سير وأعلام

عبدالعزيز الخويطر: الوزير العميد!

عبدالعزيز الخويطر: الوزير العميد!

دأب كثير من الكتّاب على إطلاق لقب عميد الوزراء أو معالي الوزراء أو شيخ الوزراء على الوزير الأديب د.عبدالعزيز العبدالله الخويطر (1344-1435)، وهو لقب صحيح قد ينصرف تفسيره في ذهن القائل أو السامع إلى طول المدة التي قضاها د.الخويطر وزيرًا وعضوًا في مجلس الوزراء، أو لكثرة الوزارات التي أسندت إليه، وربما يكتفي الواحد بذلك التفسير لوجاهته ومباشرته، وراحة النفس إليه.

وهذا التعليل صحيح من حيث المبدأ، لكنه لا يستقلّ وحده إذ له قرناء أقل منه في الظهور والمباشرة، ولأجل توضيح أولئك القرناء أنشأت هذا المقال المبين، فالوزير الخويطر هو أطول الوزراء مكثًا في عضوية المجلس من غير احتساب الأمراء من الوزراء؛ لأنه سمي وزيرًا عام (1394)، واستمرت عضويته إلى أن توفي وهو وزير عام (1435)، وعليه تكون مدة عمله المجلسية المتواصلة واحدًا وأربعين عامًا. بل حتى مع احتساب الأمراء الوزراء يظلّ من أطول الوزراء مدة كذلك، ولا يزيد عنه إلّا الأمير سلطان ثمّ الملك فهد، ويتساوى في عدد السنوات مع الملك عبدالله والأمير سعود الفيصل، وآمل أن يلاحظ القارئ العزيز أن هذا الحصر خاص بعضوية مجلس الوزراء المستمرة بلا انقطاع.

لذلك يوصف أبو محمد بالوزير العميد، ويمكن إضافة خصائص أخرى لعمادة الخويطر الوزارية، منها أنه عمل وزيرًا مع أربعة ملوك، وهذه ميزة لا توجد في أيّ وزير آخر حتى الآن، وحتى من الأمراء لا نجدها إلّا عند الأميرين سلطان وسعود الفيصل، والأول منهما عمل مع خمسة ملوك وهي صفة استثنائية له. وكذلك دخل الوزير الخويطر في عضوية مجالس الوزراء المعاد تكوينها من جديد في أعوام (1395- 1416-1420-1424)، وبعد ذلك لم يجرِ على المجلس إعادة تكوين كاملة إلّا عام (1436) وبعده بأربعة أعوام مرتين (1440-1444)؛ والخويطر فيها جميعًا راحل عن الحياة، وبالتالي فقد سبق معاصريه من غير الأمراء بالحضور في أربعة مجالس متوالية، ولكنه ليس الأكثر في تاريخ المجلس؛ لأن غيره من وزراء عام (1416) وعام (1420) -وهم أربعة وزراء فقط- حضروا في ثلاث تكوينات متواليات للمجلس غاب عنها الخويطر المتوفى.

كذلك من مساندات “العمادة” لدى الخويطر أنه أصبح وزيرًا بالنيابة أو بالتكليف عن عدة وزراء، والفرق بين النيابة والتكليف أن الأولى تكون في حال سفر الوزير الأصيل أو مرضه؛ فينيب أحد الوزراء عنه شريطة الموافقة السامية، وأما التكليف فيكون بأمر ملكي بعد شغور المنصب من شاغله. وبتتبع غير مستقصٍ وجدت أن الدكتور الخويطر قد أصبح وزيرًا بالنيابة أو بالتكليف عن أكثر الوزراء وفي كثير من الوزارات؛ فليس بغريب أن يوصف بمعالي الوزراء.

ليس هذا فقط، ففي وقت واحد أصبح الخويطر وزيرًا نائبًا أو أصيلًا عن خمس وزارات ووزراء، أي أنه غدا يقوم مقام خمس المجلس تقريبًا، وأخالها من فرائده، علمًا أن جلّ الوزراء يفضلون إنابته لحكمته وأناته الزائدة، ولخبرته العتيقة، ولأنه لا يتخذ قرارًا إستراتيجيًا أثناء النيابة فالوزير الأصيل أولى بذلك منه كما يرى في منهجه الإداري، وهذه سمة حببت الوزراء في نيابته حسبما يروي د.القصيبي الذي تحاشى جمع من الوزراء إنابته؛ لأنه عكس الخويطر تمامًا في هذا الباب!

كما يمكن خلع وصف العميد على الوزير الخويطر بناء على كونه أكثر الوزراء تأليفًا للكتب فيما أعلم إذ ناهزت مؤلفاته المئة، وسيرته الذاتية المنشورة وصلت وحدها إلى أربعة وأربعين جزءًا حتى توقف عند أحداث عام (1427) وهي خصيصة يتفرد بها. ومن جوانب عمادته التي ربما يُغفل عنها أن الخويطر ظلّ الرجل الأول في الجامعة الأم جامعة الملك سعود لعشر سنوات تقريبًا، وأصبح وزيرًا للمعارف مدة عقدين من الزمان، ووزيرًا مكلفًا للتعليم العالي أربع سنوات.

وبالتالي فمن المجزوم به أن غالب الوزراء السابقين واللاحقين ممن عاصروا الخويطر أو جاءوا بعده، وبعض القادمين قد درسوا تحت إدارة الخويطر بطريقة أو أخرى، وهذه عمادة أكيدة يزيدها أن الدكتور الخويطر هو أول سعودي يحصل على درجة الدكتوراة في التاريخ من بريطانيا، وأنه أول وزير من الأكاديميين – وليس من الإداريين في الجامعات وما في حكمها- يصبح وزيرًا، وبعده بسنة واحدة تكونت “حكومة الدكاترة”، وفيما بعد تزايد عدد الوزراء القادمين من الجامعة.

ومما يعزز هذه الصفة لدى الوزير د.عبدالعزيز الخويطر عضوياته الكثيرة في المجالس واللجان العليا ورئاسته لبعضها، وربما يكون من وزراء قلة يستطيع أن يجد الباحث كلمات ثناء قالها عنهم الملوك وأولياء العهود وجمع من الأمراء والعلماء والوزراء. وهو موضع الثقة والاستشارة من قبل زملائه الأقدمين والجدد، فمرة أجاب الوزير د.محمد عبده يماني عن سؤال ملكي في مجلس الوزراء وفيما بعد أخبره الخويطر بالطريقة الأصوب في الجواب، وحين خرج الوزير أ.د.مدني علاقي من عضوية المجلس (1416-1424) عُرض عليه منصب آخر فأدركه الحرج من الاعتذار؛ لكنه استعان بالخويطر الذي دلّه على المخرج الآمن، وأجزم أن لغيرهما مواقف أخرى معه تحتاج لسؤال أو تقميش.

كذلك من مظاهر عمادة الوزير الخويطر أنه قريب من ولاة الأمر، وموضع السر منهم، ولذا أرسلوه لبعض المهام التي تحتاج إلى مزيد تكتّم، وفوق ذلك يُعدّ من أوائل المؤهلين علميًا، ومن أبرز المشهورين بالجدية والنزاهة، ولوالده وبعض أسرته أعمال حكومية سابقة عليه ربما مهدت الطريق له، وعندما رجع إلى المملكة أصبحت له علاقات وصلات مع المسؤولين بحكم إرثه الأسري، ومعارفه من أهل عنيزة والحجاز، وسنوات البعثة، ولهذه العلائق تأثير ولا شك إذا وجد من يستأهل الثقة والتمكين.

هذا غير أن وزير المعارف الأمير فهد -الملك لاحقًا- زار الطلبة المبتعثين في بريطانيا، وحين علم أن الخويطر على وشك الانتهاء من الدراسة والعودة للوطن، طلب منه أن ينضم لوزارة المعارف وليس لوزارة الخارجية التي خطفت بمغرياتها أكثر الدارسين في الخارج بعد عودتهم مباشرة، لأنهم يرغبون في العمل بالسفارات في عواصم العالم، أو مع السفارات الأجنبية في جدة، فوعده الخويطر بذلك ووفى بمجرد عودته، وربما أن هذا الأمر صبّ في صالحه، وجعل له مكانة في نفس الملك فهد.

ومن جوانب العمادة الخويطرية للوزراء، أنه يكاد أن يكون الوزير الوحيد أو من قلة لهم مجلس أسبوعي مفتوح في منزله وهو في منصبه لم يبرحه، ولمجلسه رواد متنوعون؛ ففيهم العالم والمتعلم، والكبير والصغير، والوجيه والعامي، ورجل الأعمال والفقير، والكبير والصغير. وهم يختلفون في الانتماء المكاني والقبلي والمستوى الثقافي، وفي سبب المجيء، وقد واضب على حضور المجلس جمع من الوزراء والمسؤولين والمثقفين وأبناء عنيزة.

هذا وإن سيرة مجلس العميد وأخباره وطرائفه لبحاجة إلى التوثيق، وقد كان من أدب الخويطر أنه يشيع جلاسه إلى الباب الأخير، فإذا طلبوا منه الرجوع إلى مجلسه ومكانه قال لهم محتجًا عليهم: قطعتم لي مسافات طويلة وأنا أقطع مسافة قصيرة لتوديعكم! وإذا كان المغادر وثيق الصلة بالمضيف الخويطر، يقول له أبو محمد ممازحًا وهو يدافع ممانعة الضيف من مرافقة الخويطر له: دعني أتأكد من أنك ستخرج ولن تعود!

رحم الله أبا محمد وجميع الأموات السالف ذكرهم، وجمعنا بهم في مستقر رحمته ودار كرامته، وجعل الكثرة الكاثرة من المسؤولين على قدر الأمانة الملقاة على عواتقهم، وعلى مستوى الإنجاز المأمول منهم، وصيّرهم ممن يستحقون وصف رجل الدولة على التحقيق، بما فيهم من جدية، ونزاهة، وعزيمة، وبصيرة، وصدق، ومحافظة على مصالح الدولة حكومة ومجتمعًا، وعلى العراقة الأصيلة التي ننعم بها، وما أجدرها بأن تكون منطلقًا آمنًا لهم إلى تحقيق ما نريد، وتحصيل ما إليه نصبو، وما ذلك على أصحاب الهمة العالية ببعيد، ولا هو على الله العليّ القدير بعزيز.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 13 من شهرِ المحرم عام 1445

31 من شهر يوليو عام 2023م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. سلمت الأنامل سيد الكلمة ولقد وفيت ووفيت للقامة العظيمة بكل معاني العظمة الأخلاقية والسلوكية والوطنية ولعله يستحق المزيد من الحديث والسرد المتنوع فأمثاله أقل من القليل.لكن جانباً بديعاً جميلاً يعتبر بحكم المنسيّ وهو أحاديثه الطلية في المجالس والطُرف ذات المعنى والذكريات المميزة التى ربما لم تجد طريقها الى مذكراته ولا شك أنكم الأقدر على رصدها وجمعها من جلسائه.دمتم

  2. الأستاذ الفاضل احمد العساف .
    لا يسعني إلا أن اشكرك على المواضيع الرائعة التي تطرحونها في مواضيع مدونتكم وباسلوبكم الرائع الجميل . والدكتور الخويطر غني عن التعريف خدم في المجال العام بقدر استطاعته مخلصا ونزيها وبقدر مايمليه عليه واجب الوظيفة ،والناس اختلفوا من يشكر و من ينتقد منهج الخويطر رحمه الله في الإدارة وبعيدا عن النقد او الإطراء مرحلة الخويطر وزملائه من الوزراء مرحلة تاريخية انتهت كان المؤهل العلمي في هذه البلاد العزيزة نادر وكانت ظروف الحياة وتعقيدتها ابسط وأسهل .الآن التحديات التي تواجهها البلاد عظيمة تتطلب شخصيات مختلفة عن الحقبة الماضية ندعوا الله أن يوفق ولاة الأمر بإدارة البلاد وتولية المخلصين المجتهدين في وظائف العموم ،وكذلك أن يكون لدينا تقاليد الاعتذار عن المنصب العام اذا كان العبء ثقيلا ولا يستطع حمله ولنا أمثلة في الماضي من الشبيلي والسليم. حفظ الله هذه البلاد ووفق الله ولاة الأمر إلى مافيه صالح العباد والبلاد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)