شريعة وقانون

معهدنا الغالي للقضاء!

Print Friendly, PDF & Email

معهدنا الغالي للقضاء!

العراقة مزيج رفيع من أشياء مادية ومعنوية، ومن مفرداتها الكيانات والمؤسسات الموجودة في المجتمعات سواء الحكومية منها أو الأهلية بنوعيها الربحي وغير الربحي، وقد يكون في بعضها عراقة مادية مشاهدة رأي العين الباصرة، وعراقة معنوية لا تفوت على البصيرة الحاضرة. ومن الأمثلة المحلية التي يصدق عليها هذا الوصف المعهد العالي للقضاء، الذي صدر المرسوم الملكي بإنشائه عام (1385=1965م)؛ لتأهيل القضاة تأهيلًا عاليًا، ثمّ تخرجت أول دفعة فيه بنهاية العام الدراسي (1388-1389)، وعددهم خمسة وعشرون قاضيًا من قضاة السعودية.

فالمعهد بذلك هو أول وحدة تعليمية للدراسات العليا في المملكة، والدراسة فيه تخصصية في الفقه والقضاء وما يتصل بهما من علوم ومهارات. وتنحصر الدراسة بالمعهد في قسمين ضخمين هما الفقه المقارن، والسياسة الشرعية، وينضوي تحت لواء هذين القسمين الكبيرين من العلوم ما يجمع بحورًا من تخصصات عديدة إن بالفقه على المذاهب الأربعة، أو فيما يتداخل مع القضاء والمحاكم بأنواعها، ويتقاطع مع الأنظمة والقوانين.

وعليه فالمعهد مؤسسة تعليمية فقهية قضائية عليا؛ وهو وثيق الصلة بالقضاء ومجالسه، وبوزارة العدل، وديوان المظالم، والمحاكم بدرجاتها وأنواعها، إضافة إلى النيابة العامة، وكليات الحقوق وأقسام القانون، وعالم المحامين والمستشارين. ويلج المعهد إلى هذه الحقول الخصيبة المتشابكة من بوابة العلم الشرعي السامي، ومن نوافذ الفقه في العبادات والمعاملات والعقوبات، ومن أصول السياسة الشرعية العظيم أساسها، النافع فهمها.

ويزيد هذه التخصصات المعهدية شرفًا وقداسة مرجعيتها المباشرة للكتاب العزيز والسنة المحمدية، واتصالها بسادات الأمة من الصحابة والعلماء والفقهاء والمجددين؛ فالفاروق عمر هو شيخ السياسة الشرعية والمحدّث الموفق فيها، وأقضى الأمة بنص الخبر الصحيح هو الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، وأفرضها الصحابي زيد بن ثابت، ويكفيك من موضع عليٍّ منيف لا يُدانى ولا يُزاحم أن تجتمع فيه تلك المراجع المأمونة الراسخة من المصادر المحفوظة، والرجال الأزكياء رضوان الله ورحمته عليهم.

كان للمعهد مع تأسيسه مجلس إدارة يرأسه المفتي العام للمملكة ورئيس الكليات والمعاهد العلمية آنذاك سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وبعد أن صدر نظام جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أصبح المعهد ثالث وحدة من وحداتها التعليمية بعد كليتي الشريعة واللغة العربية. وأدار المعهد من تأسيسه إلى يومنا اثنا عشر مديرًا وعميدًا ثلاثة منهم من أعضاء هيئة كبار العلماء هم المشايخ عبدالرزاق عفيفي، ود.صالح الفوزان، ود.عبدالسلام السليمان، وأحدهم أصبح بعد المعهد مديرًا للجامعة الإسلامية ثمّ رئيسًا لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو د.عبدالرحمن السند، وفي بقية مديريه وعمدائه ووكلائه وأساتيذه من الفضل والعلم ما تشير إليهم سيرهم.

أما أول مدير للمعهد من خريجيه؛ فهو المدير السادس للمعهد أ.د.زيد بن عبدالكريم الزيد الذي شهدت عمادته للمعهد إكمالًا حثيثًا رشيدًا لتاريخ أسلافه، وتهيئة لمن يجيء من بعده كي يسير على طريق لاحب معبّد، والله يقبل ممن أدى الأمانة ومضى، ويعين من كلّف بها؛ فإن المعهد درة فريدة، وجوهرة نفيسة، فهو الوحيد في البلد، وأول مؤسسة تعليمية عليا، وربما أنه أقدم معهد قائم للقضاء في البلدان العربية كافة، وبينه وبين أقربها منه زمنًا سنوات تصل إلى العشر، وهي خصائص تزيد معهدنا الغالي قيمة وعلوًا.

كما أن تاريخ المعهد يحفظ مشاركة عدد من أكابر العلماء من المملكة وغيرها في تدريس مقرراته وكتبه، أو الإشراف على وضع مناهجه، ومتابعة رسائله العلمية أو مناقشتها، وفيهم مفتون، ورؤساء مجالس القضاء الأعلى، ووزراء العدل، وعلماء أجلّاء، فللتدريس بالمعهد خاصة إبان البدايات الأولى شروط ذات دلالة؛ إذ يجب أن يجتمع في المدرس المرشح ارتفاع في العمر، وقدر من الخبرة، وقوة في العلم، وسبق من التأليف؛ إضافة إلى جدية في البحث، ومقدرة فائقة على التعليم والنقاش، وأهلية تبرأ بها الذمة لتخريج القضاة على يديه؛ فهم ركن من أركان العدل، والعدل أساس للطمأنينة وإنه لمطلب أسمى، وهم الأمناء على القضاء؛ والقضاء عرض البلاد، وحق العرض أن يُصان ويحرز.

فأثمرت هذه الجهود المخلصة الطيبة إنتاجًا علميًا وعمليًا في الكم والكيف، سواء في عدد الخريجين أو المؤلفات، وأيّ بحث متمهل في شبكة الإنترنت سيجعل الناظر في ذهول وحبور من عناوين الدراسات الصادرة عن المعهد، وهي بحوث من طبيعتها أن تكون محكمة ومراجعة، وموضوعاتها من الدقة والتخصص والجدة في الاقتصاد، والتقنية، والتعاملات الإلكترونية، والعلاقات الدولية، وشؤون السياسة، والمسائل الطبية، والنوازل الفقهية، والأحكام المجتمعية، وفي الحقوق العامة والخاصة، ومكافحة الغش والفساد، والتجارة التقليدية والحديثة، الداخلية والعالمية، وكم ترك الأول للآخر.

كذلك استطاع المعهد تمتين صلاته بالأجهزة المحلية العدلية المتشعبة، ومع المؤسسات التعليمية مثل معهد الإدارة، من خلال اللجان، والاستضافات، والمشاركات العلمية، ثمّ نجح في المشاركة الفاعلة في اجتماعات المعاهد العليا للقضاء في البلدان العربية، واستضاف بعض لقاءات هذه البيئة التخصصية المهمة جدًا، والمجتمع الذي تحتم وجوده مشتركات عربية قلّما تجتمع في أمة أخرى. ولأن المعهد علامة فارقة في الجامعة؛ سعت إدارات متعاقبة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية لإظهار الاحتفاء الصادق بمعهدها العريق؛ فأيّ زائر للجامعة لا بدّ أن يقف على المعهد، ويقابل مسؤوليه، ولو كانت الزيارة قصيرة عجلى.

والآن يمكن للمعهد مع الحفاظ على فكرته الباسقة أن يجعل له أذرعة أخرى بعضها موجود حاليًا من خلال فتح المجال للمنح الخارجية، ولدراسة دبلومات في المحاماة، والقانون الدولي، والتحكيم، والقضاء المتخصص، والعلوم الجنائية، والكتابة القانونية، والصياغة التشريعية، والتدريب القضائي والعدلي حسب الاحتياج الواقع والمستقبل المتوقع، وتقريب علوم الشريعة وأصولها لدارسي القانون، وزيادة سبل التواصل مع المعهد من قبل خريجيه وغيرهم؛ كي يزداد نشاط المعهد، ويبقى انبعاثه حيًا ظاهرًا لا يخفت ولا يخبو؛ فحقه أن يرتقي السلّم دومًا؛ بلا توقف، ولا نكوص، ذلك أن المجتمع والحكومة لا غناء لهم عن الفقه وأصوله وقواعده ومقاصده في القضاء والفتيا والإدارة، ولا تنعدم الحاجة للسياسة الشرعية وميدانها الفسيح إن في القانون والأنظمة، أو في الإدارة المحلية والدولية، وكم في شريعة المولى من سعة وشمول وثبات وقابلية للاجتهاد والتجديد، وبها ينتفي الحرج.

إنه لا تكاد أن تخلو دولة من معاهد ومدارس عليا للإدارة، والقضاء، والتدريب عليهما، وأذكر من هذا الباب معهد الإدارة بلندن، والمدرسة الوطنية للإدارة بفرنسا، والشبكة الأوروبية للتدريب القضائي، والمعاهد الإدارية والقانونية التابعة للجامعة العربية، ولوزارات العدل في بلاد العرب، وقد كنا والحمدلله من أسرع البلاد إلى هذا المنحى العملي والعلمي من خلال المعهد العالي للقضاء، ومعهد الإدارة العامة، وكلاهما لو كانا من الرجال لعدّا من الأشياخ الكبار علمًا وقدرًا وعمرًا، فلهم علينا حقوق من التوقير والتقديم، والله يديم العراقة فينا، ويحفظها لنا، ويرزقنا تقدير هذه النعمة القدر الجميل اللائق لها وبها.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 23 من شهرِ ذي القعدة عام 1444

12 من شهر يونيو عام 2023م

Please follow and like us:

One Comment

  1. ماشاء الله تبارك الرحمن .
    سلمت يمينك مقال رصين، وبحث قيم، وأسلوب عذب مميز، وما أجمل هذه الكتابات التي تذكرنا بالشخصيات والمؤسسات العريقة، دمت مسدداً وموفقاً وجعلك الله مباركاً فيما تكتبه وتنطقه، وفي سائر شؤونك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)