سير وأعلام عرض كتاب

مدني علاقي ومسيرة ذات سير

Print Friendly, PDF & Email

مدني علاقي ومسيرة ذات سير

عنوان هذا الكتاب مختصر ومباشر وهو: سيرة ومسيرة، تأليف أ.د.مدني عبدالقادر علاقي، صدرت طبعته الأولى بجزأين شبه متساويين عن خوارزم العلمية ناشرون ومكتبات عام (1440=2019م)، ويقع في (771) صفحة مكونة من مقدمة وتحيّة، ثمّ ثمانية أبواب فيها أربعة وثلاثون فصلًا، واختصّ الجزء الأول بخمسة أبواب ذات سبعة عشر فصلًا. وفي الكتاب صور ووثائق، وعلى غلافه الأمامي صورة حديثة للمؤلف، أما الغلاف الخلفي ففيه ثمانية صور لأبرز معالم الأماكن التي شملتها حياة المؤلف، وهي الصور التي افتتح بها أبواب كتابه الثمانية، والله يدخلنا وإياه من أبواب الجنة الثمانية.

امتازت السيرة العلاقية بأمور منها الصراحة العفيفة، وشمولها حياة الرجل حتى اللحظة التي وضع فيها القلم، والتسلسل الزماني والمكاني الواضح، وبراءتها من الأنا الغليظة، والأنا أساسية في كتابة الذات، وإنما الإشكال في غلوها وطمس الآخرين. ومن المزايا أنها حملت في أحشائها سير أناس، ومواضع، ومشروعات، وعوائد، وحفظت كثيرًا من الصور، وهي دقيقة غالبًا؛ لأن المؤلف يدوّن منذ وعى فيما يبدو إذ يحدّد تاريخ الصور، وبعض الوقائع القديمة، وتلك محمدة تحسب له ولسيرته.

من مزاياها الحسنة كذلك اختتام الفصول بعبر وفوائد من المرحلة التي يتحدث عنها، وتخصيص كلّ فصل بما يرتبط به من صور ووثائق. ولا يخلو نصّ الكتاب الطويل من أخطاء نحوية وطباعية، وإذا كانت الثانية طبيعية فالأولى تُستكثر على ابن جازان بلاد الأدب والبيان، مع أن المؤلف اعترف بأنه غير ضليع في اللغة، ولذا دفع كتابه لمدقق لغوي، ومع ذلك فلم يسلم العمل، والكمال عزيز. ومن الطريف أن المؤلف حمد مستواه اللغوي العادي حينما نشب الخلاف في اجتماع وزاري عربي بسبب قواعد النحو بين الوفد السوري والسوداني!

وفي الكتاب وفاء كبير لوالديه وأخيه محمد، ولمعلميه، ولزملائه في رحلة الحياة سواء في جازان أو مكة، أو في القاهرة وأمريكا، أو في جدة والرياض. وفيه مواقف حزينة، وأخرى سعيدة، وثالثة محرجة أو باسمة، وبعضها مع بني آدم، وجزء منها مع الأعاصير، والثلوج، والأمطار، والبَرَد، والحيوانات سواء كانت مودة مع حمار، أو عداوة مع كلب، أو ذعرًا من ثعبان، أو استمتاعًا بسمك على الأطباق. وطبعًا كان للزراعة حضور عبر الحبق، والمانجو، والبرتقال، وفيها شيء من الأطعمة الجازانية، والمكية، والنجدية، والمصرية، والأمريكية، والآسيوية التي يجد الفتى العربي صعوبة في استساغتها، فضلًا عن فشلها في هزيمة الجوع.

أيضًا اشتمل الكتاب على خبرات عمل إدارية، وتعليمية، وبحثية، وعضوية مجالس ولجان، وإدارة شركات خاصة، أو المشاركة فيها وفي دراسات مهمة. ومن الخبرة العميقة المنشورة بإسهاب التي ستفيد القارئ، أحداث السنوات الطويلة التي قضاها في جامعة الملك عبدالعزيز مبتعثًا، فأستاذًا، ثمّ عميدًا، ووكيلًا. ومن خبر المرحلة الجامعية رسالة مكتوبة بخطّ اليد من أستاذ لعميد كليته المنتهية عمادته، ولم تكن العلاقة بينهما حسنة، بيد أن الله أكرمهما بالعقل والإنصاف العزيز المفقود. ومن طريف أيام الجامعة أنه حين عُين وزيرًا في نفس الأمر الملكي الذي اختار مدير الجامعة البروفيسور أسامة شبكشي وزيرًا للصحة، ازدحم المهنئون في مكتب أبي عبدالمجيد، وبعد فراغهم تذكروا زميلهم الآخر الموجود معهم في مكتب المدير، فانثنوا إليه مهنئين مباركين.

أما أثرى مواضع الكتاب، وهو ما سيمنح سيرة الوزير فرادة بين سير الوزراء، فهي الفصول التي تحدث فيها عن تجربته الوزارية حينما سمي وزير دولة وعضوًا في مجلس الوزراء بين عامي (1416-1424)، وما سطره عن إرهاصات ما قبل التعيين، ومهام وزير الدولة، ومهام الوزير المرافق، وأعمال الوزير المكلّف. وإذا كان الوزير د.غازي القصيبي أورد في كتابه الماتع حكايات المرافقة بإسهاب، فإن البروفيسور مدني كتب خطوات المرافقة، وترتيباتها، وهي خبرة اكتسبها بنفسه دون أن يخطره أحد من الإدارة المعنية عنها!

ثمّ أضاف الوزير لسرده بعض المواقف، ومنها لطف رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري خاصة عندما اضطر الوزير علاقي للبقاء في ساحة المطار والجو صقيع. وفيها القُبُل المتوالية من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، وهذان الزعيمان هما أكثر زعيمين رافقهما معاليه. ومن المواقف إطلاق الأمير سلمان -الملك لاحقًا- وصف الوزير المنافق على الوزير المرافق؛ لأنه مضطر للمجاملة، ووقوع أ.د.مدني في مأزق عندما تُرك مع زعيم ليشرح له عن المصمك ودخول الملك عبدالعزيز للرياض، وهو الذي لا يضبط هذا التاريخ بدقة حتى أسعفه د.سعد الراشد بمعلوماته.

ومن مواقف الوزير المرافق صعوبة فهم طرفة أطلقها وزير خارجية دولة خليجية وأعقبها بضحكة مجلجلة دون أن تحرك ساكنًا حقيقيًا في أبي السامي. وفيها وقائع كثيرة مع رئيس فنزويلا “هوجو شافيز” الذي أعجبه كثافة شعر لحية رجل أمن سعودي فسأله كم من الوقت استغرق نمو شعرك وقارنه بضعف نمو شعره هو، ثمّ جلوسه مع الطلاب وهم يحاكون طريقة الدراسة في الكتاتيب، وترديده كلام الشيخ مثلهم. ومن المؤلم أن تُعطى لشافيز ووفده معاطف صوفية فخمة وثقيلة لتقيهم من برد الصحراء دون أن يُمنح الوزير المرافق منها شيئًا مع توافر أعداد إضافية منها! وقد يعجب القارئ حين يتخيل منظر “بوش” الأب وهو يقف منتظرًا خروج زوجته من جناحهما، مع أن كلمة واحدة منه في زمن مضى كانت توقف العالم وتقعده! وعندما أبدى أمير إنجليزي استغرابه من لباس نساء البلد المحتشم، لم يجرؤ الوزير على أن يبادله الاستغراب ولكن من عري نساء بلاده، وليته فعل واحدة بواحدة.

كما تحتوي السيرة على قصص لافتة، منها تفاعل الوزير هشام ناظر إيجابيًا مع الطالب المبتعث مدني علاقي، وإرسال نسخة عربية وأخرى إنجليزية من الخطة الخمسية الأولى إلى مقر دراسته في أمريكا، وهو صنيع نادر من المؤسسات الرسمية ومسؤوليها. ومنها المخرَج الذي أوجده الوزير د.عبدالعزيز الخويطر للمؤلف كي يتراجع عن موافقته على عضوية مجلس الشورى بعد مغادرته مجلس الوزراء. وعلى رأس القصص تصرف والدة صاحب السيرة الحكيم حينما اقترن والده بزوجته الرابعة، وإن أتجاوز فلا يمكن تجاوز تفاصيل أحداث انتقال المؤلف للدراسة بين عدّة أماكن، وكيفية إقناع والدته الرؤوم بالموافقة.

كذلك نجد في سيرة أ.د.علاقي كثرة ظاهرة التلاقي سواء مصادفة غير متوقعة، أو بعد سنوات من الغياب والانقطاع، وهي كثيرة وبعضها أشبه بالإنقاذ الإلهي له. ومن ألطفها ماكان مع رئيسي وزراء مصر-د.عاطف عبيد و د.عبدالعزيز حجازي- وهما من أساتذته في الجامعة دون أن يفطنوا لذلك بسبب كثرة الطلاب. ومن أعجبها اللقيا مع أحمد مكي في القاهرة، ومع عبدالله قطب في فلوريدا. هذا غير التقائه مع طلابه الذين عملوا في السلك الدبلوماسي، وحرصوا على استقباله في المطارات، وفي بعضها لم ينشط للنزول خلال مدة الانتظار لأن الدولة نامية ولن يكون مطارها متطورًا، وحينما أقنعه مرافقوه بالنزول تفاجأ بأنه أحسن من جميع مطاراتنا!

وهي صورة محزنة، ومن هذا الباب ما رواه عن لوي أذرعة بعض المواد العلمية؛ لتتوافق مع الفكر الاشتراكي السائد زمن الناصرية في مصر، دون أن يقتنع الأساتذة بالمناهج المحرفة وهم يلقونها، ولا يصدقها الطلاب وهم يتلقونها ثمّ يكتبونها في ورق الامتحانات لأجل النجاح فقط، وسبحان من جعل للحقّ سطوة وقوة ولو جاء الباطل ومعه جيش لجب، فالباطل زهوق، والحق آتٍ لا محالة. ويضاف ضمن هذه الصورة القاتمة، طرق التدريس الجامعي القائمة على الكتب الكبيرة، والإلقاء دون نقاش، أو تعليم طرق البحث، أو تدريس منهج الكتابة، أو تطبيق كيفية العودة للمراجع، وهو ما اكتسبه المؤلف في دراسته العليا بأمريكا؛ حتى سكنت القراءة والكتابة والبحث في ذهنه وقلبه.

من طريف المواقف العلاقية أنه حينما ذهب لدراسة اللغة الإنجليزية في بريطانيا لم يحسن التفريق بين الشطرنج والصدر لاقتراب الكلمتين في النطق، وذهب يبحث عن الصدر لدى فتيات يتضاحكن بخبث، ويسألنه ماذا تريد منه؟ فيجيب ببراءة: كي ألعب به مع صحبي! فتنطلق ضحكاتهن المجلجلة حتى جاءت العجوز الخبيرة، وفهمت منه الحكاية، وأفهمته الفرق، وكتبت له الكلمة بورقة؛ ليعود إلى رفاقه في شقتهم ومعهم اللعبة التي كادت أن تكون شيئًا آخر! ومنها قصة القويعية ستي خلال درس اللغة، ورفض طفلته سمر فطور جدتها المكون من معصوب وشكشوكة لأنها تريد كورن فليكس فقط، وفطور المضيفة المغربية الرمضاني المتقن حتى تمنى المسافرون لو طالت الرحلة إلى وقت السحور، ولو رأى المدرس تلميذه الصغير وزيرًا لندم أن قال له بسبب ضعفه في الرياضيات : أنت مش حتفلح!

وفي ختام السيرة توقف الكاتب المولود في اليوم التاسع من الشهر التاسع عام (1359) مع شخصيات محورية في حياته، وبدأ بأسرته المكونة من زوجته المخلصة سعاد دمنهوري ووالدتها أم يوسف التي امتزجت فيها دماء ملاوية وهولندية بنكهة مكية مباركة. ثمّ أكمل السرد عن ذريته وأزواجهم وأولادهم، ولبعضهم أبناء وبنات على وشك الزواج ليصبح المؤلف أبًا لجد، والفضل من الله. وفي سياق الكلام عن الأبناء أ.د.سمر، وأ.سامي، وم.ياسر، وأ.طارق، وصفهم بأريحية تامة، وتكلم عن زواجهم، ولزواج ياسر تحديدًا قصة طويلة لطيفة من كريمة أحد طلابه.

ثمّ انفتل المؤلف بوداد نحو أصدقائه وجيرانه وزملاء العمل في أطواره المختلفة، وبعضهم من الشخصيات العامة المعروفة، وتكلم بمحبة عن كل واحد منهم ومواقفهما المشتركة، وهي سمة عامة في الكتاب من أوله إلى آخره. وبعد ذلك أفاض في الحديث عن ديوانيات ثقافية دورية يشارك فيها، وما أجمل الحياة بعد التقاعد بسكون مع أسرة متماسكة، وكتاب وتأمل وتدوين، وهي التي عبّر عنها مؤلفنا بقوله: أنا لا أعيش وحدي.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 15 من شهرِ شوال عام 1442

27 من شهر مايو عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)