إدارة وتربية

فلتات من لسان توأمي!

Print Friendly, PDF & Email

فلتات من لسان توأمي!

يبدو أنّ عنفوان الصّداقة أشدّ ما يكون في مرحلتي الطّفولة والمراهقة، فالطّفل مقبل على الحياة دون خبرة، ويريد تجميع أكبر قدر ممّا وممّن حوله، والمراهق متأفّف من محيطه خاصّة الأسري، فتضيق عينه عن قبول جلّ النّاس إلّا أترابه الذين يراهم أقرب له من والديه، وأصوب في الرّأي مع ضحالة تجاربهم في الغالب.

ومع ذلك فالصّداقة الحقيقيّة ضرورة، ويحتاج المرء وقتًا ومواقف كي يطلق على فلان من البشر أنّه صديقه؛ فثمّت فرق كبير بين المعرفة العابرة أو تلك التي تستلزمها أحوال معينة من عمل أو جوار أو سفر، وبين الصّداقة الحميمة إحدى نعم الحياة الدّنيا، ولذلك فهي ذات ميثاق أخلاقي نبيل متعارف عليه أساسه الصّدق، والمحبّة، والنّفع، والإعذار، وانتفاء الأغراض المشبوهة التي تؤول إلى نهب عرض أو مال أو تسلّق لمصالح ضيّقة.

وهاهنا قصّة أسوقها لعلّها أن تفيد المربين من آباء ومعلّمين، وتنفع أبناءنا وأجيالنا المقبلة على الحياة؛ فمن وسائل التّربية سوق القصص، ومن أفضل طرق بثّ الأفكار تضمينها داخل أحداث قصّة أو رواية؛ ولأجل ذلك أضحت فنون السّرد مهمّة ومطلوبة، ومن الخطأ وسوء التّقدير إهمالها مع تأثيرها الواسع، ورواجها العريض.

لي زميل يقارب اسمه الأوّل اسمي، درس معي في المرحلتين الابتدائيّة والثّانوية، وكان مقرّبًا منّي، ثمّ استوثقت علاقتنا مع الأيّام، وكنت أعدّه صديقي، وأنزلته من نفسي مكانة عالية، وكثيرًا ما تخادمنا فيما يخصّ المدرسة، أو تبادلنا الآراء والأخبار، ولم يكن غريبًا تقارب أماكن جلوسنا، وكثرة ترافقنا، ولا أظلمه فهو لطيف المعشر، حلو الحديث، جميل الخط، من أسرة كريمة، وليس بيننا قرابة أو نسب.

وقبل أن ننهي المرحلة الثّانويّة، حدث لي معه موقفان عجيبان، ومصدر العجب أنّ التّعاون بيننا وثيق، والألفة الظّاهرة سائدة، والمحبّة الأخويّة واضحة، وليس بينه وبيني تنافس دراسي مباشر، فترتيبه دائمًا يقع بين السّادس والعاشر، وكنت أراوح عند المراتب الأولى، وليس له مشاركات خارج الصّف ينازعني فيها بحكم مشاركاتي الكثيرة.

ففي ذات يوم تخلّف معلّم مادة أظنها التّاريخ؛ فقالوا لنا اخرجوا للملعب، وهي من ألذّ ما يسمع الطّلاب من أوامر، فذهبنا دون أن يكون معنا أحذية رياضيّة، وانقسمنا لفريقين كي نلعب كرة القدم على ملعب كرة السّلة، بينما فضّل البعض الفرجة ومنهم زميلي هذا؛ فلا إرب له بالرّياضة ولا اهتمام سواء في الممارسة أو التّشجيع.

وكنتُ مثل باقي الّلاعبين معي أتألم من وقع حرارة الشّمس على أقدامي، ويظهر عليّ وعلى غيري أثر الانزعاج حتى لو لهونا بالكرة ومتابعتها، ومع ذلك أكملنا الّلعب صابرين على لظى الرّمضاء ووخز جمرها، وبعد انتهاء المباراة، جاء زميلي وأنطقه الله بكلمة دونما مناسبة، فوقعت عليّ كالصّاعقة لمّا قال: هل تصدّق أنّي سررتُ جدّاً وأنا أراك متوجعًا من حرارة الشّمس الّلاهبة!

ثمّ حدث الموقف الآخر بعد أيّام قليلة ليكشف لي جانبًا من الواقع الذي خفي عليّ، وللمرّة الثّانية أنطقه الله دون أن يحسب مواقع كلماته حين أخبرني أنّ أخاه- وهو يكبرنا بعشر سنوات- طلب منه أن يفعل كذا وكذا حتى يغدو أفضل منّي في المدرسة، وأردف: وافق والدي ووالدتي على مقترح أخي وساندوه! علمًا أنّ والده الهرم يقدّرني كثيرًا مع شدّته على أولاده بطريقة يصعب تفسيرها أحيانًا.

أيقنت بعد ذلك أنّ الغيرة أكلت قلبه حتى أصبحتُ موضوعًا أسريًا يتناقشون به ويتداولونه، وأدركت لماذا فرح بإيذاء حرارة الشّمس لباطن أقدامي، وفهمت أشياء كثيرة كنت حين وقوعها لا أعيرها اهتمامًا، ووددتُ لو أخبرت معلّم الرّياضيّات-وهي مادّة اشترك مع الزّميل في حبّها- بأنّ زميلي الذي وصفه كثيرًا بتوأمي يبغضني دونما جناية اقترفتها فيما أعلم، وإنّما هو الحسد لا غير.

وبعد هذين الموقفين أسقطته من حساباتي تمامًا دون أن أشعره أو أسبّب له أذى، ولا حكمة من إخباره بقراري، وجلّ ماهناك تباعدي عنه، وتقديم الخدمة له إذا طلب شيئًا أستطيعه أسوة بباقي الزّملاء؛ لكن دون أن يكون له موضع فريد لديّ، وهي عمليّة صعبة لكنها ضروريّة مثل فصل التّوائم.

كما استرجعت ماكنّا نسمعه من الوالد رحمه الله، ومن الوالدة أبقاها الله على عافية وطاعة، ومن أصفياء المعلّمين بما معناه أنّ الصّداقة ليست كلمة أو دعوى، بل أخلاق وأحاسيس تثبتها المواقف والتّضحيات، وهي عملة نادرة من وجدها كان محظوظًا؛ لأنّها من مباهج الحياة خصوصًا مع تقدّم العمر، وصلاح الصّديق ونصحه، وأيقنت أنّ خبرة الكبار كنز نفرّط فيه بسبب نزق الشّباب.

ثمّ انقطعت علاقتي بالرّجل فلا أدري أين هو الآن، ولا أعلم من خبره شيئًا، ومن الموافقات الطّريفة أنّ زميلًا لي أضطّر للانتظار في إدارة حكوميّة، وبجواره زميلي القديم، ومن طبيعة الانتظار خلق فرصة للحوار أحيانًا، وبعد استغراقهما في الحديث عرفا أنّي قاسم مشترك بينهما؛ فبعث القديم سلامًا لي مع الجديد الذي نُعت هو الآخر ذات يوم بتوأمي!

ومن فوائد هذه الرّواية مراقبة فلتات ألسنة الآخرين؛ فالألسنة مغراف القلوب المعبّر عمّا فيها دون إفراط في سوء الظّن، وأهميّة ضبط منطوقنا حتى لا يُفهم بطريقة خاطئة، ومنها التّحديث بنعم الله علينا التي يراها الآخرون ونغفل عنها؛ وربّما نقع في خانة الإنسان الكنود لألاء الله وأفضاله ويالها من معصية، ويدخل في الفوائد الثّقة بتقدير الله سبحانه وخيرته لعباده، فعند الله العوض من كلّ مفقود، وآخرها أنّ الابتعاد وترك مسافات بعيدة مع بعض النّاس قد يبقي على الوداد؛ فربّ بُعد أورث شوقًا ومحبّة.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الأحد 20 من شهرِ شوال عام 1440

23 من شهر يونيو عام 2019م 

 

Please follow and like us:

One Comment

  1. بسم الله الرحمن الرحيم الكاتب الفاضل
    مقال يذكرنا بنعم الله العلي القدير. وبالاخص نعمة الايمان التي يتمنى كل مسلم ان يمن الله العلي القديرعليه بها ولايحرمه منها .ومن اذكار الصباح والمساء . اللهم مااصبح بي من نعمة او باحد من خلقك فمنك وحدك لاشريك. فلك الحمد ولك الشكر . يكون قد ادى شكر يومه وفي المساء نفس الدعاء اللهم ما امسى. . . . يكون قد ادى شكر ليلته . . اللهم انعم على المسلمين جميعا اينما كانوا وللقراء بنعمك وفضلك وجودك وعطاؤك بكل مايتمنونه في دنياهم واخرتهم . ان طول العمر يحقق الاماني والانجازات التي كان يتمناها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)