إدارة وتربية عرض كتاب

إهداء ثواب العمل للميت

Print Friendly, PDF & Email

إهداء ثواب العمل للميت

منذ أن توفيت والدتي رحمة الله ورضوانه عليها وعلى والدي وكل ميت من المسلمين، وأنا أحوم حول مسألة الموت كتابة واستعراضًا لبعض الكتب في سماع الميت، والرثاء، والشيخوخة المفاجئة بعد فقد الأم، وعلاقة الكتابة بالموت. وإكمالًا لهذا المنحى لأن الإنسان حتمًا سينسى ويخفت وهج العناية لديه مع تزاحم الحياة ومشغلاتها، أعرض كتابًا عنوانه: إهداء ثواب العمل للميت المسلم ويليه جزء في روايات منقولة عن الإمام أحمد بن حنبل في المسألة، تأليف: أ.د.محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح، أصدرت دار التحبير للنشر والتوزيع الطبعة الأولى منه عام (1443=2022م)، ويقع في (66) صفحة تشتمل على المقدمة وعدة مسائل وأدلة وأقوال.

ذكر المؤلف في المقدمة أن عددًا من علماء الحنابلة أفردوا هذه المسألة بالتأليف مثل الحافظ عبدالغني المقدسي، وأبو محمد عبدالغني بن تيمية، وأبو بكر المقدسي، ثمّ أورد رواية للإمام أحمد عن سفيان بن عيينة مفادها أن الدعاء للميت أفضل من الحج عنه إلّا إن كان لم يحج وقد وجب عليه الحج في حياته. وقد بسط المؤلف المسألة بإيراد صور منها مثل الحج والصدقة والطواف والأضحية والدعاء وقراءة القرآن، ثمّ نقل إجماع العلماء على وصول الأجر والثواب للميت لما ثبت في النصوص الشرعية حتى جزم به ابن تيمية قائلًا: “ومن تأمل العلم وجد من انتفاع الإنسان بما لم يعمله مالا يكاد يحصى“.

كما نقل المؤلف الشيخ أ.د.الفريح الإجماع على وصول ثواب الأعمال المالية للميت مثل الصدقة والعتق والأضحية مستندًا لأقوال علماء كبار منهم ابن المبارك وابن عبد البر وابن تيمية الذين أكدوا انتفاء الخلاف في قبول الصدقة عن الميت، ومثله أداء الدين عنه ممن كان حسبما أفتي ابن أبي العز الحنفي، بل وسع ابن قدامة المسألة إلى أداء أيّ واجب تدخله النيابة وتجوز فيه. ولا ريب أن أقوال هؤلاء الأئمة مأخوذة من منطوق نصوص أو مفهومها وهو ما سيأتي في الترجيح بين الأقوال والأدلة.

ولابن أبي العز الحنفي ملمح مهم حينما حدد طريقين ينتفع منهما الميت، الثاني هو موضوع هذا الكتاب فيما يخص صالح الأعمال والبر والإحسان، أما الأول فهو ماكان الميت سببًا فيه إبان حياته من المكارم والخيرات، فيا أيها الأحياء بادروا للاستكثار من فعل الصالحات ودعمها ومساندتها وتطويرها واقتراحها؛ كي تجري عليكم أجورها في قبوركم وتجدونها في صحائفكم يوم الحساب؛ فلربما أن المرء يكون في قبره نسيًا منسيًا من ذويه. ويا أيها الحي النبيه احذر من أيّ عمل لا يسرك أن يلحقك في قبرك، وتجنب أيّ عمل لا يمكن أن تهديه لميت عزيز عليك حبيب إلى قلبك.

ومما جاء في مسائل الكتاب اتفاق العلماء على منع إهداء ثواب الأعمال القلبية للميت كما قال الإمام الشاطبي، ولم يكن من هدي السلف إهداء ثواب العمل لجميع الناس حسبما يرى ابن تيمية. ويمنع ابن أبي العز الحنفي من استئجار القراء لتلاوة القرآن لصالح الميت، ويعمم هذا المنع على جميع الأعمال الصالحة من صلاة وصيام وغيرها، ولا أدري إذا كان هذا القول لا ينصرف إلى أداء الحج والعمرة عن الأموات بمقابل مالي، فهي ممارسة شائعة دون نكير، والحج عبادة مالية بدنية تصح فيها النيابة كما لا يخفى، علمًا أن المؤلف أشار في موضع من الكتاب إلى جواز الحج عن الميت وثبوت أجره بفضل الله.

ومن الممنوعات أن يصلي المرء عن الميت لأن الصلاة عمل لا تدخل فيه النيابة، ونقل المؤلف مقولات للإمام أحمد ولابن بطال وابن عبدالبر والماوردي تؤيد المنع، لكن يمكن للحي إهداء ثواب صلاة التطوع لميت. ويستثنى من الصلاة والصيام عن الميت وجوب الوفاء من قبل الولي بنذر الميت أو بفعل ما وجب عليه من الصيام وهو حي، وهذا من باب أداء واجب مستحق وليس نيابة أو إهداء ثواب عمل تطوعي، والفرق واضح في هذه الأعمال البدنية بين النيابة والتطوع.

وقد اختلف العلماء في جواز إهداء ثواب الأعمال البدنية التطوعية للميت، مثل صلاة التطوع وصيامه والصدقة وقراءة القرآن، وحاصل أقوالهم ينحصر في مذهبين، الأول: يقول بالجواز وعليه الحنفية والحنابلة، ونصر هذا القول ابن تيمية وابن القيم من القدماء، ومن المعاصرين ابن حميد الأب وابن عثيمين. والثاني يفتي بالمنع وعليه رأي الشافعية والمالكية، وبه تأخذ اللجنة الدائمة في فتاويها.

ثم ساق المؤلف أدلة الفريقين مع شروحاتها والجواب عنها وما قاله علماء سابقون ومعاصرون فيها، وخلص إلى ترجيح القول الأول المجيز مع التحذير من أيّ ابتداع يخرج بالعمل عن أصله أو مشروعيته. ومما أضافه المؤلف لهذه المسألة عدد من الفوائد والمسائل مثل إهداء الثواب للحي وهل يجوز وأثر ذلك على تكاسل ذوي المال والجاه بناء على الإهداء من غيرهم بأجرة أو تزلفًا. ومن المسائل التفريق بين إهداء الثواب والإيثار بالقُرَب والطاعات، فالأولى يفعلها العبد ويهدي أجرها، والثانية يتنازل لغيره، وقد يكون تنازله من باب الراحة والتكاسل، والله يحب العبد السباق بالطاعة المجتهد بالعبادة وليس المتراخي المتهاون فيهما، وفي المسألة جوانب أخرى عرض لها المؤلف يحسن النظر فيها.

ومما نبه له المؤلف ألّا يجعل المرء ثواب أعماله التطوعية كلها للأموات، فهو أولى بالطاعات والحسنات، وليكثر لأمواته من الاستغفار والدعوات، وأنهى المسألة برأي عملي ذاكرًا أن الإمام أحمد أجاز إهداء بعض ثواب العمل للميت كأن يجعل نصف عمل تطوعي وفقه الله إليه لأبيه أو أمه مثلًا. وختم أ.د.الفريح الكتاب بحشد أقوال للإمام أحمد وفيها آراء لربما يتعجب البعض من نسبتها لإمام أهل السنة والجماعة وشيخ الحنابلة الأكبر، بسبب القصور في البحث، والعجلة في الحكم، والغرق في دوامة التعميم، والانسياق مع أقوال بلهاء من قوم لا تبرأ بمثلهم الذمة ولو في الشهادة على شروق الشمس صباحًا من الشرق!

إن هذه المسألة كما كتب على الغلاف الأخير للكتاب من المهمات حتى أدخلها بعض العلماء في كتب العقائد؛ فهي فقهية عقدية، يحتاج إليها الخاصة والعامة، فليس منا إلّا وله عزيز تحت التراب يود أن يحسن إليه، ومن أعظم ما يهدى للميت الدعاء، ثم أن يهدى له ثواب عمل صالح أو بعضه. والخلاصة يا أيها الحي والغاية الكبرى من عرض الكتاب هي أن تتعجل بفعل الصالحات لنفسك، وتحرص على جعلها من الباقيات الخالدات بعدك، وأن توصي خلفك بها وبك، وألّا تنسى أمواتك من ثواب الأعمال المشروعة كما سبق بيانها بتفصيل في هذا الكتاب المختصر اليسير على من شاء العودة عليه، والله يرحمنا وأمواتنا، ويتقبل منا ومنهم.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّافالرياض

 ahmalassaf@

السبت 29 من شهرِ رمضان المبارك عام 1443

30 من شهر إبريل عام 2022م

Please follow and like us:

One Comment

  1. كل عام وانتم بخير. لكاتب المدونة وقراءها الاعزاء ولكافة المسلمين في جميع انحاءالعالم .تقبل الله منا ومنكم صالح الاعمال .
    رحم الله والديك . وجعل ماتكب من مقالات نافعة وهادفة في ميزا ن حسناتك وحسنات والد يك. وانت تذكر القارئ {فذكر ان نفعت الذكر} وتشجعه على عمل الصالحات الخالدات لانفسهم بعد الوفاة . والله العلي القدير لاينسى عمل الصالحات لعباده المومنين وانما يحفظه لااولادهم او لربما لااحفادهم واكبر دليل على ذلك :باقامة الجدار الذي يريد ان ينقض فاقامه بدون اجر الاية 77 من سورة الكهف .لاان الجدار فكان لغلامين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان ابوهما صالحا فاراد ربك ان يبلغا اشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك . والله شهيد على قولي فلقد كانت امي رحمها تعمل الخيرات من اجل اولادها وهذا مالمسته من وقوف الناس بجانبي في تنقلي وترحالي وهذا الذي شجعني على الاقتداء بها رحمها الله . اعمل الخير ليجنيه ابنائي
    اخت لكم في الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)