سير وأعلام

الفهد وروح من القيادة تسري

الفهد وروح من القيادة تسري

اعتلى الملك فهد بن عبدالعزيز (1338-1426) عرش المملكة العربية السعودية في الحادي والعشرين من شهر شعبان عام (1402= يونيو 1982م) بعد أن أمضى سنوات عديدة سابقة على ذلك التاريخ وهو الذي يدير جلّ شؤون المملكة، ويشارك في محافل دولية وإقليمية ومحلية بنشاط ودأب، ويبدو لي أنه أكثر من ترأس جلسات مجلس الوزراء من رؤسائه حتى الآن، فمنذ عام (1387=1967م) وهو يترأس في الغالب جلسات المجلس بالنيابة أو بالأصالة، وهو أول من حمل لقب النائب الثاني، وأول وزير للمعارف، وسادس وزير للداخلية.

امتاز الملك ببعد نظر داخلي ودولي، فمن بعد نظره المحلي عنايته الفائقة بالتعليم؛ فلا يمكن لمجتمع أن ينهض دون تعليم متين، ولا يكتمل الحديث عن زمان ومكان من غير التعريج على الشأن التعليمي فيه، ولا يستطيع باحث الإفادة عن التعليم الحديث في السعودية إلّا مع الإشادة بجهود الوزير الأول للتعليم إن في مراحل ما قبل الجامعة، أو في تأسيس الجامعات وعلى رأسها جامعة الملك سعود؛ إذ كان الفهد يحفز الطلبة في بداية نشأتها، ويحثهم على المصابرة وخدمة وطنهم بالدراسة في هذه الجامعة الوليدة حسب شهادة الوزير الشيخ يماني، ويحمل في ذهنه مصلحتها فيستقطب لها الكفاءات كما فعل مع د.عبدالعزيز الخويطر حينما قابله الأمير فهد مع المبتعثين في بريطانيا، وحفزه ليكون رجل تعليم خشية من أن تجتذبه السفارات والعمل الدبلوماسي مثل آخرين من المؤهلين.

لقد كان التعليم مسألة مصيرية تجري في أمشاج الملك فهد وعقله وقلبه، وتجلب له هذه المسألة المزيد من الانشراح والسرور، ومن رام التأكد من ذلك فليراجع كلمات الملك عن التعليم، ويتابع لقاءاته المسجلة مع طلاب الجامعات، وأذكر منها لقاء مع طلبة جامعة الملك فهد بالظهران، وآخر مع طلبة جامعة الملك عبدالعزيز بجدة، وفيهما تباسط الزعيم مع الطلبة كثيرًا، وأفصح عن أهمية الاستماع لهم، والتجاوب معهم، حتى ضجت القاعتان بالتصفيق، وأضاءت جوانبهما ببسمات الحاضرين الرزينة.

وعندما اقترح د.عبدالرحمن الشبيلي -وكان آنذاك وكيلًا لوزارة التعليم العالي- عقد لقاء مع الملك فهد يدعى إليه الطلبة المبتعثون للخارج؛ وافق الملك من فوره، وقال شهود عيان: لقد سعد الطلاب كثيرًا بهذا اللقاء؛ بيد أن الملك فهد كان الأكثر سرورًا وابتهاجًا به وبمقابلة الطلاب والحوار معهم. وفيما رواه الوزير أ.د.محمد الرشيد أن الملك قرر مساندة جامعة الخليج ماليًا حتى لا تغلق أبوابها، وكلفه بإيصال تلك الرسالة الملكية التي حالت دون نهاية هذه الجامعة.

ومن أرقى أعماله المحلية، وأبعدها أثرًا، وأعمقها معنى، وأكثرها مرجعية، تلك الأنظمة الثلاثة التي صدرت في عهد الملك فهد في شهر شعبان عام 1412= مارس 1992م، وهي النظام الأساسي للحكم الذي يقابل الدستور في البلاد الأخرى، ونظام مجلس الشورى، ونظام المناطق، وعقب ذلك بعامين أصدر الملك تحديثًا نوعيًا لنظام مجلس الوزراء، وأتبعه بتجديد تاريخي في المجلس عقب حله كاملًا وإعادة تكوينه عام (1416=1995م)، وسبق هذا التجديد بعامين بعث مجلس الشورى بهيئة جديدة، بعد تسمية ستين عضوًا لأول دورة فيه عام (1414=1993م). وفي مجال الاقتصاد، والنفط، والصناعة، والصناديق، يبرز عهد الملك فهد إن في التأسيس أو التطوير.

أما على الصعيد الخارجي؛ فقد زاد الملك الحصيف من مكانة بلاده لدى الدول والمنظمات الدولية، وكسب زعماء العالم بمواقف استباقية كي يتعاونوا معه فيما يخدم بلاده وأمته. وسعى الملك إلى إغلاق الملفات الحدودية مع الدول المجاورة، وإلى نزع فتيل الأزمات بين الدول العربية والإسلامية، والإصلاح بين الخصوم والمتقاتلين حتى لو صرفت حكومته لتحقيق ذلك جهود وأوقات وأموال، وأوصى رجاله ألّا يتشددوا مع الدول الإقليمية الصغيرة المجاورة؛ كي لا يتوجس بعض مسؤولي تلك الدول طبقًا لما أشار له د.القصيبي في سيرته، وكانت فلسطين قضية حاضرة في جدول زيارات الملك واستضافاته.

كما عمل الملك فهد على مشروعات عظيمة الأجر، خالدة الذكر، دائمة الأثر، وتزيد من تعلّق المسلمين في بلاده، وحميتهم لها، مثل التوسعة التاريخية الكبرى للحرمين الشريفين، والحرص على تسهيل الوصول إليهما، وافتتاح مجمع الملك فهد لطباعة مصحف المدينة النبوية الذي طبع مئات الملايين من نسخ المصحف الشريف ومن ترجماته، ولا يكاد أن يضاهيه في الجودة والضبط والانتشار أي مشروع آخر حتى الآن. ومن جليل منجزاته مشروعات مكية ومدنية ودولية للإفادة من لحوم الهدي، وبناء المساجد والمراكز والمعاهد والجامعات، حتى ازدانت عواصم عالمية بمباني فخمة المظهر والجوهر بمساندة من الملك فهد وحكومته، وأصبح الثقل الإسلامي السعودي في كفة البلد يرجحها ويقويها، وسببًا لتحقيق المصالح السعودية والإسلامية.

ثمّ وفقه الله لاختيار حصيف في المضمون، والزمان، والمكان، ففي بدايات سنوات حكمه، ومن المدينة النبوية، أعلن الملك فهد عن استبدال لقب “خادم الحرمين الشريفين” بلقب ” صاحب الجلالة المعظم”، فكان أول زعيم في الجزيرة العربية يستخدم لقب الخدمة الشريفة دومًا، وفيه تأكيد على الصلة بالبيت الحرام والمسجد النبوي والمشاعر والمناسك، واجتذاب لأفئدة المسلمين وهم قوة عددية لا يستهان بها، ومن أحقُّ بهذا اللقب من ملك البلاد السعودية الذي يخدم الحرمين عن قرب وليس عن بعد؟!

وللملك فهد طريقة لافتة في اختيار الأعوان في الأعمال والمناصب؛ ويجهد نفسه ومن معه قبل الاختيار والإعلان كما هو دأب ولاة الأمر في المملكة، ومن ذلك أنه قال لأعضاء مجلس الشورى الستين في أول دورة مجلسية: يسألني الناس كيف اخترت وأنا أجيبهم مخبرًا عن كيف احترت! وقد حرص الملك على تدرج ذوي المناصب قبل تسنمهم أعلاها؛ ولو أن يكون التدرج لمدة محدودة مثلما اختار أ.د.أسامة شبكشي وكيلًا ثمّ مديرًا لجامعة الملك عبدالعزيز قبل تعيينه وزيرًا للصحة، ومع إعلان تأليف مجلس الوزراء عام (1416) استقطب له ثلاثة أعضاء من مجلس الشورى، والنماذج في هذا الباب لا تحصر.

لذلك يتمسك الملك القائد بمن يراه أهلًا للمنصب؛ فلم يقبل استقالة الشيخ عبدالرحمن العجلان من رئاسة محاكم القصيم، ولم يوافق على استقالة الوزير د.سليمان السليم من وزارة المالية، مع تكرارهم للطلب، ولولا شفاعة شقيقه الأمير سلطان لما وقع بالموافقة عن غير رغبة أولية منه. وبعد رحيل السفير الكبير الشيخ محمد الحمد الشبيلي طلب الملك إحصاء أي مبالغ مالية في ذمته كي تدفع عاجلًا؛ لأن السفير يجتهد بحكمته لصالح البلاد، ويصرف الأموال لنفعها وعون شعبها والأقربين منها، وقد تكرر هذا الإجراء مع سفراء آخرين.

ومن معرفته برجال الدولة أن جهازًا رقابيًا استشكل إجراء إداريًا من د.عبدالله نصيف وهو مدير لجامعة الملك عبدالعزيز؛ فشرح الملك على كتابهم بما يرفع الملامة ويؤكد الثقة، وحين راجعه د.محمد آل الشيخ وهو وزير للبلديات في أمر أصدره الملك للوزير، لم يستنكف عن إلغاء أمره الأول تماشيًا مع مقتضيات النظام. وفي رحلة برية قصيرة أثبت لمرافقيه أن الشيخ محمد النويصر يعرف متى وكيف وأين يعمل فيما يرتبط بمقام الملك وجدوله، ولأنه يعرف رجاله جيدًا؛ فقد كان ينصت لأحاديثهم في مجلس الوزراء والاجتماعات الأخرى، ويمنح مزيد عناية لما يقوله الوزير د.سليمان السليم لدقة عباراته، وقلة كلامه، وبعده عن التزلف؛ فلا يتشاغل الملك حينذاك بورقة أو حوار مع غيره.

يأخذنا الحديث عن النويصر إلى صفة عملية ظاهرة في الملك فهد؛ فحينما أصبح الملك خالد ملكًا للبلاد عام (1395=1975م)؛ حدّد ولي العهد الأمير فهد لرئيس الديوان الملكي محمد النويصر ماذا يعرض على المقام السامي، ومالا يعرض على أن يتحمل الرئيس المسؤولية عما يترك بما يرضي الله وحسبما تقتضي الأنظمة المرعية. ومن لوازم هذه السمات العملية لدى الملك أنه يحول دون تدخل وزارة في عمل أخرى، وحين يُعرض عليه موضوع واضح مكتمل الأركان يتخذ القرار الحاسم فيه من فوره بلا تردد، ولم تمنع فاجعة رحيل الفيصل المفاجئة من أن يأخذ الأمير فهد بزمام المبادرة عبر عدة إجراءات تطمينية للناس في طول البلاد وعرضها، وهذا من رباطة الجأش، والصبر الصلب.

كذلك تبرز عند الملك فهد عراقة ملكية باسقة، وهي خلة حميدة متوافرة في الأسرة الملكية السعودية والحمدلله، فمن ذلك أن رئيسة الوزراء البريطانية “تاتشر” تعجبت من صمته التام في أول لقاء لها معه عندما زارت المملكة، وفي الاجتماع الثاني وجدت أمامها الرجل المتكلم المفكر الخبير، وحينما استفهمت من مستشاريها عن الفرق بين الاجتماعين قالوا لها: لقد التزم الصمت في اللقاء الأول توقيرًا لأخيه الملك خالد وتقديرًا لحضوره، وفي الاجتماع الثاني انطلق بحكم مسؤوليته عن الإدارة وشؤون البلد التي فوضه الملك عليها.

ومن العراقة الملكية ذلكم التوقير الذي يبديه الملك لكبار الأسرة، ولشيوخ القبائل، وللعلماء خاصة في المحافل المشهودة، بالثناء على نجاحاتهم علانية؛ حتى أنه شكر الشيخ أ.د.عبدالله التركي على جهوده في جامعة الإمام ووزارة الشؤون الإسلامية وسانده فيهما، وسأل الشيخ أ.د.صالح بن حميد سؤال المعجب الجذل: كيف تكتب هذه الخطب؟! وبعدما أعفى د.غازي القصيبي من منصبه هاتفه الملك الأب موحيًا له بأن المهام الرسمية تنتظره، واتصل الملك مرة بمسؤول وسأله: هل عندك أحد من أهل بيتك؟ فأجاب بالنفي، وحينها لامه الملك على أمر ما، وفي منتصف الليل اتصل به مرة ثانية قائلًا: لقد رضيت وزال ما بنفسي عليك، وأردت إخطارك حتى تستطيع أن تنام قرير العين مرتاح البال، وهذا الملمح لعمركم عظيم عظيم؛ فما أراد أبو فيصل إحراج المسؤول أمام أسرته، ولم يتركه مترقبًا على قلق وأرق.

ولا تخل سيرة الملك فهد من مرويات تذكرنا بالخلفاء والأمراء الأقدمين، أو تحتوي على طرفة رائقة؛ فمنها استضافة البدوي في الصحراء له وهو وزير للداخلية وبيات الأمير فهد عنده، وإكرامه لمضيفه بمبلغ مالي جزل، وتسميته لمولود امرأة عاقر نذرت أن يسمي الملك ابنها إذا ولدت؛ فسماه وأكرمه ووالديه بأعطيات وهبات، وهي قصة سمعتها منذ ربع قرن. وقرأت في كتاب لطيف للدكتور عبدالله دحلان حكاية خلاصتها أنه شفع لدى الأمير فهد وهو وزير الداخلية كي يصدر أمر زواج من الخارج لأحد المواطنين؛ فرفض الأمير لأن بنات البلد أحق بشبابه؛ لكنه حينما رأى طالب الزواج تراجع عن الرفض، ووافق مباشرة، ومنح للزوج مساعدة مالية طيبة، وتذاكر سفر هدية، وطلب من السفارة المعنية تسهيل إجراءاته، والحكاية طريفة للغاية.

ومن لطيف الموافقات أن يشارك الملك فهد نيابة عن والده الملك عبدالعزيز، وبأمر منه مكتوب موجه لوزير ماليته ابن سليمان حتى يجهز مصاريف الرحلة التي صدر الأمر بها لتمثيل المملكة والملك في حفل تنصيب الملكة “إليزابيث الثانية” عام (1953م)، وبعد سبعين عامًا من ذلكم التمثيل، يشارك حفيده الأمير تركي بن محمد بن فهد وزير الدولة عضو مجلس الوزراء نيابة عن الملك سلمان في حفل تنصيب نجل الملكة الراحلة الملك “تشارلز الثالث”، علمًا أن الأمير الحفيد كثيرًا ما يُرسل مبعوثًا ملكيًا لدولة الكويت التي دخل الملك فهد في تاريخها المعاصر بقوة الموقف وشهامته وشجاعته.

هذا هو الملك فهد، الذي استعد لجسيم المسؤولية باكرًا، وكان لأكثر إخوانه مثل الأب الثاني كما قال الملك سلمان في حفل افتتاح معرض “الفهد روح القيادة” الذي تكفل به أنجال الملك برًا بوالدهم واستبقاء لأجره وسيرته. وهو الملك الذي كان يقول علانية في واحد من خطاباته الشعبية التي اشتهر بها: من يعرض طلبه على ولي العهد فحتمًا لن يحتاج إلى مقابلتي، ويصرح غير مرة بأن القضاء مستقل ولا مجال للتدخل في أحكامه، وأن مصلحة البلد وأمنه فوق أي اعتبار.

وهو الملك الذي غضب من استضافة الأستاذ محمد رضا نصر الله لمؤلف كتاب فضائحي في إحدى القنوات السعودية، وهو الزعيم الذي رفض تفسير أحد معاونيه لآية تليت في فقرة من حفل يرعاه؛ بل قلب التفسير المغرض على المعاون، وغدا هذا الرجل المسكين هو المدان بما ذهب إليه حسبما رواه كاتب في برنامج تلفزيوني محلي. وهو الملك الذي يستجيب لأي مقترح وجيه مناسب يبلغه من مسؤول صادق مخلص نزيه، وهو الحريص على إيقاع العقوبة المستحقة في نطاق ضيق، وبأقل قدر، وبما لا يؤول إلى أحقاد مستقبلية مثلما أبان الوزير الشيخ صالح آل الشيخ، وهو الملك الذي ترحل عن دنيانا تاركًا روحًا من القيادة تسري، وروحًا من التاريخ عنه الأقلام تحكي، فأسأل مولاي ربّ العزة والجلال أن يسبغ عليه وعلى الراحلين من المسلمين الرحمة والعفو والرضوان.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 02 من شهرِ جمادى الأولى عام 1445

16 من شهر نوفمبر عام 2023م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. الله الله

    الفهد الفهد
    وما أدراك مافهد
    رحمه الله من نوادر عصره

    شكر الله لك على الكتابة البارعة الممتعة لتلك الشخصية التي تستحق المزي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)