إدارة وتربية مواسم ومجتمع

الأموال ورمضان!

Print Friendly, PDF & Email

الأموال ورمضان!

ماهي العلاقة بين رمضان والأموال؟ قبل الجواب أشير إلى أن مقصودي بالأموال الواردة في العنوان هو ما يسمى الآن بعلم الاقتصاد، وهي تسمية جاءت من مداخل الترجمة علينا غالبًا، وربما لا تعبر تلك اللفظة عن المعنى الذي تحتها كله، وهذا الذي جعل الفقهاء الأوائل يختارون لكتبهم عناوين مثل الخراج، والأموال، وهي مصنفات من مفاخر التأليف في مكتبتنا الإسلامية العربية، ومن أمجاد تراثنا العلمي والعقلي، ولبعضها قصص ومرويات.

أما العلاقة بين رمضان والأموال فيمكن لنا ملاحظتها من جوانب عدة، أولها أن أحد معاني رمضان وصيامه هو التقلّل من المشتهيات، والامتناع عنها، ولجم النفس عن الانصياع خلف أيّ رغبة، وفي هذا السلوك الحكيم ابتعاد عن الترف، وضبط للمرء عن إدمان التنعم الزائد عن الحدّ، وفيه زجر للنفس عن أن تشتري كلما اشتهت أو عنّ لها إخراج المال ودفعه، وهذا الكفّ الرشيد سيحفظ الأموال لأهلها، ويبقي على توازن الأسعار ويمنع من سعارها، ويضمن توافر السلع دون احتكار أو شح، ويجنبنا خطر السرف والبطر.

ومنها أن جمهرة من أثرياء المسلمين وأسخيائهم، وأصحاب المكارم والمروءات منهم، وهم جمع وكثرة كاثرة بحمد الله، قد دأبوا على إخراج زكواتهم المفروضة في شهر رمضان ابتغاء المضاعفة من الرب الكريم سبحانه. وزاد بعضهم فطالت أياديه البيض بالهبة والهدية والصدقة، وكم في مثل هذا المال الطلق من تفريج كرب، وستر حاجات، وحفظ وجوه من بذل مائها بالسؤال، وكم فيها من الإبقاء على التعفف والستر. وقد اغتنم بعضهم الموسم المبارك بابتداء وقف ناجز فيه، أو زيادة وقفه النافذ، ويا باغي الخير أقبل.

كما أن شهر رمضان موسم محرك لأسواق الأطعمة على وجه الخصوص؛ فموائد الإفطار تمتد في المساجد الكبرى، والجوامع، والأحياء، ومشروعات التفطير تقوم على طرق المسافرين، وعند محطات التوقف وإشارات المرور، هذا غير الولائم بين الأسر والأصدقاء، وفي آخر رمضان تخرج زكاة الفطر من أصناف الطعام قبيل العيد. ومن هذا الباب ما دأب عليه الناس والنساء على وجه الخصوص بالتفنن في أنواع المأكولات والمشروبات، سواء بصنعها منزليًا، أو بشرائها جاهزة، وفي كل ذلك حراك تسعد به أسواق الطعام والمطاعم، وتبتهج له قلوب المستثمرين فيها والعاملين بها.

وفي شهر رمضان تزدهر تجارات الملابس المخيطة والجاهزة وما يرتبط بها من غسيل وكي وتزيين استعدادًا للعيد وأيامه البهيجة، ويتصل بالعيد حركة شراء تشتمل على الهدايا المالية والعينية، والبخور والعطور، والمناسبات وما فيها من تكاليف ومصاريف، إضافة إلى مظاهر الفرح والزينة في الميادين والدور، وهذه الأعمال تجري غالبًا في شهر رمضان أوله وأوسطه وآخره، وبعضها يبدأ الاستعداد له مع إقبالة الشهر الكريم البهية المحببة.

ثمّ لا تسلو ولا تسل عن البقاع الطاهرة المقدسة وما حول الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى في رمضان، وإنه لموسم منتظر من شركات السفر الجوي والبري والبحري، ومن الفنادق، وشركات السياحة والطوافة، ومؤسسات المتعهدين بالإعاشة والنقل الداخلي، وعند عدد غفير من العاملين طوال السنة، أو في الوظائف التي تبدأ مع رمضان وتنتهي بنهايته، وإنها لمن بركات الشهر الميمون على البيوت والأفراد، وكم من مرة ومرة سمعنا من باعة أن رمضان يعادل لهم موازين العام وكفته.

يضاف لذلك كله أن رمضان فرصة لإنهاء كثير من الخلافات والمنازعات التي نجمت أو عظمت لأسباب مالية؛ فالنفوس مقبلة، والأرواح إلى التآلف والتصافح أسرع، وهو زمن ملائم لردم الهوة، ورتق الشقاق بين الشركاء بتجارة أو ميراث أو فكرة. ومثله تخفيف الديون أو إعادة جدولتها أو حتى دفعها من أموال الزكاة والصدقة والعون حسب حال المبتلى بالديون والمغارم أجارنا الله وإياكم. ومن أخفى العلاقات بين الأموال ورمضان التي قد لا تُلاحظ؛ أن الشهر الكريم موسم جهاد ونصرة وعزة، وفي الجهاد فيء وغنائم ومكاسب، تأتي عقب التعبد لله بعبادة هي ذروة السنام.

وقد يكون في رمضان علاقة طريفة مع المال، وهي أن جرائم السرقة تصبح أقل، فالنفوس إلى الله أقرب، والسهر في الليالي أكثر، والحركة كثيرة في الأسواق مما يعسر من القدرة على الهرب من السراق والنشالين الذين يعتمدون على خطف الحقائب والأجهزة والأشياء الصغيرة الثمينة. ومن طرائف هذه العلاقة أن الغش في السلع والبيوع ربما يغدو أقل في رمضان للأسباب ذاتها، ومثله جرائم الرشوة والفساد بأنواعها، هذا مع أن بعض الناس مغموس في حمأة الشرور ولو نصبت جهنم أمامهم عيانًا عياذًا بالله من قسوة القلب، ومن حال السوء.

أسأل المولى القدير، الغني، الحميد، خير الرازقين، الرزاق ذو القوة المتين، الكريم، المعطي، الوهاب، الواسع، ذا الفضل الكبير، والعطاء غير المجذوذ، والمنن الكبرى، أن يكفينا وإياكم بحلاله عن حرامه، ويغنينا ومن يقرأ ويسمع وينشر بفضله عمّا سواه، وأن يجعل أيامنا كلها عامرة بالرضا والقناعة، ومعمورة بالطاعات والغنائم الأخروية والدنيوية، دون أن يكون فيها شبهة أو خطيئة أو جرم، أو أيّ شيء يحيك في الصدر، وتخشى مغبته وعواقبه إن في الدنيا أو البرزخ أو الآخرة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

ليلة الخميس غرة شهر رمضان المبارك عام 1444

23 من شهر مارس عام 2023م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)