سير وأعلام عرض كتاب

الشيخ عبدالمحسن الفريح: نضارة العلم والنفع

Print Friendly, PDF & Email

الشيخ عبدالمحسن الفريح: نضارة العلم والنفع

 تدركني البهجة حينما يسعى الأبناء والأحفاد لجمع سير أسلافهم سواء من قرب منهم أو بعد؛ لأن هذا الصنيع فيه وفاء وبر، واحتفاظ بالعراقة، وتخليد للفضائل، وتأكيد للخيرية، ويحمل إجابة دامغة لمن يريدون تزوير التاريخ وتصوير الماضي خلافًا لحقيقته. وأجد تقديرًا كبيرًا لمن ينصب في جمع المرويات والوثائق، ويجتهد في التثبت منها وتوضيحها، قبل أن يخرجها للناظرين والقارئين. ثم إني -وللحق أقول- أحب أيّ رجل اسمه عبدالمحسن، وأيّ امرأة اسمها حصة، وأنشط للكتابة عنهما؛ ففي جميل اسميهما ما يتوافق مع اسم أبي، وأمي، رحمة الله ورضوانه عليهما وعلى جميع المسلمين والمسلمات.

لهذا أسرعت لقراءة كتاب حديث الصدور بعد أن وصلني قبل ساعات عنوانه: سيرة الشيخ المحدث عبدالمحسن بن محمد الفريح وشيء من أخباره 1292-1379، تأليف: أ.د.عبدالعزيز بن محمد بن عبدالمحسن الفريح، وهو حفيد المترجم له، وأستاذ الدراسات العليا بكلية الحديث في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وله تآليف سابقة منها ما يخص علماء البكيرية، ومساجدها، هذا غير ما ينتظر من مداد علمه في قابل الأيام، والله يوفقه له ولغيره.

صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام (1443=2022م) عن دار العقيدة للنشر والتوزيع، ويقع في (92) صفحة على ورق نباتي. ويتكون من ثمانية موضوعات لبعضها تفرعات، ثمّ ملحق بالوثائق وفيه (28) وثيقة، ويعقبه ثبت بالمصادر والمراجع من كتب مطبوعة وغير مطبوعة، وصحف ومجلات، ثمّ مقابلات مع أربعة عشر علمًا منهم والد المؤلف، والشيخ صالح اللحيدان، والشيخ محمد السبيل. وعقب ذلك يأتي فهرس للأعلام المترجم لهم وعددهم (57) علمًا منهم أربعة نساء، وأخيرًا نبذة عن المؤلف فيها سرد لعناوين كتبه الفقهية والحديثية والتاريخية.

فإذا أردنا أخذ صورة عامة عن الشيخ عبدالمحسن، سنجد أنه سليل أسرة علم وأعلام وتأثير، ولجده الأول الشيخ فريح آثار مشهودة في البكيرية منها كتابة الوصايا والأوقاف وهو نوع من الإحسان لأهل البلد يحفظ الحقوق والواجبات والتاريخ والنسب. ومن حسناته بناء مسجد أصبح جامع البكيرية الكبير فيما بعد، ثمّ وضع مسقاة ماء بجوار المسجد يستفيد منها الناس والبهائم والمزارع، وله فوق ذلك مضافة عامرة مجاورة للمسجد يفد إليها الناس، وبصنيعه هذا جمع العبادة الخالصة، والاجتماع، والعلم، وسقيا الخلائق، وإطعامهم، وإيواء العابرين، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

هذا غير طلبته وتلاميذه الذين نهلوا من معين علمه وسمته وأدبه، منهم والد المترجم الذي اقتبس من أبيه فضل الكتابة والتوثيق، وله أوقاف معروفة، وإمامة مسجدية طويلة، وموقف نبل وشجاعة أدى لصرف أمير حائل ابن رشيد عن إيذاء عالم بريدة الشيخ ابن سليم. ومن البشرى أن القراء على موعد مع كتاب منتظر للمؤلف عنوانه: الشيخ فريح وآثاره، ولعله أن يجمع أخبار الجد وذريته إكمالًا لمسيرة الوفاء، وإبقاء للعراقة والفضائل.

أما الشيخ عبدالمحسن نفسه فقد تلقى العلم في البكيرية والمذنب وبريدة والرياض، وحظي بالقرب من كبار علمائها، وحفظ للشيخ عبدالله ابن دخيّل أنه يشترط على أهل المذنب إذا وجهوا له دعوة للطعام أن تشمل تلاميذه؛ فشبعوا وكانوا من قبل يبات الواحد منهم طاويًا في بعض الأيام. ولأنه تلقى العلم من مصادر متنوعة، فقد أصبح في عدة بلاد سكنها وعمل فيها الإمام والمعلم والقاضي والخطيب والمرشد.

وكان قلبه بالمساجد معلقًا وهنيئًا لمن فاز بهذه الصفة عسى أن يكون من السبعة الذين يستظلون تحت عرش الرحمن يوم الحر الشديد. ومن اجتهاده العلمي أنه يحفظ صحيحي البخاري ومسلم وغيرها من كتب العلماء في الحديث والفقه، ويلقي دروسًا في كتب الحديث أو الفقه المرتبطة بالسنة، إضافة إلى كتب العقيدة والتوحيد، ولربما أن هذا التكوين المتعدد الذي ناله الشيخ مبكرًا قد أعانه على البعد عن التقليد، والالتصاق بالسنة المطهرة.

كما أنه كان معظمًا للسنة المشرفة، فبها يحاجج، ويشتغل بعلومها جلّ وقته حتى عُرف بها، وصار بصيرًا بالصحابة والرواة حتى لكأنه خالطهم وعاصرهم .ومن توقيره للنصوص الشرعية أنه إذا سأل لا يجيب مستشهدًا بها إلّا بعد أن يستوي جالسًا توقيرًا لصاحب الكلام. ومن هذا الباب أن اتخذ الشيخ من العلماء بطانة يألفهم ويزورونه ويتواصلون معه، حتى غدا بيته مزارًا للعلم وأهله وطلبته، ومَنْ أجلّ وأسمى ممن ينهل من العلم الأسمى على بصيرة، ويؤدي حقه بأمانة وديانة ونية خالصة؟!

ومن أخبار الشيخ أن منزلته علية موثوقة لدى العلماء والحكام وعامة الناس، حتى أصبح رمزًا يأرز إليه الناس أينما حلّ وأمّ وعلّم وقضى. وهو ممن لم ينصرف للعلم وطلبته ويترك الأقربين أو يهملهم؛ فلهم منه تربية وتزكية وتجلة وإكرام وهدايا وكسوة تُشترى ثم تُخاط، ولم يغفل عنهم حتى في وصيته، فمنح لهم منها، وخصّ الأقرب بمقدار أكثر من الأبعد تطبيقًا لحق القرابة، وإعمالًا لمبدأ الأولوية.

ثمّ إن الكتاب حوى متفرقات عن الشيخ وغيره، منها دعواته المجابة، والمنامات التي رآها الناس عنه صبيحة وفاته، وموقف أمير المذنب التاريخي الأمير فهد العقيلي مع إكرام طلبة العلم، وأسفه على أيّ مظلمة تقع. كذلك نعلم من متفرقات الكتاب أن آخر سنة حج فيها أهل البكيرية جماعيًا على الجمال كانت عام (1359)، وأن مجاعة عظيمة وقعت عام (1289) في إحدى البلاد لدرجة أن رجلًا كان يسرق الأطفال ويأكلهم حتى كشف وقتل، واستراح الأهالي وأطفالهم من وحشيته المقيتة.

أشير قبل أن أختم إلى أن هذا الكتاب القصير قد حفظ أخبار آخرين غير جد المؤلف وآله يناهزون الستين حسبما ذكر سلفًا. كما أن المؤلف تحاشى تسمية أشخاص وبلدان أو إكمال وقائع كي لا يكون في النص شيء ينغص، وإذا اكتملت الفائدة والعبرة فما بعدها لغو أو حشو يمكن تجاوزه. وعقب ذلك أسأل مولاي أن يغفر للشيخ عبدالمحسن الذي توفي في اليوم السابع عشر من شهر شوال عام (1379)، وصلّت عليه خلائق لا يدفعها سوى المحبة والود الذي يجعله الله في قلوب العباد لمن آمن وعمل الصالحات -نحسبه ولا نزكي على الله أحدًا-.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

 ahmalassaf@

السبت 11 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1443

11 من شهر يونيو عام 2022م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)