سياسة واقتصاد سير وأعلام عرض كتاب

خلاصة من سبع زيارات للتّاريخ

Print Friendly, PDF & Email

خلاصة من سبع زيارات للتّاريخ

سيظلّ التّاريخ ماتعًا لأقوام، ومعلّمًا مع الإمتاع لآخرين، فكم فيه من عبر وحوادث، والبصير من وعى التّاريخ الذي يخصّ حضارته، وما يتجاور معها أو يتقاطع. وفي خبر التّاريخ لا محيد من تعريج دائم ومكوث طويل عند الجغرافيا، ففيه مع التّاريخ نوافذ للمستقبل، ومعاقد للأمن.

وسبق لي استعراض كتاب عنوانه: زيارة جديدة للتّاريخ، تأليف الكاتب والسّياسي المصري الرّاحل محمد حسنين هيكل، وكان استعراضي له في سبع مقالات منفصلة؛ كلّ مقالة تتحدّث عن زيارة بعينها، وهذه المقالة ملّخص لأهم ما ورد في أخواتها السّبع السّالفات.

فأولّ زيارة كانت للملك خوان كارلوس، وعنوانها: البحث عن إليزابيث! وهدفها معرفة سرّ تحوّل إسبانيا من حكم عسكري متسلّط بقيادة الجنرال فرانكو، إلى حكم ديمقراطي تفوز به أحزاب ذات موقف من الملكيّة، ومع ذلك تُمنح الفرصة لتحكم، فهذا حقّ للشّعب في الاختيار وتقرير المصير.

ومع فظائع الجنرال الدّموي فرانكو، إلّا أنّه تكفل بتربية الملك خوان كارلوس وهو في غضاضة شبابه، وتولى تهيئته بنفسه للحكم الجديد، وأختار له طريقة الدّراسة وفنونها من عسكريّة ومدنيّة، وتلك منقبة تحمد لمن جعل مصلحة شعبه وبلاده في المقام الأوّل وإن كان جبّارًا أثيمًا.

ونجح الملك فيما بعد بتعيين رجال دولة من الطّراز الرّفيع مستشارين له، ثمّ بحث عن مثال قريب من ثقافته ليحتذيه، فوجده في شخص الملكة إليزابيث؛ فجعل عرشه يرتفع فوق كلِّ الأحزاب، ومشورته لا تطلب إلّا في أحوال استثنائيّة، ويتدخل كجندي مرور يفضُّ الاشتباك إن وقع.

وثاني زيارات الكتاب للزّعيم الرّوسي يوري أندروبوف، ولم يكن هيكل يحسن تقدير أهميّة الرّجل، حتى لفت نظره لذلك الدّبلوماسي المصري العريق مراد غالب- وكان يجيد اللّغة الرّوسيّة-، وأكدّ ذلك السّفير الكندي، عميد السّلك الدّبلوماسي حينذاك، فبدأ هيكل يتابع أندروبوف، ويقتنص الفرصة للاستماع له، وكتب ذكرياته معه تحت عنوان: رجل الأسرار!

حيث استعدّ أندروبوف للحكم بالقراءة ست ساعات يوميًّا، مع مراقبة الوضع، وتقدير الموقف، وحين اعتلى سدّة الرّئاسة قاوم الفساد، وأعاد للمناصب حيويّتها بالشّباب، ولم ينافس أحدًا من العسكريين أو المدنيين في عمله، وكانت له نظرات أكثر حكمة وديمقراطية من مؤسسة الحكم في بلده، ولكنّ وفاته المفاجئة حرمت بلاده والعالم من مواقفه البعيدة عن التّشنج.

ووضع هيكل ثالث زيارات كتابه للفيلد مارشال مونتجمري، وعنوانها: الحرب.. والسّلام، وكان لقاء مونتجمري من أماني الصّبا الغضِّ لهيكل، التي تحققت بفضل علاقاته الصّحفية الدّوليّة، وقربه من جمال عبد النّاصر، الذي منح لمونتجمري استثناءات كثيرة لزيارة أرض معركته الشّهيرة.

ويؤكّد مونتجمري على أهميّة أخلاقيّة الحرب؛ وذلك لتحقيق ميزتين أساسيتين، أولاهما: تعبئة الرّأي العام المحلي بمشروعيّة الحرب، والثّانية: عزل العدو عن بقيّة العالم، ويكرّر بأنّ الصّراع على العقول يسبق الصّراع على الأرض، وأنَّ الاقتناع عامل مهمٌّ وأساسي قبل خوض غمار أيّ معركة، وأنّ القوّة لا قيمة لها إذا فقدت المشروعيّة.

ويرفض مونتجمري تدّخلات السّاسة بالمعركة، ولا يحب تحوّل السّياسي إلى جنرال، وبالمقابل لا يحب الجنرالات حين يمارسون السّياسة، مع أنّه يؤمن بما قاله كلاوزفيتز قبل قرنين من أنّ الحرب هي الدُّبلوماسيّة بوسيلة أخرى.

ثمّ زار المؤلف ألبرت آينشتين، وجعل عنوان زيارته: النّسبيّة، القنبلة، وإسرائيل، ويعترف هيكل بأنّه لم يستوعب آينشتين إلّا بعد مقابلته فعليًا في 12 من ديسمبر عام 1952م، ولم يكن اللّقاء في حسبانه، وإنّما طرأ مصادفة خلال عشاء في نيويورك؛ ضمّ أشياخ السّياسة المصرية مع بعض شبابها، ومن الّلافت أنّها الزّيارة الوحيدة التي تمنى هيكل لو أعادها.

وينتقد آينشتين عنف اليهود وقادتهم، ويقول: إنَّ تصادم أسس أيّ فكرة مع عمليّة تجسيدها، يدّل على خلل في مكان مّا، وقد يكون الخلل عضويًّا في الفكرة، أو ضمن إجراءات التّطبيق. وليست هناك قضيّة تتعلق بالإنسان يطاوعه قلبه لتركها في يد جنرال، ويعلي آينشتين من قيمة المشي وفائدته للكاتب والمفكر، ويوصي بقراءة كتب الخيال للأطفال، ويجزم بأنّ المسؤوليّة أجدى من الالتزام.

وكانت خامس زيارات هيكل في كتابه إلى الزّعيم الهندي جواهر لال نهرو، وعنوانها مباشر جداً: المثقف والسّلطة، وقد تتابعت لقاءات هيكل مع نهرو، بيد أنّ آخرها كان أطولها، وأمتعها، ومثله لا ينسى؛ فبعده مات نهرو في ذات المكان الذي التقيا فيه، وخلفه في رئاسة الحكومة ثالثهما في تلك الزّيارة.

ويمتلك نهرو حسِّاً سياسيّاً يجعله يقبل بالأمر الواقع وإن لم يرض عنه، وهو يثق بنفسه حتى أنَّ غيره يشعر بهذه الثّقة، وله صلة وثيقة بالأفكار، ومعرفة حميمة بالتّاريخ، وعندما يسوق أمرًا ليس له فيه رأي قاطع؛ يحيطه بعنصر الشّك.

وينقل نهرو عن المهاتما غاندي، أنَّ علاج مشكلات الهند يكمن في تعليم كلّ مواطن، وأنَّ العصيان المدني وسيلة للجمع بين الأخلاق والسّياسة، ومن حكم غاندي التي أسداها لصاحبه أهميّة التّواضع في الوصول إلى الحقيقة؛ حيث أنّ التّواضع يذيب سدّ الذّات الحائل دون الموضوعيّة، وما أعظمه من درس.

ومن حكم نهرو التي يردّدها هيكل فيما بعد كثيرًا، قوله إنَّ في كلِّ شعب وأمّة نخبة، ومع النُّخبة جموع هادرة من عامّة النّاس، ولا مناص من أحد خيارين: إمّا أن تحمل عقول النُّخبة ثقل الكثرة الكاثرة، وتخدمهم وتسعى في صلاحهم، أو تسقط عضلات الأكثريّة فتكتم الأنفاس، وتحطّم الأضلاع!

وسادس زيارات الكتاب وأطولها من نصيب الشّاه محمد رضا بهلوي، وعنوانها: عرش الطّاووس.. وكلّ الدّروس المنسيّة! ويرى هيكل بأنَّ تدَّفق أموال النَّفط إلى إيران الشَّاه، جعل عمليّة التَّحديث فيها متسارعة جدًا، وهو تحديث يبني أحجارًا ويهدم قيمًا، في تناقض صارخ لا يكتب لمثله النَّجاح ولا الاستمرار.

والشّاه مغرم بالمال، والنّساء، والتّسلح، وإثبات مكانته الإقليميّة، مع طاعة متناهية للغرب، واسترضاء إسرائيل، والسّعي الحثيث لجعل إيران قطعة من الغرب في لهوه ومجونه، لا في صناعاته وقدراته وأنظمة حكمه، ولذا كانت نهايته قبيحة، بضياع العرش، والمنفى، والتّشريد، وسرقة أمواله، وتخلي حلفاؤه عنه، بل ومعاملته على أنّه مخلّفات كريهة عديمة القديمة.

واختتم الكتاب بسابع زياراته لرجل الأعمال الأمريكي دافيد روكفلر، وعنوانها: القرار الأمريكي.. من يملكه؟! ويخلص هيكل إلى أنَّ القرار الأمريكي متركز في يد من يملكون المصالح الحقيقيّة فيه، وهم مؤسسات متنوعة ذات مصالح مختلفة.

ويرى روكفلر أنّ المال والسّياسة وجهان لعملة واحدة، ولذا كثيرًا ما نقلت أمريكا رسائلها مع رجال الأعمال، أو بواسطة مراكز الأبحاث، والمؤسسات الخيريّة، والمنابر الإعلاميّة، وجعلت من هؤلاء ستارًا للتّرويج لفكرة، أو التّمهيد لإجراء أو تغيير.

وبعد، فهذه إطلالة سريعة على محتويات الكتاب، وفي كلّ مقالة تفصيل أكثر، ومن رام التّوسع فدونه الكتاب الذي صدر عن دار الشّروق عام 2009م، وعدد صفحاته (431) صفحة، ففيه متعة وفائدة من العيش مع ملك، وزعيم دولة عظمى، وقائد حرب، وعالم مفكر، وسياسي مثقف، وإمبراطور طريد، ورجل أعمال مثير!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرّياض

ahmalassaf@

الأحد 11 من شهرِ رمضان المبارك عام 1439

27 من شهر مايو عام 2018م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)