سير وأعلام لغة وأدب

الأدب والدولة!

الأدب والدولة!

الارتباط بين الأدب والبيان والشأن العام والمناصب الرفيعة ارتباط قديم، ولا يختص بحضارة دون أخرى، وقد حفل التاريخ القديم والمعاصر بنماذج كثيرة  من هذا القبيل تعز على الحصر. ومن أجلّ الأمثلة المبينة عن هذه العلاقة أن أعظم شفاعة مقبولة في الدنيا كانت بسبب البيان والفصاحة حينما طلب موسى الكليم -عليه الصلاة والسلام- من ربه العليم -سبحانه- أن يجعل أخاه هارون -عليه الصلاة والسلام- معه نبيًا ووزيرًا؛ لأنه أفصح لسانًا منه. ومقام النبوة هو أرفع المقامات الدنيوية، وقد ناله هارون بهذه الميزة، فغير هذا المقام من باب أولى.

ومن المحفوظ أن أحد أعظم شعراء العربية ملك ابن ملك، وقد ابتدأ الشعر به وهو امرؤ القيس، وختم بملك آخر هو أبو فراس الحمداني كما قال بعض سابقينا. وفي تاريخ دولة بني العباس تولى الخلافة الشاعر ابن المعتز، وهو حفيد للخليفة المعتصم، ولم تطل خلافته لأزيد من يوم بعد أن قُتل قتلة فريدة شنيعة. والأمثلة من التاريخ على ذلكم الارتباط لا ترهق الباحث، ومن نظر في معجم الأدباء لياقوت فسوف تعبر به مناصب الأدباء بين آونة وأخرى، ومثله في أي مرجع عن أعيان الأندلس، ومن رجع لكتاب أمراء البيان لمحمد كرد علي فسيجد أن جلّ الكتاب العشرة فيه من الوزراء. إن الأدب هو أحد المنصبين كما قيل سابقًا.

ثمّ إن أيّ مراجعة يسيرة لأسماء الدبلوماسيين العرب المعاصرين سيبرز فيهم الزركلي، وعمر أبو ريشة، وعبدالوهاب التازي، وعمر الأميري، وسامي الدروبي، وعبدالوهاب عزام، وعبدالله المعلمي، وتركي الدخيل، وغيرهم من الكتّاب والشعراء، علمًا أن حكومة يوغسلافيا كرمت الدروبي بعد نهاية عمله بوسام ليس لأنه سفير، وإنما لأنه كاتب وأديب كما قال”تيتو” وهو يقلده. ومن الملاحظ ارتباط الكتابة مع منصب وزارة الخارجية على صعوبتها؛ فخليجيًا نتذكر راشد النعيمي وزير خارجية الإمارات ومؤلف أول رواية إماراتية، وعربيًا نقرأ لوزير خارجية ليبيا عبدالرحمن شلقم، ولوزير خارجية السودان منصور خالد، ولوزير خارجية الجزائر أحمد طالب الإبراهيمي، وإسلاميًا لوزير خارجية إيران جواد ظريف، وعالميًا لهنري كيسنجر أشهر وزير خارجية أمريكي.

كما أن الواقع مماثل لدى الأمم الأخرى، فالناس يعرفون أن “تشرشل” هو وزير الحرب ورئيس وزراء بريطانيا التي كانت عظمى، لكن المفاجأة أنه نال بعد مغادرة المنصب جائزة نوبل في الأدب! وحملت كراسي الرئاسة في أوروبا الشرقية عددًا من الأدباء، مثل “فاتسلاف هافيل” أول رئيس منتخب لجمهورية التشيك بعد انفصالها عن تشيكوسلوفاكيا التي كان هذا الكاتب المسرحي آخر رئيس لها، ومثله الكاتب”أرباد غوننتس” الذي غدا أول رئيس منتخب في المجر. وفي إفريقيا يظهر لنا “ليوبولد سنجور” أول رئيس للسنغال، وهو من أدباء القارة السمراء، ومن الطبيعي أنه لا يمكن نسيان الأدباء الأكثر أصالة مثل زعيم جنواب إفريقيا “مانديلا” أو الكاتب المناضل للاحتلال الثقافي في كينيا “نغوجي وا ثيونغو”، ولا نغفل عن زعماء حقوق الأفارقة الأمريكان، وكلهم طغت عليهم سمة الكتابة والأدب والخطابة وإن خاضوا في السياسة وعوالمها.

وللأدب تداخل عظيم مع شؤون كثيرة، ولذلك فحين ابتعدت جلّ دول العالم عن الاتحاد السوفيتي في غالب أطواره استطاعت موسكو أن تتواصل مع شعوب الأرض بالرواية الروسية العابرة للحدود على متن أقلام كتّاب كبار مثل “ديستوفيسكي”، و”تشيخوف” و”تولستوي”. ومع ما تعانيه القارة اللاتينية من مشكلات وسطوة أمريكية، إلّا أن الأدب اللاتيني تجاوز الانحطاط السياسي بواسطة إبداعات كتّاب وشعراء عظام مثل “بورخيس” و “ماركيز” و “مانغويل” وغيرهم. ولمنظمة اليونسكو قيمة دولية عظمى، فهي بوابة عالمية للثقافة والأدب، وقد ترشح لرئاستها عربيًا عدة أسماء منهم وزراء مشاهير مثل القصيبي، وفاروق حسني، وحمد الكواري، وغيرهم، ولأسباب بعضها سياسية لم يظفر أحد منهم بالمنصب!

هذا مع العلم أن الأدب مؤثر جدًا في اختيار رجالات البلاط منذ القدم، ولذلك اشتهر تسمية الوزير بالكاتب في الدول المغاربية، وقلّما تخلو قوائم أسماء المستشارين والوزراء في الدول من كتّاب وشعراء، سواء للعمل الرسمي، أو للمنادمة مثلما نلحظ في سيرة الشيخ الأديب عبدالله العجيري الذي رافق الملك عبدالعزيز في رحلاته الملكية للحجاز، وبعضها رحلات طويلة تدوم لأيام وليالي، وكان العجيري يحدث الملك وجلاسه كل ليلة بحديث لايعيده في قابل، مما بهر سامعيه الذين نقلوا لنا حافظته القوية كالشيخ يوسف ياسين، ومثله نديم ملك المغرب العلامة أحمد شوقي بنبين رئيس الخزانة الملكية في الرباط. وفي استقبالات الملك عبدالله لضيوف الجنادرية التقط المصورون لحظة استبقاء الملك للشاعر الجواهري؛ ليكون مجاورًا له في الجلوس، وعندما يتحدث المراقبون عن المزايا الكثيرة للملك سلمان، سيبحرون في صِلاته العميقة بالثقافة والأدب والتاريخ وأهلها.

بالمقابل أغضب الأدب عدة زعماء على آخرين، فكم من كاتب أو شاعر هرب خوفًا على نفسه، أو لقي حتفه بسبب موهبته، ولايخفاكم أن طرفة بن العبد العربي في الأولين، و”لوركا” الإسباني في الآخرين كانا ممن قتلتهم ألسنتهم وأقلامهم، وهما مثالان على جملة من ضحايا الأدب. وبسبب اشتهار أشعار المتنبي ازداد حقد الوزير ابن العميد على أبي الطيب، وارتفع حنق عضد الدولة على ابن الأنباري عقب أن رثى الوزير ابن بقية بقصيدة ذائعة الصيت حتى وصفت بأنها أجمل مرثية قيلت في مصلوب، ولم يُسمع أحسن منها، وبعد أن عاد إلى الحاكم رشده تمنى لو كان هو المصلوب المرثي! بينما أنقذ الله بالأدب عدة أناس من بطش الجبابرة مثل الحجاج وغيره، وهذا مما يوازن من آثار الأدب فمرة يكون سبب نجاة، ومرة يصير طريقًا للهلكة.

ولقيمة الأدب حرص سيف الدولة على أن يكون المتنبي جليسه، ووافق على شروطه القاسية معانيها على ذوي السلطان، وعرضت الدولة العثمانية على بعض الكتّاب المناصب شريطة أن يتركوا الكتابة فرفضوا مثلما حدث مع أمير البيان شكيب أرسلان، ونزل نابليون الثالث من عرشه ليكرم الروائي “فيكتور هوجو” مخلفًا وراءه وزير خارجيته دون أي اهتمام به. ومن طريف ما يروى أن رئيس مصر الأسبق حسني مبارك يحرص في رحلاته الخارجية على اصطحاب وزيره بطرس غالي لأنه حلو الأحدوثة خلافًا لوزير خارجية مصر الرزين جدًا، مع أنه أولى بعضوية الوفود الرئاسية الزائرة؛ بيد أن رئيس بلاده يكلّفه بمهمة كي لا يكون رفيقًا لهم في الرحلة!

أما مجلس الوزراء السعودي فقد ضمّ عددًا من الكتّاب والشعراء والمؤلفين يتجاوز الستين أي الثلث تقريبًا من عدد أعضاء المجلس حتى الآن، وصبغة الأدب ظاهرة في جمع منهم إضافة لكونها متوافرة عند آخرين ممن لم ينشطوا للتأليف والنشر حسبما بلغنا، ومن تابع بعض الحوارات معهم، أو قرأ عن بعض المواقف، أو شاهد كلماتهم الملقاة، أيقن بهذه الحقيقة، ففيهم من بهر الآخرين، ومنهم من ألقى شعره بحضرة ملكية مهيبة.

لكن إذا أردنا حصر الذين التصقوا بالأدب والتصق الأدب بهم عيانًا بلا مواربة من الوزراء، فسوف نرى أنهم بضعة عشر وزيرًا، أغلبهم شغلوا وزارات التعليم والإعلام والحج والصحة والمواصلات، وأولهم في التوزير الأمير الشاعر عبدالله الفيصل، وله دواوين شعر، وقصائد مغناة معروفة، وآخرهم في العضوية المجلسية -دون احتساب الوزراء الحاليين- الأمير الشاعر خالد الفيصل صاحب الدواوين والأمسيات والقصائد الكثيرة التى ترنم بها المطربون المشاهير، والملاحظ هنا أن والدهما الملك فيصل شاعر صاحب مشاركة في هذ الميدان، بيد أن دخوله الباكر في السياسة صرفه عن التعمق في هذا الباب.

وللوزراء الأدباء أوليات وفرائد، منها أن أول كتاب أدبي مطبوع في العهد السعودي كان من تأليف أحدهم،   والشيء بالشيء يُذكر؛ إذ تحفظ المكتبة السعودية والعربية لكل واحد من الوزراء الأدباء في السعودية كتابًا أو أكثر على اختلاف صنوفها الأدبية، علمًا أنه سبق لي الكتابة بتفصيل عن وزرائنا الأدباء، مثلما فعلت عن الوزراء القانونيين، والوزراء المشايخ، والوزراء الأطباء، والمهندسين من الوزراء، ومن أراد التفصيل فيمكنه الرجوع إليها.

وظهرت سمة الأدب في بعض وزراء الصحة حتى اشتهر وزير صحة قديم بالكتابة الساخرة، ولا عجب أن يعود الأدب على بعضهم بآثاره الموجعة أو المحرجة. ومن اللطيف أن أحد أشهر الوزراء ارتبطت علاقته بالوزارة ذهابًا وإيابًا مع القصائد، وودع شاعر منهم الحياة بقصيدة الغروب بعد أن ألقى أمسية شعرية سباقة في اليونسكو. وامتاز وزراء الحج بعلو الكعب في الثقافة والفكر والأدب، وهذا ملمح دقيق وحصيف؛ لأنهم يقابلون وفودًا من دول مختلفة، وفي هاتيك الوفود علماء وأدباء وكتّاب.

وقد غلبت الصنعة الأدبية على وزراء الأعلام حتى لو كانت تخصصاتهم الأصلية في الجيولوجيا أو الكيمياء؛ ولا غرو فحينما أراد الملك فيصل إنشاء وزارة للإعلام انتقى لها الشيخ جميل الحجيلان وزيرًا، وكان الفيصل يتابع بإعجاب الحجيلان وهو يكتب للإذاعة تعليقاته، ويلقيها بنفسه، ثمّ ازدادت ثقة الملك وقناعته بملكات الشاب جميل الحجيلان وهو سفير في الكويت، حيث اعتاد السفير بحكم منصبه وعمله على إرسال تقارير دورية محكمة لمرجعه الرسمي الأمير فيصل وهو وزير للخاجية آنذاك ورئيس لمجلس الوزراء، فلمح فيها الملك فيصل وهو الفطن الذكي دلالة واضحة على وفور عقل كاتبها، ودقة ملاحظته، ورقي ذوقه، مما زاد من إعجابه بمهارات في المتابعة والتحليل والكتابة والجرأة.

تبقى الإشارة إلى سؤال قد يرد وخلاصته: ما فائدة الأدب في الوزراء؟ الجواب باختصار أن كثرة المثقفين في طواقم الحكومة مما يفرح به الإنسان؛ لأنه يشير للسمو والرقي فيها، إضافة إلى أن الوزير الأديب هو في الغالب مفكر له عناية بالشأن العام مما يتجاوز حدود وزارته، وسيكون له رأي فيما هو أبعد من العمل الوتيري المتخصص والمحصور بمسؤولياته اليومية، ووجود من هذه صفته بالقرب من مصانع القرار يزيد في متانة الأعمال ورشادها، وقد تحدث الجَهشياري عن شيء من هذه المعاني النفيسة في كتابه القديم “الوزراء والكتاب”، وتبرز هذه الخصيصة في عدد غير يسير من وزراء الدولة بدون حقائب لما لهم من أهمية وتأثير.

كما أن الخلود يقترن بالأدب أكثر من اقترانه بالسياسة، مثلما كتب الرئيس الفرنسي الأسبق “شيراك”: نحن رؤساء الجمهوريات الفرنسية عابرون زائلون، على عكس الكتّاب والشعراء والمفكرين الكبار، فبعد عشرين سنة لن يذكرنا أحد، ما عدا “ديغول”؛ لأنه كاتب كبير، وله أسلوبه الفريد. ويردف”شيراك” قائلًا: أسألكم: من يعرف اسم ملك فرنسا في عهد “شارل بودلير”؟ أو رئيس جمهورية فرنسا في عهد “فيكتور هيغو”؟ وفي ثقافتنا يمكن أن نسأل: من سيعرف سيف الدولة أو كافور الإخشيدي لولا المتنبي؟ وهل ستنال معركة عمورية الشهرة لولا قصيدة أبي تمام؟

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 21 من شهرِ شوال عام 1445

30 من شهر إبريل عام 2024م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. مقال رائع، كالعادة.
    استفسار دكتورنا المحترم: لماذا اخترت عبد الرحمن شلقم مثالا لرجل الدولة الأديب، فعندنا _مثلا في ليبيا _ من هو أشهر منه، الأديب البارع علي مصطفى المصراتي الملقب بعقاد ليبيا، رجل مؤرخ وأديب وسياسي مناضل، كان عضوا بارزا في البرلمان الليبي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)