في التاريخ وفي تاريخنا، في المجتمعات وفي مجتمعنا، أفراد أفذاذ؛ هم في المجالس سادة، وفي العلوم والآداب لديهم مشاركة ومادة، وفي الجيوش قادة، وفي الإدارة أصحاب عزم وإرادة. من هؤلاء الأمير خالد بن أحمد بن محمد بن أحمد السديري (1335-1399=1916-1978م) -رحمه الله-، الذي ينتسب لإحدى أهم الأسر السعودية، ومن أشهرها على مستوى الجزيرة العربية؛ ذلك أن أسرته العريقة البدرانية الدوسرية لها تاريخ إمارة في بلدتهم الغاط وفي غيرها، ولها سجل في باب الولاء، ومشاركات عسكرية جابت بها أرجاء الجزيرة العربية خلال قرنين تحت راية الدولة السعودية ومنهجها في التوحيد والوحدة.
وقد استعمل الملك عبدالعزيز -رحمه الله- منهم بضعة عشر رجلًا في أعمال الدولة المدنية والعسكرية خلال زمن متقارب مما يشير لمكانة الأسرة عند بيت الحكم، ويصف مدى القرب بينهما، وتلا الأجيال الأولى منهم أجيال أخرى في الإدارة والدبلوماسية والشورى والوزارة والعسكرية وغيرها. كذلك أصهر إليهم الملك عبدالعزيز -وهم أخواله- ثلاث مرات، وأنجب ثلاثة عشر ابنًا وعددًا من البنات كلهم ينادون السدارى بالخؤولة. بل إن الإمام عبدالرحمن الفيصل، وابنيه، وعددًا من أحفاده، قد أصبحوا عدلاء بالزواج من بنات الأمير أحمد المحمد السديري، وهذه موافقة نادرة في ثلاثة أجيال من أسرة واحدة -غفر الله للجميع ورحمهم-.
لذا ليس بغريب أن يمضي خالد الأحمد السديري في مسار أسرته وطريقها، فشارك مبكرًا في معارك مهمة، لإكمال مشروع التوحيد، ووأد بعض ما قد يستفحل خطره إذا ترك بلا معالجة. ثمّ عمل في الإدارة المحلية مساعدًا أو مستقلًا، وشملت الأماكن التي أسندت إليه إمارتها مناطق حدودية، أو حديثة، أو تعمرها قبائل، أو تحتاج لضبط إداري واحتواء، وهذه الخصائص تحتاج إلى أمير يجمع أكثر من صفة في عقله وعلمه وإدارته وقلبه وجوارحه، وهو ما توافر في أبي فهد حتى غدا منذ أول شبابه موضع الثقة والأهلية والتمكين من الملك عبدالعزيز، وهو الزعيم الذي أعطاه الله مواهب منها دقة وزن الناس، وتحديد مكامن التميز لديهم، وحسن استخدامهم.
كما أصبح الأمير خالد وزيرًا للزراعة والمياه (1375-1380) خلفًا لأخيه الأمير عبدالعزيز الذي توفي بعد أقل من شهر على توزيره، وبذلك يصبح خالد الأحمد أول وزير من غير الأسرة الملكية يخلف أخاه في منصبه الوزاري، وأول وزير يحل مكان أخيه في عضوية مجلس الوزراء، وهو واحد من بضعة عشر وزيرًا جمعوا بين إمارة المناطق والوزارة. وبعد أزيد من ربع قرن صار نجله الأستاذ تركي الخالد السديري وزير دولة مع احتفاظه برئاسة ديوان الخدمة المدنية، وعليه أصبح الأمير خالد ثاني وزير من غير آل سعود يسمى ابنه وزيرًا وعضوًا في المجلس بعده، والأول هو الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن حسن آل الشيخ -رحمه الله-، ولا ثالث لهما حتى الآن.
لم يقف الأمير خالد عند حدود المنصب ولوازمه المجهدة، بل كانت له مشاركات في العلم والأدب والشعر، إضافة إلى اهتمام لافت بالبَّر والصيد وركوب الخيل والنخيل، وتظهر هذه الأمور ساطعة في لقائه التلفزيوني مع د.عبدالرحمن الشبيلي -رحمه الله-، وربما أنه لقاء فريد لا ثاني له، علمًا أن حب الأدب والبر والنخل قواسم مشتركة تسري في أمشاج طبقات متعاقبة من “السدارى” حتى وهم شباب عصريون يستخدمون الذكاء الاصطناعي، وما أكمل العراقة وأهلها. وقد تضافرت هذه المشاركة من الأمير خالد في الشأن الثقافي مع خدمته للدولة حكومة ومجتمعًا، في تآزر جميل لا يستغرب مثلما سيتبين.
من ذلك أنه حينما وافى الموسم الميمون عام (1367=1948م)، واكتشف أن ساكن إحدى الخيام المجاورة له في مشعر منى، عالم نحرير في التفسير والفقه واللغة والأدب، بادر لعرض فكرة استقطابه على الملك عبدالعزيز، فلم يتوان الملك المؤسس عن ضم هذا العالم الجهبذ إلى بلاده ومواطنيها، وسيكتب التاريخ أن تفسير أضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي (1325-1393=1907-1974م) -رحمه الله-، وكتبه الأخرى المتينة المتقنة في الأصول والمنطق، تنسب لعالم عاش عقودًا من عمره في السعودية التي درّس في معاهدها ومساجدها، وأصبح عضوًا في أول تكوين لهيئة كبار علمائها، ثمّ توفي ودفن فيها، وهذا المغنم العلمي نفيس للغاية، فهو الذي يبقى الثناء عليه في صحف الدنيا، وفي صحف الآخرة، مع عظيم الثواب والأجر، وفيه دلالة على نباهة خالد الأحمد، وصواب فراسته، وصدق نصحه للبلاد وولاتها وأهلها.
كذلك مما حفظ عن الأمير خالد تشجيعه للعلم ونشره، ومن هذا الباب مساندته للشيخ عبدالله القرعاوي (1315-1388=1898-1968م)-رحمه الله- في فتح المدارس ونشر العقيدة الخالية من الشوائب في عدة مناطق حتى انتشر خيرها فيما يتجاور مع البلاد جنوبًا. ومن بعد نظر السديري أنه قدّم الأستاذ علي بن حسين بن مسلّم (1359-1425=1940-2004م) للملك فهد -رحمهم الله- كي يستفاد من ابن مسلم فيما هو أبعد من شؤون إمارة نجران، وقد ترقى ابن مسلم في مناصب عالية، ومثّل معاليه الحكومة في لجان ومهمات تختص بمواقع له بها معرفة عميقة أو صلة وثيقة.
ولا مناص من العودة للشعر، ففوق حفظ الأمير لعيون الشعر العربي والشعبي، ووصوله لآراء واجتهادات فيهما، وكيفية المزاوجة بينهما، وانتقال المعاني من شاعر لآخر، سعى الأمير في جلب منافع مادية ومعنوية لشعراء وأدباء، وهذه الخلة الحميدة ضرورية للإبقاء على مكارم أهل العلم والأدب، وصونهم عن ذل الحاجة وقهرها. من هذا الباب أنه توسط في إتمام “عشق” الشاعر نمر بن صنت العتيبي (توفي عام 1420=1999م) -رحمه الله- حتى تزوج من محبوبته في واقعة معروفة عالج بها الأمير المغيث “فلوج كبد” شاعر مدنف مستهام، وجمع الشاعر المحب مع خليله بعد أن كاد الأمر أن يؤول إلى محال. وللأمير مجالس نافعة أينما استقر، فيها أحاديث وأسمار وأشعار، وعقب رحيله جمع أبناؤه شعره في ديوان عنوانه: “قصائد من الوجدان”.
لقد كان الأمير خالد الأحمد السديري رجل دولة خبير بالعمل وإدارته، وبالبشر وخصالهم وطبائعهم، ضليع بالشعر والتاريخ والآداب، مجتهد في تعليم نفسه بالقراءة، والمدارس والمدارسة، وعبر مجالسة الرجال والأخذ عنهم، ومن ذلك إفادته من الفهم القانوني عند السياسي العراقي رشيد عالي الكيلاني (1892-1965م)، ومن الحذق اللغوي بالعربية لدى الطبيب السوري الحمصي د.عبدالعليم الأتاسي (نال شهادة الطب عام 1938م)، وقبل ذلك درس عند بعض علماء آل الشيخ وعلماء القصيم، هذا غير ما اقتبسه من والده وأسرته، ومن التواصل الدائم مع ملوك المملكة وأمرائها.
وللأمير خالد أياد بيض مع فقراء، وأيتام، ومكسورين، قليل منها معروف، وكثيرها مطوي، والله يحب المحسنين الذين يجبرون العثرات، ويجتهدون سرًا بالهبات والنجدات. وهو منصف حتى في الحديث عمن يقعون في دوائر الخصومة، وهذا نبل رفيع لا يستبعد من معدنه، بل إن هذه الخصومة لم تمنعه من الحوار معهم والاستماع لهم وهم أسارى لديه، وليت أن الأمير الذي كان يهوى العيش في الخيام، ويديم الكتابة والقراءة، ويكثر التأمل وتقليب أوجه النظر، ويتأنى قبل إبداء الرأي، وليته جمع أوراقه وتدويناته، وسطر آراءه ومروياته، ونشرها قبل مرضه ووفاته، لكن أمر الله نافذ وسابق.
هذه الوفاة التي وقعت في مستهل السنة الهجرية (1399) بعد معاناة قديمة مع مرض رئوي، علمًا أنه نقل إلى المستشفى في أمريكا، وتزامن مع ذلك مرض شقيقه الأمير الشاعر محمد الأحمد السديري (1333-1399=1915-1979م)، ووفاته عقب ذلك -رحمه الله-، ولم يعلم خالد بمرض محمد، ولعل هذا من رحمة الله به لعظم ماكان بينه وبينه إخوانه وأخواته من وشائج ومحبة وصلة. وعندما وصل من أمريكا إلى الرياض تقدم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله ورعاه- مستقبلي جثمان خاله الراحل، وبعد الصلاة على الأمير خالد دفن بالغاط بناء على وصيته التي تشهد بحبه لموئل الأسرة وموطنها، ولذلك سارع أولاده إلى إنشاء جائزة للتفوق العلمي تحمل اسمه في الغاط، كي تكون أحد عوامل بقاء اسم رجل تولى المسؤولية عن أكثر من إمارة، وحمل من دلائل النجابة والشهامة أكثر من أمارة.
الرياض- الثلاثاء غرة شهر ذي القعدة عام 1446
29 من شهر إبريل عام 2025م