لا أكتب هنا عن كيفية اختيار الوزراء؛ فهذه عملية طويلة متوارية، ولا يعلمها إلّا عدد محدود لم يبح أحد منهم بشيء، وبالتالي فجلّ المقولات المنتشرة تكهنات يتسلّى بها فقط! وفوق هذا فهي ليست من شأني الذي أعتني به. لذلك يستند هذا المقال إلى ما نشر عن طريقة إبلاغ بعض أعضاء مجلس الوزراء الموقر بترشيحهم للوزارة، أو بصدور أمر بتسميتهم وزراء؛ ففي السابق ربما لم يكن من المتبع إخبار كل مرشح والتأكد من رأيه، وربما أن بعضهم لمح إليه؛ فلا هو التقط الرسالة الموجهة له، ولا عرف صاحب التلميح أن شفرته لم تفسر كما ينبغي!
هذه المسألة حول الترشيح والإخبار مما تتزين به سير المسؤولين وذوي المناصب، وأتعجب ممن يغفِل ذكرها، فهي ليست سرًا في الغالب. ويقترن معها أختها حول سياق الإعفاء وقصته في حدود المتاح، وهو موضوع أقل إشباعًا في كثير من السير، مع أن تلك المرضعة، وهذه الفاطمة، مما “يطري” السرد الجاف المغرق في تفاصيل الإدارة وشؤونها، التي ابتلي بها بعض ذوي المناصب إذا كتبوا سيرهم، حتى غدت كأنها تعميم أو تقرير أو كلمة تلقى في مجلس نيابي، وارحمتاه منها للقارئ!
فمما قرأته أن الشيخ أحمد صلاح جمجوم دعي إلى مقابلة الأستاذ أحمد عبدالجبار مدير مكتب ولي العهد -الأمير فيصل- في جدة أو مكة ، وطلب المدير إليه الذهاب للفيصل في الرياض، وحين قابل الجمجوم الأمير فيصل -الملك لاحقًا- في قصره أخبره أن الاختيار وقع عليه ليكون وزير دولة، وفي تفاصيل الحوار ما يشعر بأنه سيصبح وزير التجارة الثاني بعد الشيخ محمد عبدالله رضا زينل الذي بادر لاستضافة جمجوم وإخباره بما يجب عليه مع تعريفه إلى المسؤولين، وهذا صنيع راشد حسن مشكور منه. من لطائف لقاء الأمير والوزير أن أحد تجار الحجاز الكبار قال لفيصل على مسمع من جمجوم: كلما اتصلت بقصرك أجاب مأمور السنترال بأن الأمير مشغول! فقال له فيصل: سمعت هذه الشكوى من كثيرين، فجربت الاتصال بالمأمور وأجابني الجواب نفسه، فقلت له: أنا فيصل! ومن ساعتها هرب المأمور المهمل ولم يعد للعمل.
كما قرأت في سيرة وزير المواصلات الشيخ محمد عمر توفيق أنه قرر التفرغ من العمل الحكومي للتأليف، وتنقل ما بين القاهرة وبيروت التي ذهب إليها مرة لمراجعة التجارب الطباعية لأحد كتبه. وحين كان في غرفته الفندقية اتصل به د.أحمد الطباع ليخبره بأن اسمه ورد ضمن التكوين الوزاري وزيرًا للمواصلات، وسأله: هل الأمير فيصل يعرفك؟ فقاله له أبو فاروق: عملت معه في ديوانه بمكة مسؤولًا عن المكاتبات الصادرة عنه، علمًا أن الوزير الأديب توفيق يحفظ القرآن الكريم كاملًا، وهو ليس الوزير الوحيد الذي نال هذا الشرف، والشيء بالشيء يذكر؛ فسابقه الوزير جمجوم له صلة وثيقة بجمعيات تحفيظ القرآن بمكة وجدة تأسيسًا وإدارة، والله يديم علاقة أكابرنا بمصادرنا ومرجعياتنا.
أما الوزير الأستاذ هشام ناظر فقد أعلن خبر تعيينه وزير دولة ورئيسًا للهيئة المركزية للتخطيط بمرتبة وزير، وهو في الطائرة على متن رحلة من بيروت إلى طوكيو مرورًا بطهران، إذ أعلن قائد الطائرة هذا الخبر نقلًا عن صديقه الأستاذ علي شبكشي الذي أنبأ شركة الطيران بالخبر حال إذاعته وصاحب الشأن بين السماء والأرض لا يعلم عنه شيئًا. وبعد الإعلان صفق له الركاب تلطفًا منهم، علمًا أن التنبه للتصرف اللائق اللبق حين المفاجآت نعمة تستحق الشكر، وغيابها نقص فيمن غابت عنه أو غثاثة أو ثقل؛ ويكفيك من شر قراءته! وبينما كان د.عبدالعزيز الخويطر ينوي السفر برًا إلى مكة، ورده اتصال من رئيس ديوان رئاسة مجلس الوزراء الشيخ صالح العباد مهنئًا مباركًا، وبعدها صدر الأمر بتعيينه وزيرًا للصحة عام (1394).
كما تواترت تنبؤات وتلميحات كثيرة للدكتور غازي القصيبي تفيده بأنه ذاهب إلى الوزارة ولا مناص، فمنها إخبار الأمير سلطان له بأن منصبه في سكة الحديد ممر مؤقت، وتفرس الملك سلمان المبكر فيه بأنه سيغدو وزيرًا، واصطحابه ضمن الوفد الرسمي مع النائب الثاني الأمير فهد -الملك لاحقًا- إبان زيارة خارجية، ولم يكن اصطحاب غير الوزراء ومن في عيارهم معهودًا. وبينما كان د.محمد عبده يماني منهمكًا بالعمل في مكتبه بجامعة الملك عبدالعزيز إذ ورده اتصال من د.أحمد محمد علي يهنئه بتسميته وزيرًا للإعلام دون علم سابق منه! علمًا أن الوزيران يماني والقصيبي دخلا إلى المجلس معًا عام (1395)، وخرجا منه تباعًا قبل إكمال عقد من الزمن فيه.
ومن طريف ما وقعت عليه أن الشيخ محمد بن إبراهيم بن جبير كان من ضمن لجنة علمية متنوعة التخصصات لزيارة مدائن صالح، وتحديد مواضعها، وفي زيارته تلك صدر الأمر الملكي بتعيينه وزير دولة مع رئاسة ديوان المظالم عام (1407)، ولأن الاتصالات مفقودة أو غير منتشرة آنذاك، وشبكة الجوال لم تعمل بعد، فما عرف إلّا حين عودته إلى إحدى المدن من توالي الاتصالات المهنئة بتعيينه وزيرًا وهو في ديار ثمود.
تحضر الطرافة كذلك في قصة إخبار المهندس علي النعيمي بترشيحه وزيرًا للبترول والثروة المعدنية عام (1416)؛ إذ كان في إجازه، وورده اتصال من الأمير محمد بن فهد لكنه لم يكن في فندقه حينها، ثم نودي عليه بمكبرات الصوت وهو في مطار صغير بأمريكا فلم يجب، وتوقع أن مساعديه في شركة أرامكو يستطيعون إنجاز المطلوب خاصة أنه في إجازة سيعقبها تقاعد. وحين كان يصيد سمك السلمون في ألاسكا أتاه من يخبره بأن الشيخ إبراهيم العنقري يطلبه على الهاتف؛ فأيقن أن الأمر جلل، وحين أجاب على اتصاله سمع منه خبر الترشيح، وضرورة العودة للمملكة قبل يوم الأربعاء الذي ستعلن فيه السماء. وفي هذا التكوين نفسه، أرسل الشيخ عبدالعزيز التويجري رسالة نصح للأستاذ الدكتور محمد الرشيد، وبعدها بأيام أخبره الشيخ إبراهيم العنقري بترشيحه وزيرًا للمعارف، وبالمناسبة فلدي مادة جيدة من النصائح التي سمعها الوزراء أول ما تسنموا مناصبهم، وعسى أن أفرغ لكتابة بعضها.
ولا بأس من الاستمرار في رواية ما يستطرف في هذا الباب، من ذلك أن الرؤى تواترت على كثير من الصلحاء حول أ.د.شبكشي ومفادها أنه سيصبح وزيرًا، وأحد الوزراء السابقين رأى في منامه -مثلما قيل لي- وهو يؤدي الحج وقتها قلمًا فخمًا يكتب على ورقة بيضاء رقمًا يماثل راتب الوزير وقتها، وحينما سأل عابرًا أفتاه قائلًا: عندما يصبح عمرك مثل الرقم المكتوب في الرؤيا فسوف تصير وزيرًا، وهو ما كان عام (1430)، وطبعًا فهذا المجال مزلة أقدام؛ فانتبهوا يارعاكم الله من الأحلام!
ونرجع إلى عالم الحقيقة؛ فعندما سرت الشائعات مؤكدة أن أ.د.أسامة شبكشي سيصبح وزيرًا للصحة، توقع من حولهما أن وكيله أ.د.مدني علاقي هو المدير الجديد؛ ولذلك استغرب العلاقي حين تواصلت معه شخصية كبيرة من الأسرة الملكية، ودعاه إلى قصره في جدة مرتين، وتناقش معه في شؤون تتجاوز أطر العمل الأكاديمي، ثم توقع أ.د.مدني أن يخبره الشيخ إبراهيم العنقري بترشيحه للجامعة حينما استزاره في مكتبه، فوجد د.هاشم يماني في الانتظار ودخل قبله، وأخيرًا اجتمع الثلاثة في التكوين الوزاري عام (1416)؛ فالعلاقي وزير دولة، واليماني وزيرًا للصناعة والكهرباء، والشبكشي وزيرًا للصحة.
أيضًا مما قرأته في سيرة الوزير أ.د.علي النملة أن الأمير تركي بن عبدالله اتصل به مخبرًا إياه بالترشيح ومستعجلًا جوابه. وكتب د.حمد المانع في سيرته أن اتصالين تعاقبا على هاتفه وهو في غرفة العمليات في يومين مختلفين، أحدهما من الوزير الخويطر، والثاني من رئيس ديوان ولي العهد الأستاذ خالد التويجري، وفيهما أُعلمَ باختياره وزيرًا للصحة عام (1424)، ومن عجائب القدر أن يحضر أبو طارق بعد هذا الخبر وقبل الإعلان اجتماعًا في وزارة الصحة، ولم يكن موقف أحد مسؤوليها الكبار معه جيدًا، وما دار في خلد ذلكم المسؤول أنه يتعاسر مع وزيره الجديد القادم إليه خلال عشرة أيام كاملة؛ فاحذر تسلم! وقد ذكر د.فهاد المعتاد الحمد في سيرته أنه ذهب لزيارة رئيس الديوان الملكي أ.التويجري بناء على طلبه، وأخبره بترشيحه وزيرًا لللاتصالات وتقنية المعلومات، ومنصب أبي راكان إذ ذاك هو مساعد رئيس مجلس الشورى.
بقي أن أشير إلى أن بعض حالات الإبلاغ بالترشيح قد تكون من مقام الملك أو من مقام ولي العهد مباشرة، أو من مسؤول بارز بعينه. من ذلك أن الملك فيصل أخطر الشيخ جميل الحجيلان بإسناد مسؤولية وزارة الإعلام له، وهي وزارة مستحدثه ساعتئذ. ومنها أن الملك فهد عرض على د.فايز بدر رئاسة مؤسسة الموانئ، فوافق إذا آلت مرجعيته إلى الملك باعتباره رئيسه المباشر! وغدا بذلك وزير دولة ورئيسًا للموانئ. وذكر الشيخ صالح آل الشيخ في لقائه الرمضاني في ليوان المديفر أن الأمير محمد بن سلمان أخبره برغبة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظهما الله ورعاهما- بأن يعود إلى وزارته السابقة في أول تكوين للمجلس في عهده، وهو عين ما حدث، علمًا أن سمو ولي العهد عقد لقاء أو أزيد مع أكثر وزراء عهد الملك سلمان قبل تعيينهم.
ومن المسؤولين الذين اشتهروا بتولي معهة الإبلاغ: الشيخ صالح العباد، الشيخ محمد النويصر، الشيخ إبراهيم العنقري وربما هو من أكثرهم، الدكتور عبدالعزيز الخويطر، الشيخ عبدالعزيز التويجري، الدكتور ماجد القصبي، وآخرون حسب ما تقتضيه طبيعة المنصب والمرشح وغير ذلك، وتكاد أن تشتمل الرسالة الشفهية لكل واحد من المرشحين بضرورة كتم الخبر حتى يعلن رسميًا، علمًا أن مسألة الشائعات التي لم تصدق، والتسريبات، مما يتوارد الخوض فيه كثيرًا، ولا يخلو الحال من دعوى مصطنعة أو أمنية شخصية تساق على أنها واقع أو حقيقة؛ وليس الشأن كذلك، والله أعلم بالصواب، مع الدعاء للأموات بالرحمة والمغفرة، والتوفيق والتسديد للأحياء.
أختم بموقف باسم حتى يحترز المرء من الظنون والرؤى والتفكير الرغبوي، مع الدعاء لكل متطلع بما هو خير وأصلح، وهذا الموقف حصل لرجل ممن يتشوّف لمنصب، وذكره أ.د.شبكشي في سيرته. خلاصة الحكاية أن الرجل غادر البلاد لأمريكا، وكان على تواصل هاتفي شبه يومي مع بيته، ليطرح سؤاله المتكرر على الحارس المسؤول عن إجابة الهاتف: هل اتصل بي أحد؟ وذات يوم قال له الحارس: اتصل بك الدّيوان! فقفل الرّجل من فوره إلى جدّة، قاطعًا رحلته، وقفز من بيته إلى قصر السّلام ليقابل المسؤولين انتظارًا لسماع بشرى ينتظرها، فأكدّوا له أنّهم لم يتصلوا به قط، وحين عاد وفحص رقم المتصل، وجده لمؤسسة تجاريّة اسمها الدّيوان، لها عليه مطالبات ماليّة! فانتبهوا رحمكم الله!
الرياض- الجمعة 20 من شهرِ شوال عام 1446
18 من شهر إبريل عام 2025م