دعني أعترف لك أولًا -والاعترافات الكتابية المنضبطة فن لذيذ نحتاجه- أن هذا المقال ولد دون كبير استعداد ورصد، لذا فلن يكون مستوعبًا ومحصيًا بدقة، إنما هو مثل قلادة أحاطت بعنق ودلت عليه دون أن تكسوه كله. قصة هذه القلادة سوف تظهر كثيرًا معنا، فتنبه! ولاضير ذلك أن الإشارة الواضحة تغني عن عبارات كثيرة يطول الوقت دون حصر معلوماتها الدقيقة؛ فلقد انبثقت فكرة هذا المقال من جلسة استشارية رباعية شاركنا فيها العصير المستطاب. لي بالمناسبة مع العصير قصص لطيفة سأكتب عنها يومًا بحول المولى.
ثمّ دعني أخبرك أن التطوع، وعمل الخير، والهبة للإحسان، والبدار لصنائع المعروف، هي صفات أساسية في مجتمعنا، وإحدى ركائز عراقته التي يُحمد الرب الكريم عليها. نحن مجتمع مسلم نحفظ نصوص الوحيين الحاثة على المكارم والخيرات ونفهمها. نحن مجتمع عربي رسخت في جذوره أخلاق العرب وشيمهم التي سارت معهم في الصحراء والقرى، وحين الجاهلية وبعد الإسلام، وفي السراء والضراء. نحن مجتمع سعودي عني قادته بالعمل المجتمعي والخيري حتى أن جميع ملوك المملكة وأولياء عهودها لهم مؤسسات ومراكز إغاثية واجتماعية وجوائز وأعمال ومكتبتات ومساجد ومدن صحية ومشروعات جليلة في هذا الباب، وآخرها مؤسسة الملك سلمان غير الربحية. يتوج ذلك كله ما لا يخفى ويستحق الإفراد بالكتابة، ألا وهو القيمة المركزية للعمل التطوعي بمداه الواسع ومعناه الشامل في سيرة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله وأمتع به-.
نحن كذلك مجتمع سخي منفق متفاعل بالمعروف من قبل أمرائه، وعلمائه، وأثريائه، ووجهائه، وأسره، وبيوتاته، وقبائله، ومجتمعاته المهنية. فوق هذا لدينا وزارة تعنى بالتطوع، ومركز وطني خاص بإدارة العمل غير الربحي، وأنظمة تخص العمل التطوعي، ومبادرات مستمرة، ومنصات نشطة دائبة الحراك الطيب. كما أن التطوع في الكم والكيف حاضر في رؤية المملكة (2030) التي استثمرت هذه الخلة المجتمعية الكريمة لتحقيق بعض أهدافها. ومن جميل ما يستشهد به هنا أن وفدًا برلمانيًا زائرًا ذهل حينما استمع إلى السيرة التطوعية لبعض أعضاء مجلس الشورى. الحمدلله أن جمعت بلادنا هذه الشمائل التي قلما تحتشد لبلاد واحدة.
لذلك ليس بغريب لو وجدنا أن غالب الوزراء -إن لم يكن الجميع- لهم إسهام ظاهر أو خفي في عمل تطوعي واحد فما فوقه. أما لماذا نخص الوزراء هنا دون سواهم؛ فلأسباب منها الثناء على الوطن ورجالات الدولة فيه، والتحفيز للخير وفعله، وإبراز القدوة، والإبقاء على الثقة وحسن الظن، وتقليص أي مساحة تسارع إلى النمو فيها ما لا يحسن بنا، ولا يليق بالبلاد وأهلها. يضاف لذلك أن هذا المقال جزء من مشروع تأليفي عن مجلس الوزراء الموقر كتبت فيه الكثير، وفي الجعبة المزيد. إن وجود مساحة للتطوع في برنامج الوزراء لحجة على غيرهم. إن تغازر الفضائل والمناقب في الأكابر لمن موجبات الحمد والشكر.
فمما أذكره -دون حصر كما سلف- أن للوزير الشيخ محمد سرور الصبان تاريخ حافل ومبكر مع العمل التطوعي الأهلي عبر مشاركات أساسية في إنشاء جمعية الإسعاف، ومجالس أهلية، ومكتبات، ورابطة العالم الإسلامي فيما بعد. وللأمير طلال حضور تطوعي لافت تجاوز فيه الداخل المحلي إلى الجوار الإقليمي والمجال الدولي عبر مؤسسات وتمثيل ومساندة. وإن أنسى فلن أتجاوز جهود الوزير الشيخ أحمد جمجوم في إنشاء جمعية تحفيظ القرآن الكريم بجدة ورئاستها، ومثلها أختها الجمعية المكية، هذا غير عنايته بالمصرفية الإسلامية.
كما يلفت النظر أن جميع وزراء “الشؤون الاجتماعية” سواء التصقت بالعمل أو انفصلت عنه، وفي مسمياتها الحديثة مثل التنمية، وفي ارتباطها بالموارد البشرية، قد أسندت لوزراء لهم يد عليّة وجهود سنيّة في العمل الخيري والتطوعي داخل المملكة وخارجها، مثل أعمال البر التي تكفل بها الشيخ ناصر المنقور وأشقاؤه، ومؤازرة الشيخ الشبيلي للجمعيات الإسلامية أينما عمل سفيرًا وممثلًا للسعودية وحكامها، ومثله المآثر العلمية والعملية في هذا المجال للبروفيسور علي النملة، والدكتور يوسف العثيمين، والمؤسسات النافعة التي قام على رأسها د.ماجد القصبي قبل الوزارة وبعدها. هذه أمثلة لا تنفي عن بقية الوزراء مالهم من سابقة ومسابقة وسباق إلى الفضل، وإنما هي قلادة فقط، والعنق -يا قوم- عنق طويل طويل.
ما يقال عن وزراء هذه الوزارة المباركة ووزرائها يمكن تكراره مع أصحاب المعالي والفضيلة وزراء العدل، ووزراء الحج، ووزراء الشؤون الإسلامية. لو تتبع المرء -على سبيل المثال دون قصر- المشاركات التطوعية والخيرية للشيخ القاضي محمد الحركان، والشيخ المفكر حسن كتبي، والشيخ أ.د.عبدالله التركي، والشيخ العالم صالح آل الشيخ، لآمن بما قلت دون أدنى احتمال مغاير، مع ضرورة التأكيد الواضح على مسألة القلادة والعنق؛ حذار الوقوع في حبائل من يلوي أعناق الكلام ليًا ليًا!
ليس هذا فقط؛ بل في الوزراء أسماء تنتمي لعائلات وأسر وبيوت لها جذور راسخة في التطوع وعمل الخير. من أبرز الأمثلة الوزيران من بيت آل زينل، وهما وزيرا تجارة أحدهما في عشر الثمانينات الهجرية، والآخر قبل عقدين تقريبًا، وبينهما قرابة وإن لم يكونا من طبقة زمنية واحدة في مشجر أسرتهما العريقة. من الأمثلة أيضًا وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية الحالي المهندس أحمد الراجحي، ولا يكاد أحد أن ينكر ما لآبائه وأعمامه وأشقائه -وهو معهم- ولأبناء عمه من مؤسسات مانحة، وأوقاف ناجزة، ومحاسن ظاهرة. هذه نماذج تدل على غيرها، ولولا دواعي الاختصار، لطال السرد بما عند أسر الوزراء مثل: فقيه، وأبا الخيل، وآل الشيخ، وشطا، والزامل السليم، وغيرهم، ولا ريب أن تكون الصورة بهذا الجمال؛ فالأسرة الملكية صاحبة أوقاف ومساجد ومبرات ظاهرة ومستترة.
من أسماء العمل الخيري السعودي والعالمي التي لا يمكن تجاوزها الشيخ العميق الزاهد حقًا صالح الحصين، وإن جهوده الخيرية ودراساته فيما يخص الوقف والعمل المجتمعي لجديرة برسالة عملية. منهم كذلك الشيخ أحمد زكي يماني صاحب مؤسسة الفرقان المعنية بالتراث، والدكتور غازي القصيبي خاصة في مسألة العناية بالمعاقين، والشيخ د.محمد عبده يماني في أعمال دعوية وإغاثية وقرآنية، والشيخ حسن آل الشيخ مع الندوة العالمية للشباب الإسلامي، والبروفيسور مدني علاقي في جدة وجازان، والدكتور إبراهيم العساف عبر مشروعات مجتمعية وخيرية في عيون الجواء، والأستاذ إياد مدني ضمن مؤسسات مجتمعية بالمدينة. هاهنا موضع يعاد التذكير فيه بالقلادة، أفعل ذلك وربكم مكرهًا!
ومما لا يفوت الوقوف عنده، أن الشيخ إبراهيم العنقري، وهو خامس وزير للعمل والشؤون الاجتماعية، قد أقام مؤسسة خيرية مانحة تحمل اسمه، وتمول أعمالًا خيرية وتطوعية ومجتمعية في ثرمداء وعموم المملكة، ولا أعلم وزيرًا من غير الأمراء له مؤسسة مانحة تحمل اسمه، ولا أنفي ذلك عن غيره، ولا أستغرب لو وجد بل أفرح ويعمر السرور قلبي. بل إن الشيخ إبراهيم سارع بعد ابتداء العلاقات السعودية مع موسكو إلى استرجاع مسجد كبير قديم تحول إلى إسطبل خيول، وحثّ السفير السعودي آنذاك د.عبدالعزيز خوجه على بذل الجهد لشراء المسجد وإعادة ترميمه على هيئته الأولى فغدا مسجدًا تقام فيه الصلوات ويذكر فيه الله ويعبد. الوزير الشاعر د.خوجه له إسهامات خيرية من أجلّها افتتاح قناتي القرآن والسنة أيام وزارته للإعلام والثقافة.
إن حكومتنا حكومة طموحة. إن مجتمعنا مجتمع نبيل ومبادر. هكذا وصفت رؤية المملكة الدولة حكومة ومجتمعًا. لهذا لم تكن مفاجأة أن يناهز عدد المسجلين في حملة تطوعية أطلقتها وزارة الصحة إبان جائحة كورونا قرابة أربعين ألف ممارس صحي قبل انتهاء اليوم الأول من الحملة. لم تكن المناسبات التطوعية وكثرتها وتكرارها دون انقطاع حدثًا مفاجئًا مثل العمل السنوي الجميل “تطوع بخبرتك”. ليس مفاجئًا أن نسمع ونرى عن التطوع في الصحة، والبيئة، والحج، والإسكان، والتقنية، وفي مناح كثيرة. ليس مفاجئًا أن يشتهر عدة وزراء حاليين بالتركيز على التطوع في أعمالهم ومشروعاتهم وأحاديثهم مثل الوزيرين د.توفيق الربيعة، وم.عبدالله السواحة. لا مناص هنا من الإشارة -على استحياء من القارئ- إلى القلادة اللامعة التي تطوق العنق الرفيع الباسق.
يا أيها الفتى ويا أيتها الفتاة، أيها الموظف الشاب، ويا رائد الأعمال، وأيها الثري الكبير، حقيق بكم أن تخروا لله ساجدين على هذه النعم والمنن. جدير بكم أن تكون خير الشركاء وأبرهم في هذا الباب الكبير وهذا المضمار الواسع. قمين بكم ألّا تبخلوا بفكرة، أو جهد، أو مال، أو أي مشاركة تعزز التطوع في دياركم ومجتمعكم، وتفيد بلادكم وأعمالها. حسن منكم النظرة المتفائلة، والدعاء الصادق، والنصح الرشيد، فهذه بلادنا وبلاد أبنائنا ومن بعدهم من أجيال. هذه الأجيال القادمة سيكون لها أعمال وآمال معقود بالخير نواصيها، تمامًا كما كان الحال مع أوائلهم، الذين نسجوا على منوال سابقيهم، وأولئك آبائي، وهذا مجتمعي العريق، وهذه بلدي المعطاء بكل معنى. إنها بلاد مثل نخيلها مليئة بالنفع والبركات بأصناف شتى تخدم الخلق والبيئة. إنها بلاد يفوح منها المسك الزكي حتى يعم الأرجاء، فلا غرو ولا موضع للعجب؛ ذلك أن إحدى مؤسساتها الخيرية الملكية الكبرى تحمل اسم “مسك”.
الجمعة 06 من شهر جمادى الأولى عام 1446
08 من شهر نوفمبر عام 2024م
5 Comments
جزاك الله خير الجزاء حبيبنا الاستاذ أحمد العساف على رقة ما تكتبه والموضوعية المنتهجة والشمولية
حفظك الله ووفقك ونفتخر جميعا أبناء هذا الوطن بك وبما تسطره أناملك.
تحياتي
مقال مثري ورائق كالعادة😘
ماشاء الله تبارك الرحمن
مقالة متميزة في موضوعها وفي معلوماتها وبسطها .. زادك الله بركة وتوفيقا ودمت مسددا
ماشاء الله تبارك الله
لفتات رائعة
جزاكم الله خيرًا أستاذ أحمد على هذا الجهد البارز في إظهار هذه النماذج الوضيئة من أبناء المجتمع. حقيقةً، حسبنا من القلادة ما أحاط بالعنق، ولا شك هم رواد للعمل التطوعي والمجتمع ذاخر بالكثيرين ممن قد لا نعلمهم 🙏