سياسة واقتصاد سير وأعلام

أدباء ووزراء

أدباء ووزراء

حفل التاريخ الإداري للدول والحضارات، بوجود الأدباء والشعراء والفلاسفة والمفكرين قريبًا من مراكز صنع القرار، سواءً أكانوا مشاركين في العمل التنفيذي، أم من جملة الجلاس والمستشارين. وهذا ليس بالأمر المستغرب أبدًا، ولا المستعظم كما يظهر على ألسنة بعض الناس بادي الرأي؛ فالنبي الأكرم عليه الصلاة والسلام، لم تخل قائمة رجاله من الصحابة العظماء المحيطين به -رضوان الله عليهم جميعًا- وفيهم شعراء، وخطباء، وكتّاب، وأرباب بيان، وعلماء بالنسب وأيام العرب، وسواهم من ذوي التجلّة والمواهب والمناقب.

لذلك بدا لي أن أقف مع الأدباء في تاريخ مجلس الوزراء السعودي العريق كما فعلت آنفًا مع المشايخ الوزراء، وزاد من عزمي الاستجابة لمقترح من قارئ جواد دامت أمجاده العامرة. وللعلم قبل الشروع في الكتابة، فإن هذه الأسماء الأدبية لا تعني الحصر والقصر أو انتفاء الصفة الأدبية عن غيرهم، وإنما اجتهدت في حصر من أعرف من شعراء وأصحاب قلم أدبي، مستبعدًا أقلام المفكرين والعلماء لأنها تخصصية، دون نفي هذه المحمدة التخصصية عن الأدباء، وبلا حكم على أهل التخصص بالبعد عن الأدب. والشيء بالشيء يذكر؛ فإن ترتيب الصور وأحجامها في صورة المقال من اختيار التطبيق للسبب نفسه المُفصَح عنه في مقال المشايخ الوزراء، ولا يد لي فيها ولا حتى أصبع بلغاته العشر!

عليه يمكن القول إن أول الوزراء الأدباء هو الأمير عبدالله الفيصل وزير الداخلية والصحة، وللأمير علاقة بالشعر عامة والشعر الغنائي بخاصة، ولديه صلة بأكابر الشعراء والفنانين في زمانه، وقد طبع عدة دواوين شعرية، وكتبت عن شعره دراسات ورسائل جامعية، وصدح بأبياته الفصحى والنبطية المنشدون والمطربون. ولا ريب أن يكون الأمير شاعرًا، فالشعر حاضر متوارث في أمشاجه من أسرتيه العريقتين: الأسرة الملكية، وأسرة أخواله آل السديري.

ثمّ أصبح الشيخ محمد سرور الصبان وزيرًا للمالية والاقتصاد الوطني بعد ضم الوزارتين معًا عام (1374=1954م)، وبعد مدة يسيرة قضاها وزير دولة، وكان الشيخ الصبان قبل الوزارة بثلاثين عامًا قد أصدر كتابًا عن الأدب والشعر في الحجاز، وكتابه “أدب الحجاز” أو “صفحة فكرية من أدب الناشئة الحجازية” يُعدُّ أول كتاب أدبي طبع في العهد السعودي حسبما أعلم. وللشيخ الصبان بصيرة أدبية، وحسٌّ لغوي، وأذن تجيد التذوق؛ ولذا فحينما سمع في مجلس الملك عبدالعزيز صوت نديم الملك الأديب عبدالله العجيري، ولاحظ طريقة أدائه، لم يخف إعجابه أو يبخل بإعلانه، بل قال كلمة معناها: هذ التنغيم والتلحين هو طريقة العرب الأوائل في إلقاء الشعر.

وبعد أن خلف الأمير الشاعر خالد الأحمد السديري أخاه عبدالعزيز على وزارة الزراعة والمياه التي غادرها بسبب وفاته المفاجئة قبل إتمام شهر على تعيينه وزيرًا لها عام (1375=1955م)، أصبح السديري من الوزراء الأدباء بما عرف عنه من حب للعربية، وقرض للشعر خاصة ما وثق فيه بعض معارك الملك عبدالعزيز. وقد كان الأمير وجهة للصحفيين الغربيين بسبب معلوماته التاريخية، وقربه من الواقع الحدودي على وجه الخصوص. وللأمير ولع بالعيش في البر، حتى أن بعض أوراقه المهمة قد احترقت في خيمته البرية مع الأسف، ولو بقيت لجاءت في كتاب نافع. وله فضل كبير في استقطاب الشيخ المفسر العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان حينما جاوره في خيمته بالمشاعر، وتحاورا في العلم والشعر واللغة؛ فعمل الأمير على استبقائه في المملكة، وللعلم فالسديري خال للملكين فهد وسلمان وأشقائهما، وخال للأمير الشاعر عبدالله الفيصل.

وفي عام (1380=1960م) أصبح د.حسن نصيف وزيرًا للصحة لمدة قصيرة ما كتب لها الامتداد، وهو من قدماء الأطباء السعوديين، وله كتاب عن ذكرياته، وديوان شعر، ومساجلات شعرية اتسمت بطابعها الساخر، ويمكن لنا أن نلاحظ بأن وزارة الصحة من الوزارات التي حظيت بعدد كبير من الوزراء الأدباء. وقد تلاه في العضوية الوزارية الشيخ عبدالله السعد القبلان وزير المواصلات، الذي ينتمي لبادية تقع بين الحجاز الشريف ونجد الشامخة، وهو صاحب مقالات جمعت في كتب مطبوعة، وربما أن بعضها قد عاد عليه بضرر مؤقت، وقرأت أن الوزير السعد كتب سيرته التي لم تنشر، والله أعلم عن دقة المعلومة، وعن مصير السيرة إن كانت قد ولدت يومًا ما. ومن الوزراء الأدباء الذين دخلوا للمجلس في سنة (1381=1962م) الشيخ حسين عرب، أول وزير للحج والأوقاف، وهو أديب وشاعر، وله ديوان مطبوع في جزأين.

ثمّ نال العضوية المجلسية كذلك الشيخ حسن آل الشيخ وزيرًا للمعارف عام (1381=1962م) فالتعليم العالي سنة (1395=1975م)، وللشيخ حسن كتابات مجتمعية وأدبية، وعناية بالمجلة العربية التي رأس مجلس إدارتها، وكانت هذه المجلة من الأصوات الأدبية السعودية والعربية حينذاك، وقد نشرت عددًا من الأعمال الأدبية لبعض الوزراء الواردة أسماؤهم في هذه القائمة الوزارية المرتبطة بالقلم والأدب، وأصدر بعضهم مقالاته فيها ضمن كتاب مستقل كما فعل القصيبي بكتابيه الذين حملا عنوانين هما: “صوت من الخليج” و “الخليج يتحدث نثرًا وشعرًا”.

كما دخل لعضوية مجلس الوزراء في الحكومة التي كونها ولي العهد الأمير -الملك- فيصل عام (1382=1962م) الأديب الكاتب محمد عمر توفيق وزيرًا للمواصلات، علمًا أنه قد سبق له العمل في ديوان النيابة بالحجاز التي كان الأمير فيصل على رأسها نيابة عن والده الملك المؤسس، ولذلك فلأبي فاروق عمل ديواني يرتبط بعضه بقدراته الكتابية. ومما يشار إليه في هذا الباب أن خبر تعيينه وزيرًا بلغه وهو بعيد في بيروت يستعد لطباعة أحد كتبه، وأن د.غازي القصيبي قد أثنى على الوزير توفيق وأدبه في كتابه حياة في الإدارة، ولتوفيق كتاب تاريخي بلغة أدبية، وبحث تاريخي، ومشاعر إيمانية؛ للدفاع عن الشيخين أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما.

ومع النشأة الأولى لوزارة الإعلام عام (1382=1963م)، اصطفى لها الأمير فيصل -رئيس مجلس الوزراء- الشيخ جميل الحجيلان بعد أن فرز الأمير -الملك- رجاله، وعجم أعوادهم، واستعرض المرشح منهم فردًا فردًا؛ فوجد أن الحجيلان هو الأنسب لهذا المنصب الحساس بناء على تخصصه القانوني، وخبراته الدبلوماسية، ولغاته التي يجيدها وعلى رأسها العربية كتابة وإلقاء، ولسابق بصيرته بالشأن الإعلامي، وجرأته في تبني ما يقتنع به والمضي به دونما التفات. وللشيخ الحجيلان كتابات سياسية وفكرية ممزوجة بطلاء من رونق الأدب الراقي، وهذا الذي مكنّه من تدوين سيرة ذاتية سعودية رفيعة الطراز، غزيرة المحتوى، عجل الله بنشرها كاملة.

وفي عام (1390=1970م) أنيطت مسؤولية وزارة الحج والأوقاف بالشيخ المفكر الأديب حسن كتبي، وهو قامة فكرية وأدبية وعملية، وله تآليف كثيرة منها كتابان عن سيرته الذاتية لم يسعفني الوقت للنظر فيهما مع أهميتهما وندرتهما ورقيًا فيما عرفت. وهو من وزراء قلة صلّوا بالناس في الحرم المكي الأشرف، وقد طال به العمر عقب مغادرته الوزارة، حتى توفي بعد أن تجاوز المئة بعدة سنوات، وكان موضع ثقة الملك فيصل؛ ولذلك رشحه لعضويات وأعمال ضمن مشروع الملك واهتمامه، ووضعه الملك على رأس لجنة أمر بتكوينها لإبداء الرأي في ديوان شعر للدكتور غازي القصيبي ثارت عليه إشكالات عقب صدوره، وكان رأي اللجنة في صالح الديوان وصاحبه، وهذا دليل على مكانته الأدبية.

كذلك شهد عقد التسعينات الهجرية انضمام د.عبدالعزيز الخويطر للعضوية المجلسية عام (1394=1974م) وزيرًا للصحة، وهو أطول الوزراء في سنوات العضوية من غير الأمراء، وأكثر الوزراء تأليفًا، ويكفي أن نعلم بأن مذكرات الخويطر “وسم على أديم الزمن” قد طُبع منها أربعة وأربعون جزءًا، وتوفي قبل إكمالها. وفي عام (1395=1975م) عين في حكومة الدكاترة ثلاثة وزراء أدباء، منهم وزيران زميلان بلديان أديبان، أولهما د.غازي القصيبي الذي كرر التأكيد على أنه شاعر قبل أيّ شيء، وللقصيبي دواوين وسير ذاتية ومقالات مجموعة في كتب، ومن لطيف الموافقات أن القصيبي خرج من المجلس بعد قصيدة المتنبي الأخيرة لسيف الدولة، ثمّ رجع إليه بعد قصيدته في آيات الأخرس. وقبل أن يغادر أبو سهيل الحياة أقام آخر أمسية شعرية له في عام (1430=2009م)، وكانت في مقر اليونسكو بحضور عربي وفرنسي كبير، وهو أول شاعر سعودي يقيم أمسية في اليونسكو، وثاني شاعر عربي بعد الشاعر محمود درويش الذي أقام أمسيته عام (2008م).

والثاني هو د.محمد بن عبداللطيف الملحم أحد فقهاء القانون في بلادنا، وللدكتور الملحم مشاركات أدبية وشعرية، وآراء في أشعار قدامى ومعاصرين، ومن آرائه المنشورة بعض التحفظات على ما كتبه زميله في التخصص والكلية والمجلس د.القصيبي، وفيما روي لي ممن يعلم علم اليقين أن د.محمد الملحم يعكف حاليًا على كتابة سيرة ذاتية واسعة، وآمل ألّا يطول بنا الانتظار.

أما الوزير الثالث ضمن وزارة الدكاترة فهو وزير الإعلام الثالث د.محمد عبده يماني، المتخصص بالجيولوجيا، وصاحب التآليف الأدبية والإيمانية والمجتمعية، والقادم من إدارة جامعة الملك عبدالعزيز بجدة. وللشيخ يماني سيرة ذاتية منشورة لم تكتمل بسبب وفاته المفاجئة، وفي سيرته سرد بصراحة لافتة قصة إعفائه من منصبه الوزاري. وفي عام (1416=1995م) سمي د.محمد الرشيد وزيرًا للمعارف، وهو من الغيورين على اللغة العربية، وذو قلم تربوي فائق في المضمون والشكل، ومقالات الوزير الرشيد شاهدة على هذا التميز، وذلكم البهاء الألِق الظاهرة آدابه الرفيعة.

وفي عام (1430=2009م) أصبح السفير د.عبدالعزيز خوجه وزيرًا للثقافة والإعلام، ومع أن الوزير خوجه من المتخصصين بالكيمياء؛ إلّا أن لقلمه الشعري كيمياء لطيفة على النفوس، ولذا أصدر عدة دواوين، وكتب سيرته الذاتية، وربما أنه يستعد لتدوين سيرته الشعرية كذلك. وآخر وزراء هذه القائمة هو الأمير الشاعر خالد الفيصل الذي اختير وزيرًا للتربية والتعليم عام (1435=2013م)، وللأمير دواوين شعر، وأمسيات كثيف جمهورها، وقصائد مغناة، وسيرة نثرية. ومن لطيف الموافقات أن هذه القائمة بدأت وانتهت بواحد من أبناء الملك فيصل، رحم الله الأموات من المذكورين، وحفظ الأحياء.

أشير في الختام إلى أمرين مهمين، الأول منهما: أن هذا الحصر لا ينفي الصفة الأدبية عن بقية الوزراء الكاتب منهم وغير الكاتب؛ فمثلًا للأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز وزير الداخلية ثم أمير المدينة النبوية مشاركات أدبية وشعرية، ولوزير التجارة الشيخ أحمد جمجوم مشاركات صحفية وأدبية فضلًا عن أعماله القرآنية المباركة، لكني لم أقع على شيء مطبوع له، وبهر وزير الإعلام الشيخ إبراهيم العنقري ضيوفه العرب بلغته الفصيحة وطوله الفارع، لكن ليس له مادة منشورة فيما أعلم، واشتهر عن وزير البترول الشيخ أحمد زكي يماني تفننه في عزف الكلمات، وبراعته في نغمة الأداء، بيد أني لا أعرف له آثارًا أدبية صرفة مطبوعة، وشهد د.القصيبي للدكتور فايز بدر بالقدرة الكتابية والأدبية، والذي يظهر أن ملكاته لم يُكتب لها الذيوع للعموم. وهذا الشيوع الأدبي لا يمكن الإحاطة به، ولا يعني أن الوزراء كانوا في فراغ من شأنهم؛ بيد أن لكل زمن ما يلائمه من تراتيب ومقتضيات.

أما ثاني هذين الأمرين؛ فهو أن الأدب والكتابة لم ينقطعا عن المجلس الموقر في أشخاص أعضائه الحاليين، بيد أن القصور في مستوى البحث والمعرفة لديّ تسبّب في غياب المعلومة، هذا غير أن جلّ الوزراء في هذه السنوات قد شغلوا نهارهم وأكثر ليلهم بالمسؤوليات الجسام في وزاراتهم وأعمالهم الرسمية الأخرى، وصرفوا زهرة العمر، ولب الجهد، لأجل غاية سامية هي تحقيق المستهدفات المنطلقة من رؤية المملكة 2030، وهذه محاور أساسية في عملهم يُتابعون عليها دون تراخ أو توان، وبالتالي فالوقت الذي يتوافر لديهم بعد هذا العمل الشاق بالكاد يكفي للأسرة والراحة؛ وعليه فربما يتراخى ظهور نتاجهم الأدبي إلى حين امتلاكهم الوقت الكافي له، وإلى الزمن الذي تغمض فيه أعينهم براحة تامة، وسكون نابع من الخلو عن أيّ مهمة لا يغفل عنها طالب ولا صاحب.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 02 من شهرِ شعبان عام 1445

12 من شهر فبراير عام 2024م

Please follow and like us:

6 Comments

  1. شكرا لك أخي أحمد على هذا المقال الجميل والشامل ..
    أنت باحث لا يشق لك قلم تعطي لكل موضوع تتناوله الإهتمام والبحث والمعلومة.
    بالنسبة لمعالى الشيخ احمد زكي يماني هناك أكثر من كتاب له أعرف منها كتاب (الإسلام والمرأة) ..
    وهناك كتاب آخر بعنوان: (الشريعة الخالدة) ,
    وكتاب آخر بعنوان: (دار السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في مكة المكرمة).
    عبدالعزيز حسين الصويغ

  2. شكرا لك أخي أحمد على هذا المقال الجميل والشامل ..
    أنت باحث لا يشق لك قلم تعطي لكل موضوع تتناوله الإهتمام والبحث والمعلومة.
    بالنسبة لمعالى الشيخ احمد زكي يماني هناك أكثر من كتاب له أعرف منها كتاب (الإسلام والمرأة) ..
    وهناك كتاب آخر بعنوان: (الشريعة الخالدة) ,
    وكتاب آخر بعنوان: (دار السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها في مكة المكرمة).
    عبدالعزيز حسين الصويغ

    1. شكرا لكم سعادة السفير العزيز الأديب.
      وهذا صحيح، وإنما كنت أعني الكتابة الأدبية الصرفة.
      ولو كتبت عن الوزراء المفكرين فهو منهم بمكان
      لكم الشكر دوما

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)