سير وأعلام شريعة وقانون

محمد بن عبداللطيف آل ملحم وكتابة “الدستور”!

محمد بن عبداللطيف آل ملحم وكتابة “الدستور”!

أنا على يقين تام بأن القانوني المسلم يتعالى قدره كلما زاد خضوعه لشريعة ربِّ الأرض والسماء، وتباعد عن مناكفتها أو محاولة ليّها وتطويعها لتصبح على مقاس من الهوى يخالف مراد صاحب الشرع منزل الأمر والنهي، وويح لمن يجترئ بالكذب على الله وعلى رسوله، ويقول لما يصف لسانه الكذب هذا حلال وهذا حرام إمعانًا في الافتراء. وفي تاريخنا القانوني أسماء كبيرة ممن جمعوا بين دراسة الشريعة والقانون أيهما أول، أو درسوا أحدهما فقط؛ وقد وفقهم الله بنقاء فطرتهم للتسليم أمام شرع الله المهيمن وحكمه العدل؛ فنبغوا وخلدوا، والأمثلة حاضرة لمن شاء أن يبحث عنها.

ولدينا في المملكة نماذج مشرفة لعدد من دارسي القانون أو ممارسيه ممن يزدان بهم الرواق العدلي، وتفخر بهم المنظومة القانونية، وهي منظومة يشهد لها بالأهلية والتفوق والمكانة منصبا رئيس الدولة في البلدان الكبرى مثل أمريكا، والأمين العام في المنظمات المهيمنة مثل الأمم المتحدة، ومن راجع سير أولئك الرؤساء والأمناء فسيجد أن القانون قاسم مشترك بين أكثرهم. ومن الأسماء السعودية التي تحضرني نجد المشايخ الحصين والجبير، والقانوني العقيل، والدكاترة الجبر، والملحم، والنفيسة، والمحامي الحجيلان، وآخرين ممن يمثلون بلادنا أمام قامات فقهية وقانونية مثل الرمز المصري الكبير د.السنهوري، والمؤرخ واللغوي العراقي المحامي العزاوي، والفقيه القانوني السوري الشيخ الزرقاء، وغيرهم.

ولد الدكتور محمد بن عبداللطيف بن محمد آل ملحم في الأحساء سنة (1357) منتميًا لأسرة عريقة من أشهر بيوتات المنطقة وتعود أصولها إلى قبيلة مطير العربية الكبيرة. ودرس فيها وفي البحرين والرياض ومصر وأمريكا بجامعةيِلالتي تضم إحدى أكبر كليات الحقوق في العالم، وتزامل فيها مع شخصيات شهيرة منهم الرئيس الأمريكي الأسبقكلينتن“. والملاحظ أن د.محمد كان متفوقًا خلال مراحل الدراسة، جادًا في الطلب والتحصيل، وقد أخبرني أحد زملائه الذين كانوا في الدفعة التالية له بجامعة القاهرة أنه منصرف بشدة نحو الدراسة والقراءة.

ولربما أن هذه الصرامة والحرص جعلته هدفًا للاستشارة من أمراء كبار، ووزراء فطاحلة، ووزارات سيادية مثل الداخلية والدفاع والمالية، إضافة إلى عمله الطويل مع عدة مؤسسات حكومية عملًا دائمًا أو مؤقتًا قبل الوزارة وخلالها وبعدها من جنس عضويته في لجان ترسيم الحدود، أو استكمال تملك الحكومة لشركة أرامكو، أو في وفود ملكية وعليا. ولذا ليس بغريب أن يصبح الرجل عميدًا لكلية التجارة بجامعة الرياضالملك سعود قبل وبعدوهي كلية مهمة مؤثرة، قبل أن يصير أحد وزراء حكومة الدكاترة التي كونها الملك خالد عام (1395)، وظلّ وزيرًا حتى التجديد الشامل لمجلس الوزراء عام (1416) الذي خرج بموجبه من الوزارة قريب من عشرين وزيرًا.

أما العمل الأهم، والمسؤولية الأشق، والمهمة التاريخية للدكتور الملحم، فهي المشاركة في لجنة عليا لكتابة نظام الحكم، ونظام مجلس الشورى، وهي اللجنة التي سمي فيها بصفته وزير دولة وعضوًا في مجلس الوزراء، واستمر بها لمدة تقترب من اثني عشر عامًا ابتداء من عام (1400). وهي لجنة نشأت بأمر مكتوب من الأمير فهد نائب رئيس مجلس الوزراءالملك فيما بعدوترأسها وزير الداخلية الأمير نايف، وكان في عضويتها بالإضافة للدكتور الملحم عدد من زملائه الوزراء وغيرهم.

والأعضاء هم الشيخ إبراهيم آل الشيخ، والشيخ إبراهيم العنقري، والشيخ عبدالوهاب عبدالواسع، والشيخ محمد مسعود، والشيخ محمد بن جبير، ومعهم الشيخ صالح اللحيدان، والشيخ صالح الحصين وهو الوحيد الذي كان بلا منصب حكومي حينها. وفيما بعد أعيد تكوين اللجنة وضم إلى عضويتها حسب د.الملحم الشيخ عبدالعزيز التويجري، والدكتور مطلب النفيسة، والشيخ د.عبدالله التركي كما ذكر الشيخ الجبير في لقاء مصور، وخرج منها د.الملحم لانشغاله بأعمال سياسية أخرى. وقد اطلعت اللجنة حال انعقادها على أعمال سابقة ومشروع نظام اقترحه الأمير مساعد بن عبدالرحمن، ولكنه لم يكن وفق المطلوب، ولذا عملت عملًا أشبه بالجديد، وفي عام (1411) وضع أعضاء اللجنة حينذاك اللمسات النهائية على مشروع الأنظمة قبل التوصية به للمقام السامي من أجل إقراره وإعلانه.

وللعلم فهذه اللجنة العليا سبقها لجنة مكونة لنفس الغرض من قبل الملك فيصل عام (1382) كما ذكر الشيخ ابن جبير في لقاء مصور معه، وفي عضويتها أسماء مسؤولين سابقين مثل الشيخ ناصر الراشد، والشيخ عبدالعزيز بن رشيد، والأستاذ أحمد جمال، والوزير إبراهيم السويل، والوزير أحمد زكي يماني، والشيخ راشد بن خنين، وكان عملها موزعًا بينهم ويشمل نظام الحكم، ونظام مجلس الشورى، ونظام القضاء، وربما نظام الإفتاء، وبعض هذه الأنظمة كتب فيه مشروع نظام لكن لم تتح له الفرصة لتكتمل دورة بنائه وإصداره، وهذه المرويات كلها مهمة لتاريخ الفقه الدستوري لدينا تشريعًا وتطبيقًا وتطويرًا، وهو تاريخ يعود إلى ما هو أقدم من المذكور هنا، وآمل توثيقه ورصده منذ بدايته.

وقد تحدث د.الملحم عن تجربته في اللجنة الأخيرة خلال لقاء ماتع منشور مع مجلس الشورى قبل خمسة أعوام. ففي تلك اللجنة الفريدة المهيبة تشارك د.الملحم العضوية والنقاش مع وزراء ومشايخ وأمراء، وأدركته الحماسة لعمل هذه اللجنة الأساسي والمؤثر حتى قدَّم للأمير فهدالملك لاحقًامقترحًا مؤداه بأنه على استعداد لكتابة مشروعين متكاملين لنظامي الحكم ومجلس الشورى! وبعد الموافقة ومباركة تكفّله بهذا الشأن الثقيل دار في مخيلته أن تطوعه للقيام بمهمة إعداد المشروعين كان ورطة كاملة الأوصاف، ومن الحجم الكبير جدًا!

لكنّ صدق النية، مع أخذ الكتاب بقوة، وسؤال الله العزيمة على الرشد، ثمّ عون رئيس اللجنة الأمير نايف وتفهمه وقوة إرادته ومعرفته ببواطن الأمور، ومباحثات أعضاء اللجنة وهم رجال دولة كبار من المشايخ والوزراء والقضاة، جعلت النقاش حرًا صريحًا ثريًا حتى لو احتد الحوار مع الشيخ صالح اللحيدان أحيانًا، ولم تمنع هذه المواقف د.الملحم من أن يعترف للشيخ صالح باللباقة والذكاء والفهم. ويضاف إلى العوامل التي ساعدته على إنجاز هذين النظامين خلال ثلاثة شهور المؤازرة المعنوية من الملك خالد، ومن الملك فهد إبان ولايته للعهد وبعد توليه الأمر، دون نسيان ملحوظات أبداها الأمير سلطان على النظامين بعد فراغ د.الملحم من كتابتهما.

ثمّ بعد مراجعة هذه الأنظمة من قبل أعضاء اللجنة العليا القدامى والجدد، وتطوير صياغة موادها بما يضمن تماشيها مع القواعد المرعية التي تعاهدها بالرعاية والصون ملوك المملكة، توجت تلكم الجهود المشتركة المضنية بصدور النظام الأساسي للحكم ونظام مجلس الشورى ونظام المناطق بأمر ملكي تاريخي في أواخر شهر شعبان عام (1412)، مع أن نظام المناطق لم يكن معدّاً من قبل هذه اللجنة، وإنما ورد إليهم جاهزًا من لجنة رأسها الأمير سلمانالملك لاحقًا، وكان للأمير عبدالرحمن السديري آراء نافعة بخصوص هذا النظام بحكم خبرته الطويلة في إمارة الجوف. وفي عام (1414) صدر تجديد لنظام مجلس الوزراء، وشارك د.الملحم في نقاشه مثل بقية الوزراء، علمًا أن الوزير الملحم استند في بناء نظامي الحكم ومجلس الشورى على المادة رقم (18) من نظام مجلس الوزراء الصادر عام (1377)، وهي مادة مركزية في مضمونها المنطوق والمفهوم.

بناء على ذلك يرى د.محمد الملحم أن هذه الأنظمة في مقام أرفع من أن توصف بأنها أنظمة تتساوى مع أيّ نظام آخر، وهو يؤمن أن نظام الحكم، ونظام مجلس الوزراء، ونظام مجلس الشورى، وثائق دستورية يمكن أن تكون مجتمعة أساسًا لدستور المملكة الذي يرجع إلى القرآن والسنة ومحكمات الشريعة في أسسه ومقاصده. كما أن وزيرنا المخضرم لا يجد غضاضة في رفض التسليم بمناسبة البنية المؤسساتية في الغرب لبلادنا، ويضرب على ذلك مثلًا بمسألة الفصل بين السلطات التي لا يسوِّغ اعتماد الدستور الأمريكي عليها بالفصل الحاد أن تغدو معتمدة لدينا خاصة أن في تطبيقات المسلمين الأوائل ما يخالفها.

كما أفاد خبيرنا القانوني الكبير القارئ بآراء ناضجة له بعد مراس، أو لغيره بعد فحص وإيمان بها، منها اكتشافه بعد أن عمل عن قرب في وظيفة عليا لمدة عقدين، وكان غير بعيد عن الشأن الرسمي لأزيد من ربع قرن بعدها، أنولي الأمرإذا قُدِّمَتْ له النصيحة الخالصة يأخذ بها، وتلك سمة أساسية في الزعيم ورجل الدولة البصير، وهي منّة من الله على الحاكم ورجاله وشعبه. ثمّ يختم د.الملحم مقيدًا رأيه بقاعدتين عظيمتين يجب على الإنسان حِين يعمل في جهاز حكومي أن يلتزم بمقتضاهما هما: أن يبتعد عن الطيش البيّن، وكذلك عن الهوى الجامح فيما يمارسه من عمل عام.

ويردف أبو عبدالعزيز داعيًا بالرحمة لأستاذه د.جمال زكي، وهو من أساطين قانون العمل في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، لأنه كان يُنادي بتوطين نصّ المادة حسب أحوال البيئة المراد تطبيقه فيها إذا أريد منها أن تكون ذات فعالية، ثمّ يضيف د.محمد قائلًا بالنصّ: ومن نافلة القول إن أيّ تشريع يُقترح ليكونقاعدةيلزم قبل إقراره أن يؤخذ في الاعتبار صلاحيته للتطبيق قياسًا إلى واقع المجتمع، لا أن يكون التشريع متعسفًا بغرض تحقيق مصالح خاصة. ويكمل نصيحته الثمينة بدرة عملية حصيفة إذ يوجه المنظم والمنفذ: على أيّ مشروع يهدف إلى تطوير مجتمعنا ولا سيما بالأخصّ إذا كان يتعلق بالشأن القانوني أن يَبدأ العمل به في هدوء تام، ودون الجري وراء الشهرة، ولا عِشقِ الأضواء.

كذلك من آراء د.الملحم التحفيزية حثّه لمجلس الشورى أن يتصدَّى لأيّ نظام فيه ثغرات ليست في صالح المواطن؛ لأن هذه الثغرات مثل السموم في إطار أنظمتنا القائمة. وتمنى عليهم أن يخرجوا برأي مُوحد حيال توحيد المصطلحات المرتبطة بالأعمال الاستشارية. ومن ثمار خبرته العملية الثناء على آثار العمل مع وزارات كبرى في تمتين تجربته، وإفادته بمعرفة طبيعة الأنظمة والعمل والبيئة التي انبثقت منها كثير من التراتيب الإدارية والنظامية. ومما أبدى الوزير القانوني ندمه على تفويت فرصة تحقيقه إبان عمله أن تكون وقائع جلسات اللجان العليا لصناعة الأنظمة وصياغتها مسجلة حتى يمكن الإفادة منها في التفسير والتدريس وفي حفظ التاريخ أيضًا.

ولم يمنع العمل المنهك أستاذنا د.محمد بن عبداللطيف الملحم من أن يشارك في شؤون الثقافة والأدب واللغة؛ فهو غيور على لغته، حريص على الشعر العربي في سننه القديم ونظامه الذي وعته آذان العرب الفصحاء، وله موقف رافض للشعر الحر، وعنده صولات صحفية جريئة مع بلديه الوزير د.غازي القصيبي، وأخرى مع زميله الوزير د.محمد عبده يماني، ولهذه النقاشات الفكرية والأدبية العلنية قيمة مضافة حين نعلم أنها حدثت وهم أعضاء في مجلس الوزراء. كما أن له علاقات وثيقة بعدد من الأسماء البارزة في العمل المجتمعي والرسمي، والشأن القانوني والثقافي، ومن يطلع على كتابه أيام في حياتي يقف على مصداق ذلك، وهو كتاب يحكي شيئًا من سيرة الرجل التي ننتظر ظهورها كاملة في ألف صفحة تقريبًا كما أنبأني صديق شغوف بالتاريخ والأدب.

ويقودنا حديث الكتب المحبب إلى الإشارة لمصنفات د.الملحم؛ إذ أن له عدة مؤلفات تقع في باب السيرة الذاتية أو المجتمعية للأحساء وتطور التعليم فيها، أو الترجمة لآخرين ودراسة شعرهم وعصورهم سواء كانوا من الرواة الشعبيين، أو من الشعراء الكبار المغفول عنهم مثل ابن مقرب. وله كتب اقتصادية عن النفط الذي يمثل الثروة الناضبة لبلاد عربية كثيرة، هذا غير مقالات ومؤلفات قانونية بالعربية والإنكليزية، ومشاركات مجتمعية وثقافية إن في منزله، أو في دارته القانونية، أو عبر موقعه الشبكي الثري، أو مع مؤسسات المجتمع، وهي من رصيده العملي الذي يضاف لتاريخه الحافل بالشهادات والأوسمة والمنجزات والطلاب، والله يمتعه بالصحة والعافية، ويبارك فيه وفي أولاده وبناته وذريته من الأحفاد والأسباط، وفي عامة أسرته العريقة الممتدة عبر الأحساء ونجد والخليج.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

ahmalassaf@

الاثنين 24 من شهرِ محرم عام 1444

22 من شهر أغسطس عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

  1. بارك الله فيكم أخي العزيز
    مقال جميل مفيد كالعادة وجهد مشكور ومقدرا ولا شك ان أستاذنا القدير معالي الدكتور محمد بن عبداللطيف الملحم متعه الله بالصحة والعافية يستحق كل إشادة وتقدير وذكر لما قام به من جهود وإنجازات وطنية مخلصة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)