سير وأعلام عرض كتاب

حسن آل الشيخ ومعالي المعاني!

ربما يكون معالي الشيخ حسن بن عبدالله بن حسن آل الشيخ (1352-1407) من أكثر الشخصيات المحلية الراحلة التي يتنامى الثناء عليها، ويتزايد الإخبار عنها بخير يخلو من المآخذ، ومع أن الشيخ الوزير الوقور لم يخض في شؤون تجلب الشعبية، ولم تظهر صورته بإفراط، أو تتقصى أخباره يوميًا، إلّا أنه لم يغب عن الذاكرة المجتمعية حتى بعد مضي ثلاثة وثلاثين عامًا على رحيله المفاجئ.

أصبح وزيرًا للمعارف عام (1381) خلفًا لأخيه معالي الشيخ عبدالعزيز، وبالتالي فهو ثالث وزير معارف، وأصغر الوزراء سنًا من غير الأمراء في تاريخ مجلس الوزراء، وظل في المعارف أربعة عشر عامًا، وجمع معها الصحة بالتكليف أربعة أعوام وما أثقلهما من حقيبتين تدلفان إلى كل بيت، وبعد ذلك أصبح أول وزير لوزارة التعليم العالي المنشأة حديثًا عام (1395)، ومن الموافقات أنه نال شهادته الجامعية من كلية الشريعة بمكة وهي أول مؤسسة سعودية في التعليم الجامعي. كما ترأس مجلس دارة الملك عبدالعزيز، والندوة العالمية للشباب الإسلامي، وأشرف على المجلة العربية بعد أن وقف خلف إصدارها، وكان موضع ثقة أربعة ملوك حتى روي عن ثري كبير قوله: أدفع نصف ثروتي على أن أعرف سر محبة الملك فيصل للشيخ حسن!

ثمّ ودع الحياة بعد أن توضأ استعدادًا لصلاة المغرب وهو ينهي أعماله في مكتبه بمنزله، ومع أنه ارتحل عن حياة الناس إلّا أنه بقي في ذاكرة من عاصره وعرفه أو تسامع به، حتى غدا فينا ذكرى عطرة نتداولها، وحنانًا نأوي إليه، وقدوة نقتفي خطاها، وسيرة باقية في الأجيال، ومن المأثور عنه كثرة دعائه بأن يجعل الله ذكره طيبًا بعد مماته أسوة بدعاء الخليل إبراهيم عليه السلام.

تقوم حياة الشيخ على ركائز هي نصرة دينه، وحماية معتقده وتوجيه أخلاق أمته نحو المكارم، والإخلاص لوطنه ومواطنيه، والاجتهاد في أيّ عمل يؤديه، ولأجل ذلك لم يتأخر لديه شيء، ولم يعرقل فتح المدارس حتى في القرى النائية، وساند افتتاح مدارس محو الأمية من جهة، وحركة الابتعاث من جهة أخرى؛ فكأنه أمسك بالتعليم من أطرافه، ثمّ سخر جهوده العلمية والعملية لتحقيق هذه المرتكزات، وحفظت عنه أعمال وكلمات خالدة في هذه المجالات.

ويبدو لي أن الخصيصة الأبرز في شخصيته هي حبه للناس مع خدمتهم بسماحة نفس، فقلما يمر عليه يوم دون شفاعة، وزار مريضًا في لندن يعالج على حسابه وهما لا يعرفان بعضهما، فاستصدر من الملك خالد أمرًا بعلاجه على نفقة الدولة، وأتاه شاب حديث التخرج في الجامعة دون سابق معرفة يطلب ابتعاثه، فلبى طلبه لما آنس منه الجدية مع شح موارد الدولة آنذاك بسبب انخفاض سعر النفط، ودخل عليه الأستاذ الكاتب عبدالله الناصر بقائمة تشمل ثلاثمئة وخمسين دارسًا على حسابهم في لندن؛ فضمهم إلى البعثة بعد أن استعرض أسماءهم ليتأكد من أن القائمة ليست ذات قاسم مشترك ربما.

أما أعجب شفاعة فكانت لرجل طلب نقل إحدى محارمه إلى مدرسة قريبة من منطقتهم ليرتاحوا من عناء الطريق الطويل، فسطّر بخطه الجميل كتاب شفاعة لا يُرد مثله، وهو لا يعرف أصحاب الطلب البتة، ووصلت الشفاعة لرئيس تعليم البنات بعد يوم من وفاة الشافع فأمضاها إكرامًا له ورجاء أن يلحقه ثوابها، ولا يضيع العرف عند الله والناس. وقال طبيب عيون: دخلت على مجلسه وأنا يتيم كي يبتعثني، فهب لذلك؛ وكان معاليه الوحيد الذي انتصب قائمًا للسلام عليّ خلافًا للبقية من لابسي البشوت الذين مدوا أيديهم لي بتثاقل وهم جلوس!

كما احتفى معاليه بالكلمة فكان لا يقرأ إلّا النافع، ويهدي من الكتب المفيد، وإذا نطق فبدرر ثمينة مختصرة، ويكتب بأدب سلس دونما حواش زائدة لا قيمة لها، ولذا امتلك لغة الأدباء، وفهم العلماء، ومنطق البلغاء، ودقة القضاة، فلم يسرف في لفظ، أو يقصّر عن بيان وتبيين، واستحق وصف الأديب عبدالعزيز الرفاعي له بأنه يكتب مثل ما يتحدث فلا تدري أيهما أبرع: الأديب أم الخطيب؟ وهو الذي اختار قول الله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيد} شعارًا لمنظمة إذاعات الدول الإسلامية.

ومن فضائله ديمومة التواصل مع الآخرين، فرسالة فيها ثناء، وأخرى تحوي تشجيعًا أو حثًا، وثالثة مع كتاب، ورابعة ذات شكر، وخامسة فريدة أرسلها لموظف صغير في المجلة العربية التي يشرف عليها، وكان رئيس تحريرها الأستاذ حمد القاضي قد طلب موافقة الوزير على إنهاء عقد ذلكم الموظف بسبب تكاسله، لكنّ الوزير طلب تأجيل البت، وكتب للموظف نصيحة لطيفة، فتغيرت حاله إلى نقيض إهماله السابق بسبب رسالة الشيخ.

بينما أخبرني معالي الأستاذ عبدالعزيز الزبن أن سائقًا استوقفه عصر يوم قائظ وقال له: سيارتنا تعطلت، فهل يمكن أن توصل الشيخ؟ فوافقت ولما ركب معي إذا به الشيخ حسن، وكانت صوره في الصحف مهيبة وربما تجفِل من لا يعرفه، فوجدت إنسانًا رقيقًا طيب الكلمة، كثير الدعاء لي، ويردد الاعتذار على تأخيري، ولم ينقطع لسانه من الشكر والدعاء والاعتذار حتى نزل عند فندق اليمامة للمشاركة في حفل يرعاه الملك فيصل، فعظم بعد ذلكم اللقاء في عيني، وأحببت سماحته ولطفه وكريم أخلاقه.

ومن الموافقات ما قرأته في سيرة معالي الوزير شبكشي أنه حينما عاد إلى أرض الوطن، أرسله الوزير الشّيخ حسن آل الشّيخ للتّدريب العملي المكثف في ألمانيا نصحًا له وللدولة، وأورد معالي الوزير الرشيد في سيرته أن الشيخ حسن لاحظ نشاطه في أحد المؤتمرات؛ فكتب له رسالة فيها إشادة به وافتخار بدأبه، وبعد عقود خلف الرجلان الوزير الراحل في وزارتي التعليم والصحة!

كما قرأت في سيرة أ.د.فالح الفالح مواقف عظيمة لمعاليه سواء في الانتصار للفالح ضد بعض من رفض تعيينه أستاذًا في الكلية لأنه درس في ألمانيا، أو في تشجيعه على ابتعاث الأطباء لكندا، وفي مساندته للطلاب المبتعثين الذين اقترنوا بألمانيات ورفضه إيقاف مخصصاتهم أو قطع بعثتهم، وأكبرها وقوفه أمام محاولات إيقاف المبتعثين العائدين في المطار، وسوقهم للتحقيق والمساءلة وربما الاعتقال! وشهد د.محمد المفرح في سيرته على مساندة الشيخ للمبتعثين، وموافقته على تحمل الدولة تكاليف دراستهم الإنجليزية لمدة ستة شهور بعد فراغهم من الدراسة في ألمانيا.

وإذا أردنا التقاط صورة عن شخصيته من عارفيه، سنجد أنه يعد التعليم خط الدفاع الأول للأمة كما يقول معالي د.محمود سفر، ولا يعرف كلمة “لا” إلّا في مواضعها حسب وصف معالي د.حمود البدر، ويملك حسًا أدبيًا مرهفًا برأي معالي الوزير د.غازي القصيبي، ولا يحسن قول كلمة “لا” حتى لو أراد أن يقولها كما ينقل د.زهير السباعي عن والده الأديب أحمد السباعي.

وبعد أن تدخل عليه حاملًا هموم الدنيا تخرج منه وبين يديك أمل مشرق كما يخبرنا معالي د.راشد الراجح، وعرفه الأديب محمد حسين زيدان شابًا بوقار شيخ، وشيخًا بعزمة الشباب، ووصف معالي الشيخ عبدالله البسام رئاسته لزملائه في الدراسة بالحكمة واللطف، وإن رجلًا يحمل هذه الخلال لحقيق أن يقول عنه د.عبدالرحمن الشبيلي: إن القصور في تدوين سيرته من جميع جوانبها وبما يرقى إلى قامته، يبقى من سمات تقصيرنا بحقّه!

وله تفاعلات شجاعة تغلب فيها على سطوة المنصب وشهوة الانتصار للنفس وأعمالها، ويتضح ذلك في موقفه من طلب أهل بلدة الربيعية بالقصيم عام (1387) وشفاعة رئيس المحاكم الشيخ صالح الخريصي لهم في مطلبهم الخاص بإعفاء أبنائهم من حصة مادة الرياضة البدنية لحاجة الأهالي لأولادهم في مزارعهم وأعمالهم، فكان توجيه الوزير لمدير التعليم أن يراعي مطلبهم بصورة لبقة وهادئة، ويالها من حكمة بالغة.

أما هو فينهى عن رذيلة البحث في عيوب الآخرين، وينصح من يعاني منها بفحص نفسه قبل جرح غيره؛ فلربما كان له منها نصيب قل أو كثر! ولا يحفل بنقد غير موضوعي تطغى عليه جوانب شخصية أو فئوية، ويجزم بأن الوفاء سمة الرجال العظماء، ويأسف ألّا يجد المرء لذة الضراعة سوى في الشدائد، وعنده أن من لا يقرأ فهو على موعد مع الخواء الروحي.

لأجل ذلك لم يرهف الشيخ الوزير سمعه للوشاة ضد معالي الدكتور أحمد محمد علي واستقطبه بعد مغادرته لمنصبه في إدارة جامعة الملك عبدالعزيز بجدة وأسند إليه وكالة وزارة المعارف، وصنع ذات الشيء مع الدكتور عبدالرحمن الصالح الشبيلي بعد ابتعاده عن وزارة الإعلام على إثر وشاية مغرضة، فعمل أستاذًا في جامعة الملك سعود ثمّ وكيلًا لوزارة التعليم العالي وأمينًا عامًا للمجلس الأعلى للجامعات.

وباعتزاز يقول: إن من يحسد بلادنا لا يستطيع صرف المسلمين عن التوجه إليها في صلاتهم خمس مرات يوميًا، ومن آرائه الثاقبة مقولته: إذا أصبح المرء مصدر إساءة لوطنه أو منطلقًا لتحقيره وإهانته فهو أكبر عبء على الوطن،  لذلك تجاوز الأمور الهامشية -كما يقول معالي الوزير الشيخ جميل الحجيلان– لتحقيق أحد أهدافه في التقريب بين الدولة والمواطن، وتلك من صفات رجل الدولة النزيه الناصح.

ارتسمت هذه الصورة الكريمة لمعاليه بعد أن فرغت من قراءة كتاب عنوانه: الشيخ حسن آل الشيخ: الإنسان الذي لم يرحل، تأليف: حمد بن عبدالله القاضي، صدرت طبعته الثانية عام (1422) في (128) صفحة، ويتكون من إهداء وإضاءة، ثم الراحل إنسانًا، والراحل مسؤولًا، والراحل كاتبًا، ومن عطاءات الفقيد، فدموع على الفقيد، ورسائل وصور للذكرى، فختام.

وللاستزادة سألت، وبحثت في الانترنت عن مقالات منشورة، وشاهدت مقاطع من برنامج الراحل للإعلامي محمد الخميسي المعروض على شاشة روتانا، ورجعت لسير ذاتية سبق لي الاطلاع عليها والكتابة عنها، ومع ذلك لازلت أعتقد أن سيرته وأعماله ومكتبته وأوراقه تحتاج لخدمة أكبر، وعسى أن ينهض بذلك القادرون.

كما آمل أن تدفع الإشارة إلى شخصية معاليه باتجاه حفظ سير تكتنز فضائل كثيرة، وأخبارًا وحكمًا وفوائد، وإعادة تقديمها ونشرها مرئية ومسموعة ومكتوبة، أو ضمن برامج درامية أو وثائقية، حتى تعلي من شأن مجتمعنا، وتقدم الصورة الحقيقة الناصعة عنه، وعن شخصيته، وأحداثه، ورموزه، فالمجتمع العريق يحمي صورته الذهنية لدى الأجيال القادمة، وعند الأمم الأخرى، وعسى أن نفعل.

ahmalassaf@

الرياض- ليلة الأربعاء 06 من شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1440

07 من شهر أغسطس عام 2019م  

Please follow and like us:

12 Comments

  1. رحمه الله رحمة واسعة
    احتفظ بمقالة كتبت في احدى الصحف عن كتابه ” خواطر جريئة ”
    وفيها بعض من اراءه الواردة في الكتاب .

    *عندما تشعر أنك قريب من أهدافك أعمل على أن تكون قريباً من الله.

    *الفائز في معركة الصراع مع الحياة هو غني الأخلاق والمبادئ رغم قسوة واقعه أحياناً وابتعاد أصدقائه عنه.

    *لاأطالبك أن تمتدحني لكني أرفض أن تظلمني .

    *قد تبلغ مالم تحلم به يوماً . لكن تصرفك هو الذي يحكم بأهليتك لما بلغت أو تدينك عن منزلتك.

    * العمل المخلص الصادق يثبت وجوده حتى مع أشد الأعداء قسوة.

    *أخشى أن ينسى الناس الأمانة في معاملتهم والصدق في أقوالهم ثم يتوهموا بقاء علاقتهم بالدين وأهدافه.

    *ليس المهم أن تكون (بارزاً)المهم أن تكون (ناجحاً).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)