سير وأعلام عرض كتاب

محمد بن عبدالرحمن بن عساكر وأركان المروءة

Print Friendly, PDF & Email

محمد بن عبدالرحمن بن عساكر وأركان المروءة

سوف نقع قبل قراءة هذا الكتاب على أكثر من فائدة بالنظر إلى غلافه الخارجي فقط، أولها أنه باب من البر والصلة؛ إذ كتبه حفيد موفق عن جدِّ مبجل، ومن المؤكد أن الحفيد روى عن والده وأعمامه وأقاربه، وهكذا تصنع الأسر العريقة بتاريخها وسير أكابر رموزها من الرجال والنساء. ومما نلمحه من غلاف الكتاب العناية بالوثائق إذ وضعت إحداها على الواجهة الأمامية له؛ وإن الوثائق لشواهد صدق على ما مضى وكان. وآخرها على عجل كي لا أطيل المقام، أن الكتاب يبرز خيرية المجتمع وفضائله بنشر أخبار أحد أفراده المحسنين، ورواية وفاء الناس له وثنائهم عليه.

عنوان هذا الكتاب الذي حاز تلك الفضائل من غلافه فقط هو: عيون المآثر: سيرة الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن عساكر وبعض مآثره وأخباره (1350-1423)، وقد حرره حفيده: عبدالرحمن بن فهد بن محمد بن عساكر، وصدرت طبعته الأولى عام (1445=2023م)، ويقع في (176) صفحة مكونة من الديباجة، وثلاثة أبواب عن حياته وعيون مآثره ورحيله مقسمة على فصول، ثم الخاتمة. وأسرة العساكر من أقدم أسر الرياض من الدروع من بني حنيفة، ولهم أملاك وحدائق قديمة، ووالد المترجم الشيخ عبدالرحمن بن عساكر هو باني القصر الأحمر الذي اشتراه الملك سعود فيما بعد وأعاد بنيانه، وفيه عقدت أولى جلسات مجلس الوزراء السعودي الموقر.

أما حين نقلّب صفحات هذا الكتاب، فسوف تبدو من بينها روايات زكية، وقصص بهية، وأعمال رشد متوالية، ففيها من التعبد ما يرفع الهمة في أداء أركان الإسلام، وتلاوة القرآن، وإدامة الذكر، وعموم الطاعات والقرب القلبية والعملية. وفيها الكرم بالضيافة على اختلاف الزمان والمكان والحال، وكذلك البشاشة والسماحة وجمال الاستقبال، ومعها العلوم الغانمة، والأقاصيص المستظرفة بلا خدش حياء ولا إساءة لشيء. ولن يغفل القارئ عن تقدير العلم والفضل وأهلهما، وسيرى رأي العين المشروعات الخيرية المباركة في نشر القرآن، ومساندة التعليم والدعوة، وإغاثة المسلمين، والإعانة على الزواج، ونوائب الدنيا، وبناء المساجد والمساكن، ونجدة الملهوفين، وتفريج الكرب، وتفقد الحاجات حتى عند من يحسبهم الناس أغنياء من التعفف.

ثمّ سيعجب المطلع على هذا الكتاب من رجل شدا شيئًا يسيرًا من العلم، بيد أنه انقطع عن إتمام طلبه للعمل في مزرعة والده كفاية له وإراحة للأب، مع أن حب التعلّم منغرس في قلبه؛ ولذلك عاد إلى صفوف الدراسة على كبر وعمره يناهز الثلاثين دون أن يعيق ذلك همته ونيته. ولسوف يتعاظم المرء ما يقيمه الشيخ محمد بن عساكر من مآدب وولائم صيفًا وشتاء، في السفر والحضر، وفي البراري والمخيمات، وداخل المدينة في منازله وقصوره، وفي مواسم رمضان وأيام الحج عقودًا متتابعة، ولذلك سيقتنع بلا مواربة بما قاله عنه الشيخ عبدالمحسن النمر وهو الرجل العارف: الشيخ محمد العساكر أكرم أهل الرياض وأطيبهم!

كما سيلفت الكتاب النظر نحو مسارعة الرجل المبارك لمساندة أي عمل خيري بعد التحقق المضاعف من سلامة المؤسسة، وأهلية القائمين عليها، وجدوى المشروع، ودوام نفعه وكثرة عدد المستفيدين منه، وفوق ذلك فلابد من مشاورة أهل العلم والفضل في هذه الأعمال التي يراد منها ما عند الله، والمشاورة بناء على صلات ابن عساكر الوثيقة بكبار المشايخ. وبعد تبني هذه المشروعات يأبى الشيخ محمد ابن عساكر من نسبتها إليه، أو تسميتها عليه، ويتضايق ممن يحادثه عنها علانية، ويقاطع قول أي مادح له كي لا يكمل الإطراء؛ حتى وإن كان القول حقًا والثناء صدقًا.

وفي أخلاق الرجل الكبير ومسالكه التربوية عبرٌ نافعة لمعتبر بصير؛ فقد كان يؤاكل المساكين ويترك أكابر أهل الدنيا، ويشيّع زواره لباب المنزل ولو كانوا من السائلين الذين يرفض جل الأثرياء مقابلتهم وإن فعلوا فبعبوس وتقطيب، ويدير أحاديث المجلس بما يروق لأضيافه دون مأثم أو تجاوز. ومن خبره أنه كان مع نجله في سفر فعرضت لهم شياه تقطع الطريق، واضطر الابن أن يصدم إحداها، فأبى الشيخ أن يكمل مشواره إلّا بعد أن يربط بأذنها ثمنها مع أن أحدًا لا يراه، وصاحبها يتحمل خطأ عبورها واعتدائها.

وله مع أولاده طرائق تربوية في النصح والتوجيه المباشر وغير المباشر، وتقريبهم إلى بعضهم ذلك أن نسبتهم إليه أبد الدهر. ومن شأنه معهم الإيقاظ لصلاة الفجر حتى من استقلّ منهم في بيت يخصه، ولا يحرمهم من لفتات تربوية في مواضعها المناسبة. وكان حسن العشرة مع أزواجه، ويفرض الأموال والعطايا حتى لمن لم تك على ذمته منهن، وتلك مئنة خيرية، ودليل على فضل لا ينسى، وإنه لصنيع حميد خاصة في زمن فشا فيه جحود ونكران بين الأزواج أنفسهم بله ما يعقب الطلاق من دعاوى وبهتان وإضرار!

كذلك سوف يلحظ القارئ البر الشديد بالوالدين من قبل الشيخ محمد، فقد كفى والده كثيرًا من هموم الدنيا وشؤونها، وتذلل لوالدته للغاية، وسعى لجلب مطلوبها ولو كان عنبًا في غير موسمه، حتى قالت داعية له: “جعل بيتك مزار، ورأيك مستشار” ومرة أخرى سألت المولى أن يقلب الحصى في يديه ذهبًا. واستمر بره إلى الأقربين بالود، والصلة، والعون المعنوي والمادي، حتى أشرك بعضهم في مشروعاته التجارية دون أن يدفعوا ريالًا واحدًا، وأعطاهم الأرباح عن نصيبهم المفترض، وفي إحدى لقاءات الأسرة منح الحاضرين مبالغ مالية مجزية.

فلا غرو عقب ذلك أن تبكيه عيون القريب والبعيد حينما توفي فجأة في حادث سيارة بجنوب المملكة ليلة الجمعة، وعسى أن تكون ميتته الحسنة، ووقوعها ليلة الجمعة، وهو يؤدي عمل خير ساعتها أو كان آيبًا منه، وزحام المصلين في جنازته والمعزين، وشهادات الخلق له شعرًا ونثرًا كتابة وشفاهة ودموعًا، من علائم القبول وعاجل البشرى؛ حتى قال د.عبدالعزيز الثنيان كلمة معناها: ليت أن الأثرياء حضروا جنازته؛ وشاهدوا ببصائرهم ما تفعله النيات المخلصة والأعمال الحسنة. وأجزم أن من تدبر سيرته فسيعلم علم اليقين بلا ريب إمكانية الجمع بين الدين والدنيا، والقدرة على ابتغاء ما عند اللد دون نسيان النصيب الحلال من الدنيا.

ولعل الله قد وفق شيخنا وبارك له بأن فتح عليه في التجارة والمشروعات الضخمة، وفي عمل الخير وصنائع المعروف، وفي التعبد والتأله، وبأن وهبه ذرية طيبة بارة مكونة من أربعة وعشرين ابنًا وبنتًا من زوجاته الأربع، وبمئة حفيد وأزيد، وجميعهم يذكرون وسيذكرون بإجلال وتوقير ودعاء، أن جدًا لهم عاش في زمن سابق، فطوى المكارم بين جنبيه وفي قلب وذهنه، وضمها في يديه، وأظهرها بمنجزاته ومبادراته؛ حتى تضوع بمروءته الكاملة الزمان والمكان؛ فإن حفظ ابن عساكر الأول تاريخ دمشق مكتوبًا، فقد حفظ ابن عساكر الثاني جوانب مشرقة من تاريخ الرياض وما كان فيها من بركات العلم والإحسان والمكارم والمآثر التي رأتها عيون، ووعتها آذان، وتناقلتها أجيال، وآمنت بها جموع إثرها جموع.

وعسى أن يكون هذا الكتاب لسان صدق للمترجَم وآبائه الأولين، ولذريته إلى يوم الدين، كي ينال الكافة الدعاء بالرحمة، والأجور بالاقتداء، ويبقى لهم مع الثواب حسن الأحدوثة والذكر، وإن الله لجاعل بهذه الأخبار والتراجم حجة على المعاصرين والقادمين؛ كي لا يزعم زاعم أن الزمان فسد أو خلى من أولي الألباب والفضائل والطاعات والمروءات التي قال عنها الإمام الشافعي: “المروءة أربعة أركان: حسن الخلق، والسخاء، والتواضع، والنسك”، وأحسب كما فعل المؤلف بأن الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن عساكر قد ظفر من كل ركن بنصيب وافر، وحظ كبير؛ وتلك لعمركم الباقية.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الأحد 23 من شهرِ ربيع الأول عام 1445

08 من شهر أكتوبر عام 2023م

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)