وصمهم بأنهم إرهابيون حمقى مدفوعون بالجنس، وفي هذا السياق سعى التعليم الاستعماري لتحويل الأحلام الشرعية إلى كوابيس، وغسل الأدمغة وحشوها باعتقاد خاطئ مختصره أن قصة الغرب هي التجربة الكونية الوحيدة الجديرة بالاهتمام؛ مع أن قصتهم عند التحقيق ليست هي الأفضل.

ولأجل ذلك اجتهدت حكومات أفريقيا التابعة لأوروبا في سبيل ضمان أن سكانها لا يرقون لمناهضة نظامها، ونشطت لإضعاف أيّ جهد منسق وإحباط الحشود الوطنية مع انعدام ثقتها في المبادرات المحلية في كلّ شيء، وصرفت الوقت والمال لزيادة القمع الروحي مع الاستغلال السياسي والاقتصادي، وتقزيم الروح الخلاقة للإنسان، وبدا للعيان أن الوسطاء البرجوازيين المحليين هم الأخطر لأنهم يشتتون الشعب، وصدق الزعيم الأفريقي نكروما حينما وصف الدكتاتوريات العسكرية بأنها أسوأ من الاحتلال؛ لأنها تعني حيازة الغرب للسلطة على البلاد دون مسؤولية مباشرة، ودون مساءلة في برلماناتها المشبعة بالحرية وحقّ الاستجواب.

من أفكار الكتاب أن التحرير القومي للأفراد ينبثق من إعادة الشخصية التاريخية لهم، ومن حتمية نبذ أيّ نظام تعليمي أو ديني يديره المحتل أو يتبع له؛ لأنه يؤدي إلى ممارسة نكران الذات المؤذية لأصحابها، ويؤكد الكاتب على ضرورة إعادة تقصي النفس والقيم والتحيزات، وأن على الأفارقة المطالبة بحصتهم العادلة حقًا لا صدقة، عدالة لا رعاية، عوائد منصفة لا معونة، ومن واجب الكتّاب وصناع الوعي المحلي إنشاء عقلية نقدية حتى يستطيع الشعب معرفة قاعدته جيدًا، وينفر من الطغيان لأن حدود بقاء الطغاة مرهونة بمدى تحمل من يقع عليهم الطغيان.

ويُعلي “نغوغي” من آثار التواصل الثقافي واصفًا إياه بأنه أكسجين أيّ حضارة، ويوجب على الكتّاب رسم طريق للصلة والتعاون بين إفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا، حتى يكون بوسعنا أن نتجاوز النظر إلى بلادنا بعيون غربية منحازة بعيدة عن الموضوعية والإنصاف، ويلمح في هذا السياق إلى وحدة الشعوب المتصارعة مع قوى الهيمنة العالمية، فاتحاد هذه الأمم يمنعها من أن تكون أقمارًا صغيرة تدور في فلك مراكز عالمية ضخمة ذات مصالح واعتبارات خاصة بها.

أيضًا من متفرقات أفكار الكتاب اشتراك الكاتب والسياسي في المتاجرة بالكلمات، وأن الكاتب نتاج للتاريخ والزمن والمكان، وأن علاقات القوة هي إقليم هموم الكاتب الذي يصل مداه لا إلى شرح العالم بل لتغييره، والكاتب الصادق وجه آخر للمجتمع ولابد لهما من بعض، وتعكس حال الكاتب مع الحرية غالبًا وضع الأغلبية في أيّ مجتمع فالكتّاب هم قمة الجبل الجليدي، مع أن فعل الكتابة حقّ إنساني، وللكلمات قوة إذا سلمت من العبارات المستهلكة خاوية المعنى، وللكلمات أجنحة تحلّق بها نحو الحرية والاستقلال، ولا غرابة فالأديان أساسها كلمة!

ويعود المؤلف للتأكيد على أن الافتتان بلغات الآخرين لدرجة رؤية اللغات المحلية على أنها تحول دون التنمية تغريب متطرف يدل على مرض في العقل؛ فليس بوسع أجنبي مهما بلغت قدراته أن يطور لغاتنا، وإن حديث المرء بغير لغته أشبه بالعيش في المنفى، ولا يمكن لشعب تطوير ثقافته تحت أيّ شكل من أشكال الهيمنة الأجنبية، وكما أن الأرض هي أساس لانطلاق المشاعر القومية، فكذلك اللغة والتاريخ والدين.

كما يكمن الدفاع الحقيقي عن الحرية حسب رأي “وا ثيونغو” في اليقظة الدائمة ضد اجتياحها وانتهاكها من يد كلّ من هددته وأرعبه جمالها المروع من المحتلين وأتباعهم، ويجب أن تكون قلوبنا وأقلامنا على قدر هذه المهمة، فبوصفي كاتبًا لا يمكن أن أكون غير منحاز طبقًا لقول المؤلف، ولا مناص من استعادة الشخصية الأفريقية التي حاربنا لأجلها كثيرًا، وحاول الاحتلال إعاقتنا بوضع سكاكينه على الأشياء التي تجمعنا لأن فرقة أصحاب القضية أحسن خادم لأعدائهم.

وبعد خبرة طويلة يصل الكاتب الإفريقي إلى نتيجة خلاصتها بأن هناك طريق واحد للفعل الفعّال هو تنظيم الحشود، فالجموع إذا استوعبت الفكرة غدت قوة أفكار تلتقط جوهر اللحظة التاريخية وتمضي للمستقبل حتى تصنعه وتسلمه للقادمين بصورة أكمل، وهذا أكثر سؤال مؤرّق للكتّاب حين يحاورون أنفسهم حوارًا ذاتيًا، أو ضمن سجالات الفكر والثقافة: ماذا سنورّث للأجيال الآتية؟

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 19 من شهرِ ربيع الأول عام 1442

05 من شهر نوفمبر عام 2020م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)