سير وأعلام

شذرات من سيرة الوزير

شذرات من سيرة الوزير

السير الذاتية من ألذ الفنون المكتوبة والمقروءة حتى مع تكاثر النصال عليها، ومن عجب أن يرميها بالسهام أقوام ثمّ يتقاطرون على متابعة جديد السير وطريفها بلهف وحرص. والحقيقة أن هذا الفن لا بأس به من الأساس، وحديث المرء عن نفسه أسلوب قديم وإن اختلفت الطريقة والمسمى، وإنما الإشكال في بعض المعالجات والمبالغات التي تزول مع الزمن أو بالوعي، والركون إلى الوعي أولى وأهم من التعويل على الوقت؛ ذلك أن ارتفاع وعي المتلقي كفيل بإذابة أيّ خلل وصده ومنعه من النفاذ أو التأثير الضار، ومنح القارئ القدرة على التمييز والتمحيص.

وإن كتابة السيرة وتوثيق المسيرة لشأن يصف العراقة والسمو، ويعين على نشر الفوائد وسلاسة التعاقب وحمل الراية خاصة من قبل المؤثرين، وهو نهج دأب عليه المفكرون المؤثرون والكتّاب والساسة ورجال الدولة. وما أكثر ما ينتظر الناس أحاديث السياسيين والرموز وتصريحاتهم، مع الشوق لسماع بوحهم كي يفهم المتفرجون على مقاعد الحياة شيئًا من الحقيقة التي غابت عنهم، وحتى يتعرفوا إلى حكاية أولئك القوم في منشئهم وصباهم وشبابهم الباكر، مع الوقوف على تكوينهم العلمي والإداري النفسي وغير ذلك.

عليه سنقضي وقتًا هاهنا في جولة مع سير ذاتية لوزراء سعوديين كانوا أعضاء في مجلس الوزراء خلال مدد متنوعة، وهي سير مختلفة في بنائها، وسبكها، ومحتواها، وحجمها، وعدد أجزائها، وتفرقها عبر كتب. ويعود هذا التنوع الطبيعي إلى تباين تجارب الناس، ومدى قدرتهم البيانية، وشجاعتهم في التصريح أو التلميح، ووجود شيء من الخوف أو الرجاء، دون الشكّ في ثبوت الحب منهم والولاء. والمؤكد الراسخ عندي أن أيّ إنسان يكتب سيرته ويعلن قصته بصورة مناسبة جدير بالشكر والثناء على شجاعته الأدبية أولًا، ثمّ ينفسح المجال عقب الشكر للقول والرأي فيما سطر ونشر.

فأطول سيرة وزارية هي وسم على أديم الزمن التي كتبها د.عبدالعزيز الخويطر عميد الوزراء وأطولهم عضوية في تاريخ المجلس من غير الأمراء (1394-1435)، وفي هذه السيرة المطبوعة ضمن أربعة وأربعين جزءًا أخبار وآراء ومواقف جديرة بالاستخلاص من بين الأحاديث العادية والعابرة لتغدو في بضعة مجلدات كي تعظم الفائدة منها؛ لأننا في زمن لا يتناسب معه الإسهاب والتطويل، وقد عجبت حينما قرأت بأن وزير النفط الإماراتي الأسبق مانع العتيبة يستعد لإصدار سيرته في أزيد من عشرين جزءًا!

أما أمتع سير الوزراء على الإطلاق فهي مؤلفات د.غازي القصيبي أكثر الوزراء تنقلًا بين الحقائب الوزارية، إذ كتب سيرته الشعرية في كتابين، ثمّ أصدر سيرته الإدارية الحافلة عبر كتاب حياة في الإدارة الذي شجع غيره على المضي في هذا الطريق، وأعاد فتح الباب للوزراء والسفراء حتى يكتبوا دونما وجل أو تلجلج. ونشر فيما بعد كتابيه الوزير المرافق والمواسم الذي لم ينل شهرة الكتب الأخرى مع عمق الجانب النفسي والأسري فيه. وليته وجد من الوقت ما يمكنه من تخليد تفاصيل آخر ثمانية عشر عامًا من حياته (1412-1430)، إضافة إلى بسط تجاربه في القراءة والكتابة والتأليف؛ ولو فعل لأحسن كثيرًا زيادة على إحسانه فيما ألفه عن ذاته وأعماله ومواقفه.

ومن السير الماتعة والصريحة التي لم تأخذ حقها من الانتشار سيرة وزير الصحة البروفيسور أسامة شبكشي مواقف وأشهاد، ويبدو لي أن السبب يعود إلى ضعف تسويقها حال نشرها، والإكثار من الحشد الإداري والإعلامي فيها وهو مما يجلب الملل للقارئ، علمًا أن الوزير شبكشي أصدر كتابًا آخر عن سيرته إبان عمله سفيرًا أسماه ألمانيا كما رأيت. وقد تدارك وزير التربية والتعليم د.محمد الرشيد الطبعة الثانية من سيرته الذاتية، فقلّص التفاصيل الإدارية فيها لتصير سيرة شخصية عذبة ماتعة ذات لمسات وإشارات وزوايا عابقة بروح الرجل وفكره.

كذلك امتازت سيرة وزير النفط م.علي النعيمي بالإمتاع والعملية والاختصار والفائدة، وفيها يتجلى الكفاح والإصرار تمامًا مثلما نراه في سيرة وزير الاتصالات وتقنية المعلومات د.فهاد الحمد الذي كتب سيرته بحثّ من بلديه ابن الجوف وزير الصحة د.حمد المانع الذي سبقه بكتابة سيرة مقتصرة على سنواته الوزارية الست (1424-1430). وفيما بعد دوّن وزير الزراعة والمياه د.عبدالرحمن آل الشيخ سيرة عشرين عامًا قضاها في وزارته (1395-1415)، وهما سيرتان بطعم الوزارة فقط، وأشبه بالمرافعة عن عمل الوزيرين واجتهادهما في قطاعيهما.

بينما جعل وزير الشؤون الإسلامية د.عبدالله التركي سيرته الموزعة لأسرته وأصدقائه فقط مستوعبة لحياته وشاملة لأخبار آخرين نافسوه داخل قصته الخاصة لدرجة التضييق على أخباره المنشودة والمطلوبة، وتتقاطع مع منهجيته سيرة وزير الدولة أ.د.مدني علاقي الذي جمع مسيرته كاملة في جزءين ومعها أخبار آخرين من زملائه وأصدقائه، وفيها صراحة كبيرة عن عمله الوزاري ومهمة مرافقة الزعماء الزائرين. وممن شملت سيرته حياته دون إملال وزير الصحة د.حسين الجزائري، وفيها شهادة تاريخية بحكم عمله الدولي. ومع أن وزير الثقافة والإعلام د.عبدالعزيز خوجه أصدر سيرته الذاتية إلّا أن جعبته مليئة بالمزيد، ونتمنى أن نرى نثارها الثري قريبًا.

كما تسامع الناس بسير كاملة مكتوبة لم تظهر للعلن بعد مثل سيرة وزير الإعلام والصحة الشيخ جميل الحجيلان، ومن الغريب أن يتأخر فسح الطريق لسيرة أول وزير إعلام إلى هذا الحد! ومما يشاع عن وزيرين سابقين أنهما فرغا من آخر كلمة في سيرتهما الذاتية، ولا ندري إن كانت هذه السير ستطبع وتتاح أم تظلّ حبيسة ليس الأدراج وإنما النسخ الإليكترونية المحدودة على أهلها، وأحدهما سمعت منه الوعد بسرعة طباعة حكايته. وفيما سبق قرأت أن وزير المواصلات الأسبق الشيخ عبدالله السعد كتب ذاته بعنوان سيرة يتيم ولم أتحقق من هذه المعلومة وهو ذو قلم وفكر، كما لم أستطع الوصول إلى نسخ ورقية من سيرتي وزير الحج الكاتب المثقف حسن كتبي، ولم أتمكن من الاطلاع على ذكريات وزير المواصلات الأديب الأستاذ محمد عمر توفيق المنشورة في كتابين.

ثمّ شاهدت جزءًا من لقاء متلفز مع وزير الدولة لشؤون مجلس الشورى د.سعود المتحمي، وفهمت منه نيته الشروع في كتابة سيرته الذاتية وآمل أن يبادر ويفعل. وقرأت في حواشي سيرة القصيبي، وسمعت من آخرين، الأمنية بأن يكون بعض الوزراء قد كتبوا سيرتهم الذاتية لما يملكونه من مواهب أدبية وقلمية مع جرأة في الطرح مثل وزير الدولة ورئيس الموانئ د.فايز بدر، وقبله توجهت الأماني صوب وزير النفط الأول الشيخ عبدالله الطريقي لحفظ تاريخه، واختلفت نقول المحيطين به حول رأيه عن هذه المسألة، وربما أن للرجل آراء قديمة وحديثة. وإن الأمل لمعقود في أن يسارع كل وزير إلى تسجيل تجربته؛ فهي من الأمانة التي تنقل للأجيال، وتروي للبلد شيئًا من تاريخها، وتمثل شهادة على عصر وأحداث وشخصيات ومنهج تنموي وإداري، والصريح منهم سيخبرنا بالأخطاء والعثرات لأجل التجانف عنها نحو الصواب.

أيضًا يوجد سيرة أشبه بالمحطات السريعة، وبيان بالعلاقات مع أشخاص كتبها وزير الدولة د.محمد الملحم، وعسى أن ينشط لكتابة سيرة كاملة حسبما أخبرني صديق مشترك. ومن السير التي شارك أصحابها في إملائها سيرة وزير التخطيط ثم النفط الأستاذ هشام ناظر، وسيرة وزير الصناعة والكهرباء م.عبدالعزيز الزامل، وسيرة وزير الإعلام د.محمد يماني، وهذا أسلوب جمع بين الذاتية والغيرية، وحال دون ضياع إرث هؤلاء الرجال في العمل الحكومي الطويل إضافة إلى خبراتهم الأخرى.

فيا صاحب المعالي، بعد الدعاء لك بالسداد والتوفيق والعون، نطلب إليك تدوين سيرتك، فهذا السرد جزء من عملك الباقي، ومهمة منتظرة منك ولو بعد حين، وشأن التقييد يسير سواء بالصوت أو بالكتابة ولو على قصاصات وأوراق يتظافر مجموعها لرسم صورة مناسبة عن حياتك أو حقيبتك أو غيرها مما ينفع القارئ والبلاد والتاريخ الإداري والرسمي، وليتك ألّا تتأخر أو تؤجل، فدقائق يومية مخصصة لهذا المشروع كفيلة باستمرار التدفق دون نسيان إلى أن ينجم عنها كتاب لطيف، فيه شذرات من سيرة معالي الوزير، وفيه بصائر لزمن آت، وإرشاد لقوم قادمين، فالرائد لا يكذب أهله، ومبلغ نفس عذرها مثل منجح.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-عيون الجواء

 ahmalassaf@

الاثنين 17 من شهرِ ربيع الآخر عام 1443

22 من شهر نوفمبر عام 2021م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)