سياسة واقتصاد سير وأعلام

ميتران: سياسي لم يسعفه التاريخ!

Print Friendly, PDF & Email

ميتران: سياسي لم يسعفه التاريخ!

يُعدُّ الرئيس الفرنسي “فرانسوا ميتران” (1916-1996م) من أهم زعماء فرنسا الحديثة، وهو أديب ومثقف مغرم بالتاريخ قراءة واستقصاء، وبالبلدان معرفة وزيارة، ويبدو أنه قرأ في مرحلة متأخرة أحوال الزعامات في بلده فأطلق صرخته التي لا تخلو من مبالغة وإن كانت مبطنة بالتحذير إذ قال: لن يكون بعدي رؤساء يحكمون فرنسا، بل مجرد رجال مال وحسابات! ولا يخفى أن تداخل المال مع السياسة أمر بالغ الخطورة ما لم تديره منهجية عمرية.

والتاريخ علم ضروري لأيّ سياسي مع قسيمه علم البلدان، وتكتمل عظمة الزعيم بقراءته في علم الاجتماع، وفن الحكم، وفقه السياسة الشرعية إن كان مسلمًا، ومع افتتان “ميتران” بالتاريخ إلّا إنه أخطأ في تقدير المواقف أكثر من مرة، ولم يوفق لسلوك المسار الصحيح، والغلط أمر طبعي بيد أنه من الخبير العارف شديد الوقع، وإن خففّ من آثاره أن الغرب أمة سريعة الإفاقة حسب وصف عمرو بن العاص رضي الله عنه للروم، ومجال الاعتراض السلمي لديها رحب ما دام في إطار مصالحها.

بعد أن تخرج ميتران في تخصص السياسة، شارك مع بلاده في الحرب العالمية الثانية التي اعتقل على إثرها مدّة قصيرة، ثمّ صار وزيرًا عدّة مرات قبل أن يصل إلى سدة الرئاسة مرتين متعاقبتين، لكنّ سرطان البروستات ومنافسة الحزب اليميني الشرسة تعاضدا على حرمانه من الدورة الرئاسية الثالثة، وله إبان رئاسته إنجازات خالفت مواقفه المتصلبة السابقة مثل إلغائه عقوبة الإعدام التي أصر على تنفيذها حينما كان وزيرًا للعدل، وإليه ينسب تعيين أول رئيسة للوزراء، وسهّل على الشواذ تحقيق مطالبهم مع أنه مولع بالنساء غير مشتهر بالشذوذ، وله إسهامات اقتصادية ونظامية تحفل بها سيرته وما كتب عنه.

لكنه مع تراكم خبراته، وثقافته التاريخية والسياسية والأدبية الواسعة، لم يصب في عدة مواقف، فلم يقرأ الانهيار المؤكد للاتحاد السوفياتي، وكان أول زعيم يدخل الكرملين في عهد “غورباتشيوف”، وأول رئيس يستقبل “غوربي” في زيارة خارجية، ومنحه التزكية عند الحلفاء في النيتو خاصة لدى البيت الأبيض، وتوقع منه ما يفوق قدراته بسبب ترهل بلاده المنهكة اقتصاديًا، ثمّ أدان الانقلاب على “غورباتشيوف” بعد خمس عشرة ساعة من وقوعه؛ ولم يكتف بتأخر تعليقه على هذا الحدث الكبير بل شرح سبب الانقلاب، والشرح في هذا السياق أشبه بالبحث عن عذر أو مسوغ، وسرّعت تلك الحركة الانقلابية الفاشلة بواقع جديد لم يحسب له ميتران حسابًا، وخرج من الحلبة نهائيًا “ميخائيل غورباتشيوف” والانقلابيون.

ومن تبعات أخطاء الحساب السياسي، أن باريس استقبلت في الثلث الأول من عام (1991م) “بوريس يلتسن” المعارض الرئيسي لغورباتشيوف، ولاحظ المراقبون أن الاستقبال الفرنسي الرسمي كان استقبالًا باهتًا فيه إهانات، وفظاظة، ويخلو من الحرارة أو الحماسة، وطبعًا فميتران هو بطل هذا الإهمال لرجل غدا بعد شهور الرئيس المنتخب لروسيا الوريث الأكبر للاتحاد السوفياتي الزائل، وخليفته على مقعده في مجلس الأمن، فاضطرت الدبلوماسية الفرنسية لتراجعات متوالية صيرها كمن فقد البوصلة؛ فراغ ذات اليمين وذات الشمال في حركات تبدو بهلوانية.

كما وقف ميتران بصلابة ضد إعادة توحيد ألمانيا، وقرر بأن محورًا فرنسيًا بريطانيًا روسيًا سيتكون إذا توحدت ألمانيا، وشجع غورباتشيوف على مضاعفة العوائق أمام فكرة إعادة توحيد ألمانيا، وعرض على ألمانيا الشرقية توقيع خمس اتفاقيات ثقافية وغايتها تعطيل مشروع الوحدة، ثمّ انهار سور برلين، واتحدت ألمانيا بعد انقسام، ونافست غريمها التاريخي على زعامة القارة، ولربما أن شبح “هتلر” أقض مضجع الرئيس الفرنسي خلال العقد الأخير من الألفية الثانية، ولو أدرك بدايات الألفية الجديدة لكرر ما اشتهر عنه بأن الحرب هي سمة القرن الحادي والعشرين!

كذلك اعترض ميتران على توسيع العضوية في الاتحاد الأوروبي مطالبًا بتشديد شروط الانتساب إليه فأحبط آمال دول كثيرة، وسعى لنشر أفكاره الاشتراكية في بلدان أوروبا الشرقية دون أن يقرأ حقيقة واقعها، فانتكست جولاته وآلت إلى الفشل رسميًا وشعبيًا؛ حتى سخر منه ومنها طلاب الجامعات والمثقفون الذين فاض تذمرهم من شمولية النظم السابقة، ومن جميع الأفكار المرتبطة بالشيوعية ولو كانت في صورة اشتراكية حقوقية إنسانية كتلك التي لم يفلح ميتران في تسويقها عليهم.

أما نظرته لأمتنا فمنطلقة من ثقافته المشبعة بإرث الحملات الصليبية، ولأجل ذلك عارض استقلال الجزائر، وحفظ عنه قوله: إذا نجح الأصوليون في حكم الجزائر فسوف أتدخل عسكريًا كما تدخل “بوش” في بنما، ويبدو أن هلعه حال دون أن يصبح الرئيس الأديب مثل مواطنيه الكاتب الأديب “إيميل زولا”، والكاتب الصحفي “إيدوي بلينيل”، حين انتصر كلاهما للعدل وحقوق الإنسان، وبين الكاتبين مئة عام قضى ميتران نصفها في بحر السياسة والحكم دون أن يتسامى مثلهما، ولو فعل لخلد موقفه في يوم لا محالة آت تستعيد فيه أمة الإسلام ما كان يخشاه الفرنسي الاشتراكي.

ومن الطريف ما قرأته عن غرامياته النسائية الكثيرة؛ لدرجة أن زوجته تصالحت مع وضعه المحرج لأمثالها وغضت الطرف عن تصابيه، ثمّ تابع الإعلام بشغف هذه العلاقات وما نجم عنها من أطفال، وتعجب منهم ميتران متسائلًا: ما علاقة الناس بحياتي الشخصية؟! وبعد وفاته حضرت زوجته وعشيقاته وأبناؤه منهن مراسم دفنه، ثمّ كتبت زوجته كتابًا أشبه بالمذكرات سردت فيه أخبار زوجها ومنها اصطحابه للجميلات في سفراته الرسمية حتى أن المناضل كاسترو خضع لسحر إحداهن، أما سيرة الرئيس العاشق فأصدرتها عشيقته التي تواصل معها عبر مئات الرسائل. ومن مواقفه النسوية أن شبّه عيون رئيسة وزراء بريطانيا “مارجريت تاتشر” بعيون الإمبراطور الروماني “كاليغولا”، ووصف فمها بأنه يشبه فم المغنية الأمريكية “مارلين مونرو”.

ومما يذكر أنه بعد فوزه بالرئاسة في انتخابات عام (1981م)، وإقصائه منافسه “جيسكار ديستان”، توجست دول الخليج وبعض الدول العربية من هذا الفوز؛ لأن ميتران أسرف في الوعود لصالح إسرائيل وأمنها، بينما أظهر الرئيس المنتهية ولايته شيئًا من الاعتدال، كما خشي البعض من مفاهيمه الاشتراكية واليسارية، ومع ذلك سارت العلاقات معه كما كانت مع أسلافه بفضل صفقات السلاح وغيرها، ومن الطريف ما ذكره د.غازي القصيبي أن ميتران جاء زائرًا إلى الطائف في صيف عام (1981م)، فاقترح الأمير ماجد أن يكون الوزير المرافق مع ميتران طوله متران؛ فكان الوزير القصيبي هو رفيقه، وكتب عنه في كتابه الجميل الوزير المرافق، وذكر أن زيارته فاترة إلى أن رأى الدرعية؛ فدبت فيه الحياة حتى شارك في العرضة.

هذه إلمامة سريعة ليس القصد منها التأريخ لميتران، وإنما الإشارة إلى أهمية التوفيق الرباني، فمهما اجتهد المرء في تكميل نفسه، وأخذ الاحتياطات، وإكمال الاستعداد، مع وجود المحل القابل للتطوير والإنجاز، والبيئة المعينة على النجاح، والأطراف المحتضنة والمعينة، فلن يظفر بمراده إلّا بعون من الله، ونور منه سبحانه على بصيرة وسداد، فالله العلي الأعلى هو الذي يكتب لمن أراد الفوز ورشاد المساعي، ويصيب من يشاء بالخذلان والخيبة، ولا مكان بعد ذلك لتظاهر الإنس والجن وتعاونهم، أو لحسابات الربح والخسارة من منطق بشري خالص.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الخميس 19 من شهرِ شوال عام 1441

11 من شهر يونيو عام 2020م  

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)