سير وأعلام شريعة وقانون عرض كتاب

عبدالعزيز بن صالح: الإمام الأبيض

عبدالعزيز بن صالح: الإمام الأبيض

للعلماء منزلة رفيعة في المجتمع، وما ذاك إلّا لارتباطهم بالعلم المنيف الذي يحملونه ويذبون عنه ويوقعون بموجبه عن ربّ العالمين، ومن هذه الخصيصة كان لهم الحضور القوي، والسلطة المؤثرة، والقبول الكبير في أوساط عدة. ويعد سماحة الشيخ عبدالعزيز بن صالح بن ناصر الصالح (1329-1415) من الأمثلة البارزة على ذلك؛ فوجاهته وزعامته بادية كما ذكر الشيخ عبدالله البسام.

عاش ابن صالح طفولته يتيم الأبوين تحت كنف أخيه عثمان، وابتلي بمرض في العينين، ودرس على يد مشايخ كبار أبرزهم الشيخ عبدالله العنقري، ثمّ صلى بالناس التراويح وهو لم يتجاوز خمسة عشر عامًا، وانتقل بعد سنوات من المجمعة إلى الرياض فالمدينة وبها استقر، وأصبح عضوًا في هيئة كبار العلماء، والمجلس الأعلى للقضاء، هذا غير أعماله في المدينة النبوية قاضيًا وإمامًا في مسجدها، ومؤثرًا في جلّ شؤونها.

وفيها قرأ علم التجويد على شيخين عَلمين في الإقراء هما شيخ المدينة حسن الشاعر الذي أبدى ملاحظة للشيخ ابن صالح في أحكام الوقف بسورة الكوثر فلم يستنكف ابن صالح ودرس على الشيخ الشاعر، وقرأ على شيخ مصر محمود الحصري، وأجازه الشيخان بقراءة حفص عن عاصم في أوائل إمامته للمسجد النبوي؛ لأنه أراد أن يكون كامل الاتقان والأهلية للإمامة في المحراب المقدس.

ثمّ أمضى نصف قرن من التدريس والإمامة والخطابة والقضاء، وصلى بالناس دونما مقابل مادي؛ وعلل ذلك لمن أصر عليه كي يتسلم المكافأة بأنه يريد عمل شيء لله، وغايته الأجر وليس الأجرة، ومع ذلك اجتهد لرفع قيمة مكافأة الأئمة، وبعد أن زيدت ثلاثة أضعاف مبلغها بقي على موقفه الرافض لأخذها؛ وخلص مسعاه لصالح غيره وليس لحظوظ نفسه.

وله مجلس يومي مفتوح يجمع العلم والأدب والفكاهة الجميلة والسياسة المتزنة، ويقصده بعد العصر جموع من عامة الناس أصحاب الحوائج لأنه يجد لذة في تخفيف معاناة الآخرين، كما يزوره بعد المغرب عدد كبير من ضيوف المدينة ضمن بعثات الحج، أو طلبة المنح في الجامعة الإسلامية، فضلًا عن طلاب العلم، والفقهاء، والمحتسبين، ورواد العمل الاجتماعي والإغاثي، وخير الناس أنفعهم للخلق.

كما يحتفي كثيرًا بحفظة الكتاب العزيز، ويسعى جهده لتأهيل دعاة من جميع البلدان في الحج، ويستقبل في منزله ليلة كل ثلاثاء المدرسين والدعاة في المسجد النبوي الذين ينتقيهم بنفسه بعد فرز وتقويم، وما أعظم كلمته إذ يقول: أبحث عن عقلاء قبل أن يكونوا علماء، ولا غرو فالرجل فيه علم العلماء، وسياسة الحكام، والمعرفة بأحوال الناس حسب وصف الشيخ العبودي، وتلك سمة رجل الدولة التي نتمنى ألّا تغيب عن المشايخ.

أما ثقافته فموسوعية، يتحدث عن خطوط الطول والعرض وعلم الفلك، ويزور المتاحف والمصانع والحدائق، ويعرف طبائع الناس وعادات البلدان وأنساب القبائل، ويحب الطبيعة والطيب ولبس البياض، ويكره الغلو والتبديع والإسراع إلى الخلاف، ويوصف بأنه مهيب عن بعد، محبوب عن قرب، يتنامى الإكبار له مع ازدياد الاقتراب منه، فيه حدة لا تنبو، ودعابة لا تنافي الوقار، فجمع بين صلابة القاضي، ومتابعة المحتسب، وحرص المربي، ولين الداعية.

وهو أبيض الوجه مشرقه، أبيض العباءة والثوب، أبيض القلب واللسان، لا يحمل على شانئيه، ولا يتعرض لأحد بقول مشين، وتجاوز عمن أساء له مع علمه به، ولم يخبر بنيه عن مبغضيه حتى لا يحملوا عليهم في نفوسهم، ومع طول عهده بالقضاء فليس في سجله حكم منقوض، أو تهمة من خصوم؛ ولأجل ذلك خرجت المدينة الطيبة تشيعه حزينة على رحيله، باكية على أيامه المنبرية، ولياليه في المحراب.

بينما تتأكد استقلاليته وإنصافه من مواقف كثيرة، منها أنه خالف وزير الداخلية في أمر فلما وصل الموضوع للملك أقر رأي الشيخ، ومع وجود خلاف بينه وبين أحد أمراء المدينة في مسألة إلّا أنه انتصر لاجتهاد الأمير عند ولاة الأمر، ولم يمنعه خلافهما من موافقته على الحق، ولم يستثمر الفرصة للتنغيص على مسؤول يختلف معه، وتلكم من مروءة الرجل الكبير.

وفي المقابل فعندما حاول أحد أمراء المدينة أن يتدخل في أحكام القضاء أرسل له كتابًا شديد اللهجة، فلما قرأه الأمير ذهب للشيخ معتذرًا مسترضيًا، ولم يتوان عن رفع أيدي النظار الظلمة عن الأوقاف، وصد محاولات بعض الأثرياء لشراء أوقاف بأقل من ثمنها المناسب، وأوضح للملك فيصل موقفه بجلاء فأيده وحمى الله الأوقاف من الكسالى والكائدين.

أما شأنه في بيته فالتوسعة على العيال، والنصح الدائم لهم، واللقاء اليومي والأسبوعي بهم، والتربية الدائمة والموقفية، فمن ترك صلاة الجماعة استعدادًا لزيارة شخصية مهمة حرمه من المشاركة فيها، ومن استدرك على كبير في أمر هامشي أخبره عن المسلك الأنسب، ولم يتدخل في قراراتهم الشخصية، وكان يداعبهم في المناداة، ويتواصل مع مدارسهم مؤكدًا أنه ولي أمر وليس فلان صاحب المنصب، ويراجع على بعضهم الجزء الخاص بالتراويح عصر أيام رمضان ومع المراجعة أحكام وفوائد، وله صلة فريدة بذويه خاصة مع أخيه وأبنائه وأحفاده، حتى تكفل بشؤون بعضهم في الزواج والمسكن والعلاج والوظيفة، ولم ينس أسرته الكبيرة من الصلة والتواصل.

وعلاقاته مع زملائه وموظفيه نموذج يحتذى، وله وداد خالص معهم برز في زيارته لمساعده الشيخ عبدالمجيد بن حسن في الرياض عقب مرضه، وقال لمن طلب منه الاكتفاء بالتواصل عن بعد: كيف يبلغني مرضه ثمّ لا تطيب نفسي بزيارته؟ وحين جاء الشيخ عبدالمجيد إلى مجلس ابن صالح في المدينة إبان عيد الفطر كانت لحظة مشهودة بما فيها من جمال اللقيا، واستصدر لاثنين من الأئمة أمرًا بمنحة أرض كبيرة، وتوسط لثالث عند الملك خالد فقضى ديونه، وشفع لضعفة من أهل الأربطة عند الأمير نايف فأعطاهم إقامة نظامية، وساعد من حرّ ماله زملاء له في زواجهم وسكناهم.

كما ألقى الشيخ على منبر الرسول الأعظم خطبًا مرتجلة قصيرة عملية متأثرة من عمله في المحكمة أو مما يهم الأمة أو يتقاطع مع لوازم الوقت، وامتاز في المنبر والمحراب بأنه بعيد عن التكلف في الأداء، سليم من السجع الممل، بريء من تصنع الخشوع والبكاء، ووصفت تلاوته لسورة الرحمن بالقراءة من الجنة، وفي صوته طمأنينة سرت داخل عروقه من بركات القرآن الكريم، ولذلك حظي باستقبالات رسمية وشعبية حافلة في جميع الدول التي زارها، وغدا قوة ناعمة يصعب مقاومتها، ويتعذر منع تداخلها مع المجتمعات الإسلامية، والحاجة لمثله قائمة!

وروى لي فضيلة أ.د.زيد بن عبدالكريم الزيد أنه سمع الشيخ عطية بن محمد سالم يقول: يحضّر الشيخ عبدالعزيز خطبته في ذهنه خلال فترة قصيرة تساوي مكوثه في غرفته حتى خروجه إلى المنبر، ونُقل عن وزير المواصلات الأسبق الأستاذ الأديب محمد عمر توفيق أن صلاة الشيخ في التراويح دقيقة يمكن ضبط الساعة عليها، ولاحظ آخرون أن مواعيد إقامة الصلاة عنده لا تتأخر دون أن ينبهه أحد.

وله في القضاء فراسة إياس، إذ صوّب النظر غير مرة لشاهد حتى أصابت سهام عينيه قلب شاهد الزور فانخلع من الرعب وامتنع عن الشهادة الباطلة قائلًا “فكني من عيونك”، وفحص صدقية الشهود ببصيرة غير مرة فاتضح من تغيير ملابس أطراف القضية أن الشهود لا يعرفون المدعي من المدعى عليه! واستغرب من استعجال رجل في طلب القصاص من قاتل ابن أخيه وبعد تثبت استبان أن للقتيل زوجة وطفل وهم أولياء الدم.

بينما استطاع بحذق تمييز القضايا الكيدية، وسأل الشهود عن شؤونهم فلم يعرفوا الجواب عن تاريخ ميلاد أو زواج؛ فاستنكر عليهم معرفة أحداث بعيدة لا تهمهم وعجزهم عن تذكر ما يخصهم حتى اعترفوا بأن شهادتهم مدفوعة الثمن! ولم يثق بمن جاء من مكة إلى المدينة ليعقد زواج ابنته حتى اكتشف أن الفتاة في عصمة رجل آخر فأعادهم إلى مكة مخفورين، وحضر جلسات قضائه وفود فبهر أداؤه القضائي رئيس محكمة دمشق حتى قال: ماكنا نظن أن القضاء الشرعي بهذه المكانة دقة واستقصاء ونقاشًا، وخلب الشيخ ألبابهم ببراعته في استخراج الخبايا القضائية.

وتكررت لديه قضايا عقوق الأبناء وهو أمر لا يُحتمل ديانة ومروءة وفطرة؛ فأمر الحراس بتأديب العاق حتى يؤوب لرشده ويقلع عن غيه، وكم من مرة ومرة أصابت سياطهم مكمن البلاء فاستقام شأن الابن مع أبويه بعد أن تجاوز معهما حرفي “أُف” إلى شنيع الفعل أو مستهجن القول، وكم في قوة الحاكم من رد الأمور إلى نصابها، وإقامة اعوجاج من لم تصلحه الكلمة والعظة.

ولعنايته بالأعمال التي يشرف عليها أو تأخذ حيزًا من اهتمامه ساهم بحماسة في عقد ندوة لرؤساء المحاكم وقدم فيها مادة علمية محكمة وعملية سديدة وهو منهج رشيد لتبادل الخبرات والعلوم، وشارك في برامج تدريبية للقضاة، وتابع مع الملك فهد تشييد مجمع فريد للمحاكم الشرعية على طراز لم يُسبق في المملكة ثمّ تأثيثه كاملًا، ولاحظ من حوله سعادته البالغة بهذا المنجز.

أيضًا يظهر لدى سماحته اهتمام عميق بتماسك الأسرة المسلمة، وهو أحد همومه في القضاء والخطابة وإصلاح ذات البين وضمن برامجه الإعلامية التي سبق إليها كثيرًا من المشايخ، واستبان ذلك في الأبعاد التربوية لخطبه، وتخصيصه الوقت والمكان لإصلاح الخلافات الأسرية بسرية، وإلزامه الزوج المطلق بتسليم الأطفال الصغار لأمهم ما داموا في سن الحضانة، وحين تُعرض عليه قضايا فيها علاقات غير شرعية بين رجل وامرأة ينهيها بالزواج قدر استطاعته، وله اجتهاد في إلحاق نسب الأطفال بأبيهم كما روى الشيخ الفقيه القاضي عطية سالم.

وبعد أن طلبت فتاة الطلاق من زوجها عرف أن السبب يعود لتأثير أبويها مع أنها تحب زوجها وهو يحبها، فزجر الأبوين وتوعدهما إن عادا لصنيعهما السفيه بالعقاب والتأديب، ثمّ أرجع الزوجين لبعضهما، وأمر الزوج بالتواصل معه إن نغص الأبوان عليهما، فسارت حياتهما هنية محمية واستمر الزواج ولهما الآن أولاد وأحفاد، وكم في حكمة القاضي من تقليل لوقائع الطلاق التي تزيد بنسب مخيفة، ومن سياسته حين تستشيره امرأة أن يمنعها من ذكر اسمها واسم عائلتها سترًا عليهم.

هذا مختصر لحياة رجل ينطق باسم المدينة وتنطق باسمه، قد وطن نفسه على الجلوس للناس قاضيًا ومصلحًا ومربيًا وإمامًا وشفيعًا، وهو مستخلص من ثلاثة كتب أوسعها وأهمها كتاب عنوانه: الشيخ عبدالعزيز بن صالح: سيرة عطرة ومسيرة خيرة مباركة، تأليف: معالي أ.د.ناصر بن عبدالله بن عثمان الصالح، وتقديم الأمير نايف، والثاني بعنوان: سيرة حياة وذكريات تأليف الشيخ عبدالرحمن بن سليمان الحصين، وعنوان الثالث: معالي الشيخ عبدالعزيز بن صالح آل صالح إمام المسجد النبوي كما عرفته تأليف معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي.

ومن اللطائف أني زرت قبل شهور أحد طلاب العلم في بيته على إثر عارض ألمّ به، فقال لي: لم لا تكتب عن العلماء فهم أولى من غيرهم؟ فسألته مثل من؟ فقال من فوره: الشيخ ابن صالح! ويشاء الله في سياق طويل أن أكتب عنه، وتبقى سير العلماء والمشايخ والقضاة والدعاة والمؤثرين عمومًا دينًا عليهم أو على من عرف عنهم ما يمكن أن يشاع فينفع، وكم نحن بحاجة لإبقاء السير الحسنة فينا كي تُقتدى، ونعرف فضائل أوائلنا فلا نثلمها في حاضر أو مستقبل.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الاثنين 24 من شهرِ الله المحرم عام 1441

23 من شهر سبتمبر عام 2019م 

Please follow and like us:

5 Comments

  1. أخي الفاضل الأستاذ أحمد بن عبدالمحسن العساف

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    ماشاء الله تبارك الله استطعتم استيعاب و استقصاء مآثر وصفات وسجايا ومناقب سماحة العم رحمه الله في أسلوب ممتع وشيق وجذاب وفي صفحات قليلة فشكرًا على تسليط الضوء على من خدم المسجد النبوي الشريف إمامًا وخطيبًا ومشرفًا ومدرسًا وداعية ومن تقلد قضاء منطقة المدينة المنورة لما يقرب من نصف قرن وآمل متابعة تسليط الأضواء على أمثاله من العلماء الذين خدموا دينهم ووطنهم ومجتمعهم وأمتهم حتى نستمتع وننعم بقراءة سيرهم العطرة وتكون نبراسًا وقدوة للأجيال من بعدهم. شكر الله جهدكم وألبسكم الصحة والعافية

    أخوكم
    أ.د. ناصر بن عبد الله الصالح

  2. رحم الله الشيخ ابن صالح واسكنه فسيح جناته . سيرة عطره. يقتدى بها كثر الله من امثاله . وحفظ الله بلاد الحرمين حكاما وشعبا وكل المقيمين المخلصين. وادام عليه نعمة الامن والسلام والرخاء قبلة جميع المسلمين امين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)