المال في ميزان السِّياسة!
العلاقة بين السِّياسة والمال لا تنفكُّ أبدًا؛ وكثيراً ما تأثَّر الاقتصاد بالسِّياسة والعكس، وهما وجهان لعملة واحدة كما قال ديفيد روكفلر، وكم من دولة وصفت بأنّها على هامش شركة! واستولى الإنجليز على الهند بواسطة شركة تجاريّة أوّل الأمر على ضخامة الهند مساحة وسكانًا!
وإنّ حاجة الحكومات لتنشيط الاقتصاد وتنويعه، وجذب الاستثمارات الخارجيّة، تكاد أن تكون أحد أهم محرّكات أعمالها، ولأجل هذا تسيطر الملفات الاقتصاديّة على جدول أعمال السِّياسي، وزياراته، ومشروعاته، وهذا ممّا يحمد لمؤسسة الحكم، وفريق الرّئاسة.
كما يعدُّ الخلل المالي عائقاً كبيراً يحول دون أيِّ نمو اقتصادي، فرؤوس الأموال لا تتجرأ على خوض تجارب ماليّة محفوفة بالمخاطر، وتتنوّع هذه المخاطر بين فساد مالي بالرَّشاوي والعمولات، والضّرائب المجحفة، أو سوء إدارة بالتّعقيدات وطول الإجراءات، أو عيب قضائي بالتّباطؤ، ونقص النَّزاهة، والتّباين في الأحكام بلا تفسير مقنع.
ومن المخاطر التي تخشاها الشَّركات ورجال الأعمال، انحصار القرار في فرد أو مجموعة مغلقة، وضبابيّة طرق صنع القرار ثمَّ اتّخاذه، وانعدام الشّفافيّة، وبالتّالي كثرة المفاجآت الضَّارة غالبًا! ولاجتناب هذا المأزق ناقشت منظّمة التّجارة الدّولية كلَّ دولة على حدة حول أسلوبها في بناء القرار، وتنفيذه.
وأيُّ حكومة تسلك طريق الإصلاح بصدق، وعزيمة، ودون استثناء أو أهداف خفيّة، سيكون النّجاح البّاهر مصيرها، لأنَّ السعي للإصلاح، ونبذ الفساد، مطالب أساسيّة لأكثر النّاس، فيساندونها بتلقائيّة، ويقفون خلف من يرفع رايتها وإن خالفوه في تفاصيل أخرى.
وهي عمليّة معقّدة، وصعبة، وطويلة، وذات تبعات؛ بيد أنَّ ثمارها تدعو للصّبر عليها، وعدالتها تجعل الغالبيّة مشاركين فيها، وراضين عن نتائجها المنصفة، ومن الأمثلة الظَّاهرة عليها ما فعلته رواندا، وقبلها البرازيل، وقبلهما سنغافورة، ومن رام الاقتداء ففي القديم والحديث أمثلة وشواهد.
ومما يضرُّ بالأعمال الماليّة، وقد يربك الأوضاع السِّياسيّة، سوء تقدير التَّعامل مع المال، وأربابه، وخطأ التَّوقيت في أيِّ عمل ولو كان مطلوبًا، ولذلك حين تنازع عمر بن الخطَّاب مع بعض كبار الصَّحابة-رضوان الله عليهم جميعًا- حول إجراء مالي صارم ولم يصلوا لاتفاق؛ عرضوا الأمر على محكِّمين ورضوا برأيهم.
ولم يستعجل عمر بن عبدالعزيز-رحمه الله- في بعض إصلاحاته الماليّة مراعاة لتأثيرها واستشراء الفساد قبله، مع أنَّه مسكون بهمّ الإصلاح، وخائف من غوائل الولاية الأخرويّة، لكنّه نظر بعين المصلحة والأناة المحقِّقة لأكبر قدر من الخير، والدَّافعة للشّر، وحاز بذلك لقب أوّل مجدِّد في تاريخ الإسلام، وكان تجديده الأعظم في العدل المالي، وبعد أن غادر الحياة والحكم، كان الثّناء عليه يطيّب أفواه خصومه قبل محبيه.
اقتبس العمران-رضي الله عنهما- الحكمة والعدل من السّياسة النّبويّة؛ حين وضع النّبي عليه الصَّلاة والسَّلام ربا عمّه العبّاس رضي الله عنه قبل ربا غيره من التُّجار، ولم يكتنز المال لنفسه أو بيته، ووضَّح للأمّة مسوّغات قراراته الماليّة؛ فالمال يؤثّر حتى على أزهد النّاس، وحين سأل عمر عبدالرّحمن بن عوف -رضي الله عنهما- بقوله: أخليفة أنا أم ملك؟ أجابه: أنت خليفة؛ لأنّك تأخذ المال بحقّ، وتضعه في مكانه بحقّ! ويكفي أمرًا من الخطورة أن يكون مقياسًا فاصلًا بين وصفين!
وفيما سلف قرأت كتابًا جميلًا عنوانه: “الوزراء والكتَّاب”، للجهشياري، وورد فيه تدابير وحكم اقتصاديّة، وقصص وروايات ماليّة معبِّرة، اخترت منهما اثنتين، وسأنقلهما باختصار دون أن يخلّ بالمعنى، والمصدر الأساسي لهما موجود متاح لمن أراد الرُّجوع إلى كامل الحكاية.
فبعدما صرف الرَّشيد الفضل بن يحيى البرمكي عن خراسان، استعمل بدلًا عنه عليّ بن عيسى بن ماهان، فقتل الأمير الجديد وجوه أهل خراسان، وجمع أموالاً كثيرة، وحملها إلى الرّشيد متفاخراً، فلمّا رآها سرَّ بها، وأحضر يحيى بن خالد وقال له بلهجة مستنكرة: أين كان الفضل بن يحيى عن هذا؟!
فأجابه: يا أمير المؤمنين: إنَّ خراسان سبيلها أن تُحمل إليها الأموال، ولا تُحمل منها، والفضل أصلح نيّات رؤسائها، واستجلب طاعتهم، خلافًا لما فعله علي بن عيسى! وسينفق أمير المؤمنين مكان كلّ درهم من دراهم ابن عيسى عشرة! فثقل قول البرمكي على الرّشيد، ولما انتفضت خراسان عليه، واضطّر لقتالها بنفسه، جعل يتذكر حديثه مع يحيى ويقول: صدقني والله يحيى ونصح لي؛ فلم أقبل منه، والله لقد أنفقت مئة ألف ألفٍ وما بلغت شيئًا!
وجرى مثل ذلك لعبدالملك بن مروان، حين حمل له الحجَّاج مالاً كثيراً من العراق ففرح به، ولام أمير العراق السَّابق خالد بن عبد الله بن أسيد، وخاطبه أمام النّاس قائلاً: إنّي استعملت هذا على البصرة، فاستعمل كلَّ فاسق، وجبى عشرة دراهم، واختانها كلَّها إلّا سدس درهم من كلّ عشرة رفعه إليّ، بينما الحجَّاج فعل وفعل، وفوق تضييع خالد للعمل والأمانة يلومنا إذا عزلناه!
فقال خالد مجيبًا له: استعملتني على البصرة وأهلها رجلان: مطيع مناصح، ومخالف مشايح، فأمّا المطيع فإنّي جزيته بطاعته فازداد رغبة، وأمّا المخالف فإنّي داويت عداوته، واستللت ضغينته، وحشوت صدره ودِّاً، وعلمت أنّي متى ما أصلح الرِّجال أجبِ الأموال، واستعملتَ أنتَ الحجَّاج فجبى المال، وكنز العداوة لك في قلوب الرِّجال؛ فكأنَّك بالعداوة قد ثارت وأنفقتَ الأموال، فلا مال حينها ولا رجال! فسكت عبدالملك؛ ثمّ استعاد هذه المقولة يوم الجماجم الرّهيب!
إنَّ رجل الدَّولة يقدِّر مواضع أقدامه، ومصائر قراراته قبل أن يقدم عليها، ويبصر المستقبل ولا ينحصر في يومه، ويستعين على ذلك بالمشاورة، وتقليب أوجه النَّظر، ومراعاة الحال، والتَّفكير في المآل، حتى يصلح أمر النَّاس ولو بالتّدريج، على أن يكون الإصلاح عامًا غير مقتصر على زوايا وقاصرٍ عن أخواتها، فالمقارنات التي تظهر الإجحاف والتَّحيّز مضرّة.
فما أكمل الإنصاف والاستبصار، وأحرى الرَّاعي بمراقبة الله ثمّ مصالح البلاد والعباد، وما أعظم العدل الذي يجمع قلوب الرّجال، ويلجم أفواه المغرضين؛ ولو كانت معهم حجج وشواهد، فغياب العدل قد يجعل من يصفِّق اليوم لإجراءٍ جهلًا أو نفاقًا، يلطم عليه غدًا ندامًة وحسرة!
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الأربعاء 09 من شهرِ شوال عام 1440
12 من شهر يونيو عام 2019م
4 Comments