سير وأعلام شريعة وقانون

الشيخ صالح الخريصي: القاضي السخي الزاهد

Print Friendly, PDF & Email

الشيخ صالح الخريصي: القاضي السخي الزاهد

امتازت مدينة بريدة بأنها مدينة منجبة منتجة مستوعبة، فهي رأس في التجارة والابتكار والرحلة، وهي متقدمة بتخريج الرجال والنساء في مجالات عديدة، وهي بارعة في جذب الناس والمستثمرين حتى لو جفلوا منها أول الأمر بسبب سوء التصوير وظلم الجناة البغاة وما يأفكون من قول وخيالات، وهي مليئة بالتاريخ وأحداثه ورجالاته الشجعان والكرماء وأهل الحصافة وبعد النظر، ولأجل ذلك أصبحت جلّ مدن القصيم تتبع بريدة وقضاتها خاصّة في عهد أميريها حجيلان بن حمد، ومهنا الصالح، وهو ما استتم في العهد السعودي.

من شخصيات بريدة التي لا تُنسى الشيخ القاضي صالح بن أحمد الخريصي (1327-1415) الذي ترجع أصول أسرته المباركة إلى الزلفي وحائل، وهو عالم وقاض ومحتسب ورجل دولة ومجتمع، له مشايخ من مشاهير العلماء، وخلَف قضاة من أرفع الأسماء القضائية في تاريخنا المحلي، وتخرج على يديه قضاة وعلماء ودعاة ووزراء كثر، وله يد لا تخفى في العمل الاجتماعي والخيري ببريدة، وأما شأنه التعبدي والخُلقي فمما يضرب به المثل، ويُساق للاقتداء خاصة وقد أمنت عليه الفتنة برحيله.

ومع أن الشيخ تيتم صغيرًا، إلّا أن الله سخر له والدة صالحة مربية تعاهدته حتى بلغ المرتبة العليّة، ولازم دروس المشايخ لضبط قراءة القرآن وحفظه ثمّ تحصيل العلم، ولم يقطعه العمل في الدكان مع إخوانه عن تلاوة القرآن الكريم والنظر إلى الكتب التي بين يديه. وفيما بعد تولى الإمامة والخطابة في المساجد، ليكمل مع سابقيه ولاحقيه من أسرته الصالحة مسيرة قرن من الصلاة بالناس، والفضل من الله الكبير المتعال.

من طريف ما يذكر في خبر إمامته أن الشيخ عمر بن سليم رشحه لإمامة مسجد بعد وفاة إمامين متعاقبين على ذلك المسجد، فخافت والدة الشيخ من أن يكون ابنها هو ثالث الوفيات، لكن الشيخ ابن سليم أخبرها بحكمة أن الموت أدرك الإمامين لأن أجلهما أتى وعمرهما انتهى ولا علاقة لذلك بالمسجد أبدًا، فاقتنعت المرأة المؤمنة وسكنت، وصار نجلها إمامًا لمدة نصف قرن، وغدا مسجده مقصدًا لطالبي العلم والحاجات.

أما في القضاء فللشيخ خبر جدير بالتدوين وهو ما نشطت له الباحثة أفنان الجوفان بدراستها لأقضية الشيخ، فمنه أنه خلف في القصيم الشيخين عمر بن سليم وعبدالله بن حميد وهما مَنْ هما في العلم والقضاء والحضور الكبير. وعندما رشحه الملك عبدالعزيز للقضاء في الدلم اعتذر بحجة والدته المقيمة في بريدة فلم يقبل الملك عذره، ولنا أن نتصور أن الملك عبدالعزيز هو من اختاره وأصر على امتثال الشيخ للأمر، وجعله قاضيًا في الدلم المجاورة للرياض العاصمة ومقر الحكم، وكان بديلًا للقاضي العالم الحبر الشيخ عبدالعزيز بن باز؛ فأيّ مكانة نالها الشيخ الخريصي حتى أصبح بديلًا عن أولئك العظماء الأماجد؟

وليس هذا فقط، ففي مسرد طلبة الشيخ أسماء قضاة وعلماء وكتّاب ووزراء كثر، أذكر منهم على سبيل التمثيل الشيخ عبدالرحمن العجلان رئيس محاكم القصيم، والشيخ صالح البليهي، والشيخ المحدث عبدالله الدويش، والمشايخ محمد بن عودة وعبدالعزيز المسند ود.علي المرشد وهم ثلاثة رؤساء لتعليم البنات، والشيخ الرحالة محمد العبودي، والشيخ العالم المتفنن د.عبدالكريم الخضير، والمحامي الدكتور محمد المشوح، وغيرهم خلق كثير ممن انتفع بالشيخ وسمته وعلمه.

كذلك للشيخ علاقات وثيقة بملوك المملكة لم يسع إليها ابتداءً، فالملك عبدالعزيز اصطفاه قاضيًا، والملك سعود اختاره رئيسًا لمحاكم القصيم عام (1378)، والملوك فيصل وخالد وفهد رفضوا استقالاته المتكررة، وإذا زاروا بريدة قصدوا الشيخ في منزله للسلام والتحية وكذا فعل الملك عبدالله وأمراء القصيم تباعًا. والذي يبدو أن زهد الشيخ ودوام نصحه الشفهي والكتابي مع احتسابه الحكيم الرشيد قد رفع قدره لدى الملوك والأمراء، والقبول شأن سماوي قبل أن يكون سياسة أرضية.

 

إذ أثنى عليه الملك فيصل وقال لمجلسه مرة: جاء الشيخ الخريصي يطلب مصلحة عامة لبلدة وأهلها وجاء فلان يسأل عن مصلحة لنفسه! ودخل الشيخ الخريصي على مجلس الملك خالد بالطائف وألقى موعظة تأثر منها الملك كما روى وزير العدل الشيخ محمد الحركان، وبعد خروج الشيخ حضر الملك فهد وكان وليًا للعهد آنذاك فقال له الملك خالد: ليتك كنت معنا لتسمع كلمة الشيخ الخريصي الصادقة المؤثرة التي خرجت من قلبه وليست مثل كلمات بعض علمائكم التي لا تعبر إلى القلب!

كما أن الشيخ ممن صان القضاء عن أيّ تدخل، وله في هذا مواقف مشتهرة برفضه لأي إجراء إداري يتطفل على الرواق العدلي المصون. وله في مجلس القضاء صمت هادئ صارم، ولا يحول دون الخصوم وتفريغ ما في نفوسهم من كلام وإن خرج عن الحدود أحيانًا، ويكون توجيهه رفيقًا لضبط المسار، وكم من مرة أغلظ له المتخاصمون فلم يأبه ولم يغضب لنفسه، وما أصعب ضبط النفس عن الانتصار.

ويروى أن رجلًا اشتكى رجلين في قضية تجارية؛ فآلت القضية إلى الشيخ صالح ولذلك أبى المدعي إكمالها لأن الرجلين من أقارب الشيخ وأنسابه، فلم يغضب الخريصي وقال لهم: اذهبوا لأيّ قاض في المحكمة يرضيكم الجلوس بين يديه، وحين حكم القاضي للمدعي عرضوا الحكم على رئيس المحكمة الشيخ الخريصي فرأى أن صاحب الدعوى يستحق أكثر مما حكم له به. ومما تواتر عن الشيخ سعيه للصلح بين الخصوم فالصلح أحبّ إليه من التقاضي، وهذا ما جعل الناس يقبلون به مصلحًا توافقيًا بينهم.

وإذا أردنا أن نلقي نظرة عاجلة على عبادة الشيخ، فيكفي تصور أن الشيخ صالح يقضي يومه من الفجر إلى بعد العشاء في التدريس بمنزله والمساجد والقضاء بين الخصوم. وهو كثير التنفل بالصلاة عقب أيّ وضوء، وفي الليل كلما تنبه صلى، ويخلو بمولاه في الثلث الأخير بمحراب العابد حتى في ليلة زواجه! ويديم قيام الليل في الحضر والسفر، وصيام التطوع في الصيف والشتاء، ويتابع قراءة القرآن وله فيها ختمات كثيرة حتى يمتلئ حجره بدموعه. ويحج منذ عام (1347) دون انقطاع سوى مرة واحدة، ويصطحب معه فئامًا ممن لم يحجوا الفرض، ويوالي بين العمرة، ولا يفتر لسانه عن ذكر الله، وليس في مجالسه شيء من أمر الدنيا، وفي إمامته لصلاتي التراويح والقيام برمضان يختم بالمصلين مرتين مما يدل على طول القراءة، ولا يُرى إلّا وفي يده المصحف، ولم يفصح عن حبه لشيء إلّا القراءة والكتاب.

ثمّ إنه غير مبتوت الصلة بمجتمعه، فهو يحضر المناسبات الاجتماعية والخيرية، ويزور المسؤولين لقضاء مصالح المنطقة والشفاعة للناس، وله مجلس أسبوعي ويومي، وعشاء ومائدة قلما تتخلّف، حتى حرص الطلاب والفقراء عليها وقال بعضهم: هي مائدة وفائدة. وإذا حضر إلى مجلسه مسؤول بادره بما ينفع البلد. ونقل عنه كثرة الصدقة على المحتاجين والفقراء، حتى أنه يقسم كثيرًا من راتبه على أسر فقيرة سواء بإعطائهم المال، أو بشراء الطعام والقماش لهم. وقد بادل أهل بريدة شيخهم الحب والتقدير؛ ومن ذلك أن الوجيه الثري إبراهيم الراشد الحُميد تبرع بمولد كهربائي لمنزل الشيخ الخريصي عام (1375) والكهرباء عزيزة آنذاك.

ويعطي للأطفال العيديات كي يفرحوا بيومهم، ويحرص على شهود جنائز أهل الفضل ويصلي عليهم، ويثني على من يستحق الثناء ولو كان من طبقة طلابه، ويعتني بشؤون مناطق القصيم ولو في إثبات دخول شهر رمضان كما في كتابه لرئيس هيئة قصيبا وإسناد المسؤولية عن إبلاغ الناس بدخول الشهر إليه حال غياب القاضي الشرعي. وعندما طلب منه أهل بلدة الشفاعة لدى وزير المعارف لإلغاء حصة الرياضة عن أبنائهم لأنها تلهيهم عن مساعدة أهلهم في مزارعهم، كتب للوزير الشيخ حسن آل الشيخ، ولم يذكر تحريمًا وإنما ساق شفاعته من باب تطييب خواطر الأهالي والحرص على مواصلة الأبناء للتعليم؛ فاستجاب الوزير المشهور بحرصه على جعل الحكومة محبوبة لدى الناس، وبمناسبة الرياضة فقد كان الشيخ الوضيء ممارسًا للمشي والعدو والسريع في البر ومسابقة الأبناء والسباحة.

وفي خاصة حياة الشيخ تزوج من النساء أربعًا أوأكثر، وأنجبن له ستة وثلاثين ابنًا وبنتًا، وكان يحرص على تزويج أبنائه وبناته في سنِّ مبكرة حتى لو استدان لأجل ذلك، وحين باحثه نجله الأكبر في موضوع تزويج البنات وهنَّ دون العشرين قال الشيخ لولده: أنا على وجلٍ ما دامت أيّ بنت مؤهلة للزواج في بيتي لا في بيت زوجها! وهو جواب حكيم فالأبناء والبنات مصيرهم الزواج وتكوين الأسرة وليس القعود في بيت الوالدين، والله يحمي أجيال المسلمين من عبث الشواذ والأفكار النسوية المصادمة للفطرة.

وحين توفي الشيخ في صبيحة يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر رمضان عام (1415) غصّ مسجد العيد في بريدة بالمصلين الذين شيعوا الجنازة إلى المقبرة مشيًا، وتواترت الصلوات عليه داخل المقبرة تحت الشمس والناس صائمون، وصُليت عليه صلاة الغائب في الحرمين الشريفين، وأذكر أن الذين يعرفونه فجعوا بخبر موته عندما أعلن مؤذن الحرم الصلاة عليه، بينما ظنّ بعض العرب أنه الشيخ الحذيفي -أمتع الله به-. وهكذا طويت صفحة عالم وقاض عابد زاهد كريم، كثير التعظيم للقرآن والسنة، وآخر ما سمعه في دنياه آيات تتلوها زوجته عليه، وكان يكثر من سؤال الله لسان صدق في الآخرين، ويسأله الحياة بعافية، والموت بعافية، والمبعث على أمن ونجاة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

الخميس 23 من شهرِ صفر عام 1443

30 من شهر سبتمبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)